كثيراً ما نطرح سؤال التحقّق والإنجاز في كل مرحلة من مراحل أعمارنا، ولدى كل مفترق طرق نسأل عن صوابيّة خياراتنا. في مقتبل العمر تعود بنا الذاكرة إلى أحلام الطفولة، نفحصها، وحين نكون "هنا" نرنو إلى "هناك"، ولمّا كنا "هناك" تهفو أنفسنا إلى "هنا"، وقد يكون أجمل من الأمكنة الرنوّ إليها والتلويح لها من بعيد، فهل هذا مشترك إنساني تتقاسمه البشريّة؟ غير أنّ ثمة مأزقيّة تطفو عندما تتنازعنا الأمكنة والأزمنة، فنجد أنفسنا عالقين بين انتماءين وهويّتين، ليرتسم السؤال الممضّ: من أنا؟ في هذه البقعة يشتغل الفيلم التسجيلي "دعاء.. عزيزة" (88 د، 2013) إنتاج المخرج المصري سعد هنداوي.
الفيلم متاح عبر فيميو، وإن كان إنتاجه يعود إلى سنوات مضت، فإنّ الأسئلة التي يطرحها، من خلال تجربة فتاتين تابعت مصيريهما الكاميرا بين فرنسا ومصر قرابة السبع سنوات، ما زالت قائمة، وبالإمكان إسقاطها على الكثير من المغتربات العربيّات؛ الاغتراب بوجهيه: داخل الوطن وخارجه. وليس سؤال الغربة ما يشكل القضيّة الوحيدة، بل إنها سلسلة أسئلة تتوالد، كمفهوم الوطن ومعنى الانتماء وحريّة المرأة في الاختيار، ومحدّدات هذا الخيار دون سواه، علاوة على ما هو مسكوت عنه يُلمح في الحوارات كمسألة الانتماء الديني.
"عايزة تمشي"
ثمة تقاطعات ضمن تعاكس الطريقين بين دعاء (درّة) عبد الرازق التي نشأت في باريس، وعزيزة واصف التي ترعرعت في مصر. الأولى (25 سنة) تريد ترك والديها في فرنسا لتعود إلى بلدها الأم مصر، بحثاً عن حبّ وعن جذور تجهلها، والثانية (30 سنة) اتخذت مساراً معاكساً من مصر إلى باريس، بحثاً عن ذات تظنّ أنّها متحقّقة في عالم يشبهها ويتناغم مع أفكارها.
ثمة مأزقيّة تطفو عندما تتنازعنا الأمكنة والأزمنة، فنجد أنفسنا عالقين بين انتماءين وهويّتين، ليرتسم السؤال الممضّ: من أنا؟ في هذه البقعة يشتغل الفيلم التسجيلي "دعاء... عزيزة" إنتاج المخرج المصري سعد هنداوي
ولعلّ المشهد الذي يعلق في ذهن المشاهد، مشهد مترو الأنفاق في باريس، تقلّ فيه عربتان الفتاتين كلّ منهما في اتجاه؛ ذلك في الدقيقة الأربعين (أي في منتصف الشريط)، حين التقيتا بعد حين من قرار المغادرة في العام 2005.
قبل عقد المقارنات لفهم مسوّغات كلّ من الفتاتين، سأقفز من طريق الكولاج (اللصق) – وهي التقنية الأبرز في تصوير المشاهد المتنقّلة بين الأمكنة في البلدين- إلى العامين 2010-2011، مباشرة لتبيّن مآل كلّ منهما، وما بقي من أحلام وتصورات. حقّقت دعاء حلمها في العمل التلفزيوني، وبأن غطّت مهرجان "كان" السينمائي، وهي ما زالت تقدم الأخبار باللغة الفرنسية في التلفزيون المصري، وعزيزة تقدم الأخبار باللغة العربية في قناة تلفزيونية فرنسية (فرانس 24).
تكتب دعاء في يوميّاتها بأنّ مصر أعطتها فرصة العمل في التلفزيون، لكنّها، وإن أعطتها الدفء بشمسها وناسها، وإن لمس سحرُها روحَها وهي حاملة عطر الشرق كما تصفها، تتعبها. وهي لم تمنحها النجاح العاطفي كمثيله المهني، بل إنّها تجد نفسها قد أخفقت عاطفيّاً؛ الحب هو ما كانت تسعى إليه –كما تفصح عزيزة- قبل التلفزيون. بالمقابل، فإنّ عزيزة، التي عملت مدّة في التلفزيون المصري، وجدت نفسها أن راتبها الشهري لا يكفي، والحب الذي انتظرته لم يأتِ، فاتخذت قرار المغادرة بغير أسف.
"وحشتك مصر؟".. "اشتقت إلى باريس؟"
بعد لقاء دعاء بعزيزة في باريس، وزيارة أسرتها بطبيعة الأمر، تأتي زيارة عزيزة لمصر ولوالديها. تُظهر إجابتها عن سؤال: "وحشتك مصر؟" موقفاً لا تبدّله الأشواق، وينمّ عن خيار مدرك صعوبات الحياة في الغربة؛ حيث تعرب عن اشتياقها لأهلها وأصحابها وليس للبلد. مع هذا الاعتراف نستعيد كلام والدتها المَجريّة عن لسان ابنتها، بأنّها قالت ذات يوم: "أجلس على الرصيف لكن بكرامتي". والدتها الأوروبيّة الرافضة فكرةَ عيش ابنتها في فرنسا بعيداً عنها، تعود لتؤكّد أنّ "عزيزة تحب بلدها، وبلدها لا تحبها"، بما يتوافق مع قناعة الوالد الذي يريد لابنته الأفضل، بأن "تشوف مستقبلها"؛ فهي تعمل بأجر لا يناسب طموحها.
فيلم "دعاء...عزيزة"، وإن كان إنتاجه يعود إلى سنوات مضت، فإنّ الأسئلة التي يطرحها، من خلال تجربة فتاتين تابعت مصيريهما الكاميرا بين فرنسا ومصر قرابة السبع سنوات، ما زالت قائمة
الفوارق تتكشف في المستوى العاطفي وفي مفهوم الانتماء، وإن تلاقت المصائر في مستوى الخيار المهني، والنجاح فيه تالياً. عزيزة لا تريد أن تكون فرنسيّة، ولا تكترث بالأمر، وتحدّد مفهومها للانتماء بأنّه يكون للمكان الذي ينهض بالطفولة في مراحلها الأولى. وفي هذا السياق، لطالما طُرح على دعاء سؤال الكرامة بأنّ الإنسان له قيمة وتقدير في بلد مثل فرنسا؛ فكيف تتركين كل ذلك وتقصدين مصر للعيش؟! هل هو الحب، الشمس أم العمل؟ بالطبع لا يقتصر الأمر على ذلك، وإن أفصحت عن نزوع وجداني للوطن غير مفسّر، فثمّة حكايات تريد أن تختزنها ذاكرتها وتوفّرها لجيل يأتي بعدها، تريد أن يكون لها قصّتها؛ وقصتها هنا في مصر.
لو كانت أفكاري تقليديّة...
ما تنبّه إليه المخرج هو أن يرينا الاختلاف بعين الآخر ومن خلال تصوّراته، وفي مثالنا تفسير موقع دعاء من وجهات نظر أصدقائها. إذ ترى عزيزة أنّ مشكلة صديقتها هي مشكلة هُوية؛ فهي لا تعرف القراءة والكتابة بالعربية، وفي الوقت عينه لا تجد نفسها فرنسية، أي أنها لا تنتمي إلى المكان، وهو تماماً ما أفضت به دعاء معربة عن خوفها من أن يسرقها الوقت، ولأنها لم تلقَ نفسها في أيّ من المكانين. غير أن أحد أقرباء العائلة (عادل) يشير إلى الذهنيّة المصريّة حيال زواج الفتاة، وتكوين أسرة وفق محدّدات مجتمعها وثقافته، لتبيّن لها إحدى صديقاتها الفرنسيّات أنّ المكوّنين الفرنسي والعربي قد شكّلا شخصيتها.
لم يكن الدافع لرحلة عزيزة إلا أزمة هويّة كذلك الأمر. وهي، وإن لم يكن لديها آمال كبيرة، لأنّها تبدو أكثر واقعيّة من دعاء كما تراهما صديقة مشتركة، فإنّ فكرها غير تقليدي، وتستعيد اعتراف والدها بأنه ربما يكون قد أخطأ في تربيتها على مبادئ لا تتيح لها العيش في مجتمع تقليدي، ووفق أنماط عيش وتفكير مقيّدين، ما لا يؤمن لها فرصة لكي تحقق سعادتها. هي حالة هروب في اتجاهين متعاكسين، لتجد كل من الفتاتين نفسها مصحّحة ما تظنه خطأ الأهل. دعاء من جهتها تحيل أزمتها إلى قرار والديها بمغادرة البلاد والعيش خارجاً.
بعد التجربة ليس كما قبلها، والمسافتان الزمنيّة والمكانيّة قد تبدّلان من القناعات وتجلوان المشاعر، أو تعدّلان في المواقف على أقل تقدير. هذه ركيزة في بنية الفيلم بأن يتتبع هذه المراحل: مع دعاء في مطار القاهرة، فباريس، ثم القاهرة بعد ست سنوات. وبالمثل مع عزيزة في باريس، فمصر، ومن ثم عودة إلى باريس، وما الدموع التي تصادفنا في بعض المشاهد إلا دليل على مرارة وخيبة في مكان ما.
كما الحمامة تدفع بزغاليلها للطيران
السؤال الجوهري الذي يعلق في سماء الشاشة الزرقاء للمشاهد، كفرخ حمام تعلّم الطيران للتو، فأصبح بإمكانه الاعتماد على نفسه ليجوب الأمداء، هو عن ثمن النجاح المهني والشهرة؛ ثمن أن تكون عظيماً بجهدك، في أن تتمرد على ذاتك لتحقّق ذاتك، وأن تختار الأقل خسارة بما ينسجم مع أشواقك. تقول دعاء بغصّة، إنّ الدنيا لا تعطينا كل شيء، لكن كان ينبغي لها أن تعيش التجربة بمراراتها وحلوها - تجربة أقلّ حريّة مما لو كانت في فرنسا - وأن تشهد ثورة يناير 2011، وأن تحلم مع آلاف الشبان والشابات بتغيير قاب قوسين.
عزيزة لم تترك مصر، بل لديها هدف معين؛ تجربة قد تطول كما كانت تتصوّر. لكنّها تزوجت من فرنسي وأنجبت ابنها الأوّل. قطفت فضيلة الغربة في ما أصاب مواقفها من تبدّل، ذلك في نظرتها إلى الإنسان والعادات والتقاليد. لقد تصالحت مع مصر؛ فما كان يزعجها في بلدها من إفراط عاطفي وتدخلات في حياة الفرد باتت تشتاق إليه في مجتمع تسوده الفرديّة والعزلة. في مغتربها اكتشفت أنّ لكل مجتمع كفايته من السيء والجيّد ومن العنصريّة؛ فالأمر يتعلّق بالإنسان مفرداً لا بإطلاق أحكام قيمة على مجتمع برمّته. وفي مجتمع غريب يتهم ذاتك الجماعيّة، يضعك في موقف المقاتل لدحض تهمة الإرهاب عن الإسلام على سبيل المثال، وإن كنت قبطيّاً، وفي موقع المعتزّ بتراث أجدادك أمام متحف لآثار المصريين القدماء في إحدى ساحات باريس.
ماذا فعلنا في تلك الأيّام؟
أجاب الفيلم من حيث لا يدري عن أسئلة مستلهمة من أغنية باتريك برويل "ميدان الرجال العظماء"، وقد أشارت إليها دعاء أمام بناء مدرستها حين ذكرت قصة الوعد بين تلاميذ صفّها لتحقيق دلالات الأغنية: كنا قد اتفقنا على أن نلتقي بعد عشر سنوات... وسنرى في الثلاثين من أعمارنا حين نسير في الممرات المفضية إلى ساحة الرجال العظماء... ما فعلناه في تلك السنوات... عندما نلتقي سنتبادل السؤال نفسه عمّا إذا أصبحنا من عظام الرجال.
هل تنبّأ سعد هنداوي (رئيس مهرجان الإسماعيليّة الدولي للأفلام التسجيليّة والقصيرة لدورة 2022) بمصائر مماثلة لبطلتي الفيلم، المذيعتين الشهيرتين؟ لا، بل جاءت المصادفات محاكية للخيال، وواقع حال كلّ من عزيزة ودعاء يرسّخ كلمات برويل: "لم أسبح بيسر والريح تدفعني، بل شهدت رياحاً وأعاصير. وبالطبع عرفت موجات ترفعني وأخرى تهبط بي". وقد ختم فيلمه بمقولة الشاعر الفرنسي فيكتور هوغو: "المصير لا يفتح باباً بدون أن يغلق آخر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...