من البديهي أن يعي المخرج مروان حامد أهمية السيناريو في صناعة فيلم سينمائي جيد وباقٍ أمام الزمن؛ فهذه الحرفة التي برع فيها والده، السيناريست الكبير وحيد حامد، الذي رحل مخلفاً وراءه إرثاً محفوراً في الذاكرة الجمعية المصرية، ومكانة لا يبلغها إلا القليل.
ومثلما تفتحت عيناه ومداركه منذ الصغر على حكايات الأب الثرية على الشاشة وخارجها، أراد أن يكون لأفلامه جاذبية خاصة بقصصها وشخوصها.
يرى مروان أن نجاح الفيلم يرتبط بالأساس بحكايته، وأن النجوم الكبار والإنتاج الضخم وغيرهما من العناصر الفنية ليسوا كافيين إذا لم يتعلق المشاهد بالحكاية ويحبها.
يقول في حوار له: "أميل إلى صناعة أفلام مقتبسة عن الأدب، لأن الرواية تكون قد اختُبرت بالفعل، ونعلم أنها ستحوز على الإعجاب".
في رصيد مروان حامد السينمائي أربعة أفلام عن أعمال أدبية، آخرها فيلم "كيرة والجن" المقتبس عن رواية "1919" لأحمد مراد.
يعد هذا التعاون الخامس بينهما في ثنائية ناجحة على المستوى الجماهيري، ومتفاوتة التقييم على المستوى النقدي، تحقق إيرادات عالية، تنعش الصناعة المتعثرة منذ فترة وتحمل بصمات إخراجية مميزة، خاصة مع فريق عمل تقني مخضرم، لكن دوماً ما توجد تحفظات على مستوى سرد الحكاية، تتباين من فيلم لآخر، وتبرز بوضوح في فيلمهما الأحدث.
بين الرواية والفيلم
في روايته "1919" يستحضر أحمد مراد مرحلة مهمة من تاريخ مصر، سبقه في تناولها أدباء كبار، منهم نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم.
يركز مهمته على إعادة اكتشاف شخصيات منسية، قدمت تضحيات كبرى في سبيل تحرير الوطن من المحتل الإنجليزي، ولم تنل الإنصاف أو التكريم.
تتداخل الوقائع مع الخيال لتسرد حكايات أبطال من المقاومة الشعبية جنباً إلى جنب مع رموز الثورة، وعلى رأسهم سعد زغلول، وتستعرض ما كان يجري في القصر الملكي، في شوارع البلد المشتعلة وعلى مائدة المفاوضات خارجياً.
تلتزم في صفحات من الرواية بتوثيق الاحتجاجات والمواقف السياسية، وتتحرر من هذا القيد في غالبية موضوعها.
ورغم الاختلاف على مستوى الرواية وعمق شخصياتها، وما آلت إليه مصائرهم، فإنها، كعادة روايات مراد، أُدرجت ضمن الأكثر مبيعاً، وصدر منها عدة طبعات في أشهر قليلة خلال عام 2014.
وبعد سنوات قليلة من نجاحها الجماهيري، جاء الدور عليها لتكون جزءاً من مشروع مروان حامد وأحمد مراد السينمائي.
تقرر من البداية أن يبتعد الفيلم عن الرواية، ويحمل كل منهما اسماً مستقلاً بذاته، إذ أصبح "كيرة والجن" فيلماً عن بطلين من أبطال المقاومة الشعبية المسلحة، وهما أحمد عبد الحي كيرة (كريم عبد العزيز) وعبد القادر شحاتة الجن (أحمد عز)، مستهدفاً بشكل عام عرض لمحات من معاناة الشعب البسيط، وكفاحه تحت وطأة الاستعمار. وقد استثنى من أحداثه شخصيات مهمة، مثل الزعيم سعد زغلول، وقائد الجهاز السري للثورة، وسكرتير حزب الوفد، عبد الرحمن فهمي، والملكة نازلي، كانت الرواية منحتهم أصواتاً في إطار رسمها لصورة عامة عما كان يجري في 1919، العام الاستثنائي بما سبقه وما تلاه.
يبدأ الفيلم بمشهد افتتاحي، يتسق مع معالجته المنحازة للمنسيين، إذ يصور حادثة دنشواي التي راح ضحيتها عدد من الفلاحين المصريين، وأججت مشاعر الغضب ضد المحتل عام 1906، بدلاً من البداية التاريخية التي تسردها الرواية عن هزيمة أحمد عرابي، ودخول القوات البريطانية عام 1882.
أجريت تعديلات على خلفيات الشخصيتين الرئيسيتين بما يتناسب مع حبكة الفيلم.
أجريت تعديلات على خلفيات الشخصيتين الرئيسيتين بما يتناسب مع حبكة الفيلم، ولكن ظلت سماتهما الأساسية كما قدمها النص الأدبي: كيرة الداهية المتزن، الذي يعيش حياتين متناقضتين؛ في واحدة، يصادق الإنجليز ويتقرب منهم بفضل لغته الممتازة وخفة ظله، وفي الأخرى ثائر يقود المقاومة المسلحة، وينفذ عمليات خطرة انتقاماً لوالديه في دنشواي. بينما يبدو الجن فهلوياً بلا مبادئ، يعمل لصالح الإنجليز بلا غضاضة حتى يقتلوا أباه، وتقوده الظروف إلى الانضمام للمقاومة وتحول مساره للأبد.
بثّ مراد الروح في شخصيات بعينها، ونقلها من عالم الرواية إلى شاشة السينما، وإن غيّر في بعض تفاصيلها، وتصبح دولت فهمي (هند صبري) امرأة مسيحية إلى جانب كونها مُعلمة فدائية جاءت من الصعيد إلى القاهرة، وشاركت في الثورة، ونجيب الأهواني يتحول إلى إبراهيم الهلباوي (سيد رجب) كبير السن، الذي لم يثنه السجن عن الاستمرار مع المقاومة.
أضاف مراد أيضاً عدداً من الشخصيات الجديدة، تمثل بتنوعها أطياف الشعب ونسيجه الاجتماعي في ذلك الوقت، لكن معظمها نمطية وسطحية البناء، وكأن الهدف من وجودها التأكيد على مشاركة الجميع في ثورة 1919. فضلاً عن أن التعددية جاءت على طريقة تنوع الصوابية السياسية؛ لدينا على سبيل المثال: امرأة أرمنية، وشاب يهودي أبكم، ورجل مسن مسيحي.
شخصيات جديدة تمثل أطياف الشعب، ونسيجه الاجتماعي، معظمها نمطية، وسطحية، كأن الهدف من وجودها التأكيد على مشاركة الجميع في ثورة 1919
ومن بين الشخصيات الجديدة التي قدمها الفيلم، رجل القصر الداعم للمقاومة، حسن نشأت (إياد نصار) الذي يظهر كضيف شرف، ليكون بديلاً لشخصية عبد الرحمن فهمي المؤثرة في الرواية، في خيار يفصل تماماً بين المقاومة الشعبية ورجال الوفد، ويخلق انعزالاً إلى حد كبير بين هؤلاء المقاومين المسلحين وأهم حركة سياسية في البلاد.
وبوجه عام، فإن كثرة الشخصيات السطحية مع الاعتماد على إيقاع لاهث ومتلاحق للأحداث، صعّب التأثر بأي مصير مأساوي واجهته أحدها، خاصة عندما نعرف أن عدداً منهم لقي حتفه في مقطع قصير سريع قرب النهاية، يبدو كأنه عبء على الفيلم نفسه. في المقابل، ظهر اهتمام بتصوير وقائع لمذابح قام بها الإنجليز، مثل مذبحة ميت القرشي، بلا أي سياق درامي واضح، ودون الربط بينها وبين الشخصيات الرئيسية، وإنما لاستجداء العواطف وإثارة الشفقة من خارج القصة وشخوصها.
تنويه: "الفقرات التالية تكشف عن بعض أحداث الفيلم، وشخصياته".
أيهما أهم: الحكاية أم المعارك؟
سعى صناع "كيرة والجن" لتقديم فيلم ملحمي عن البطولة الشعبية بميزانية ضخمة تخطت 100 مليون جنيه، تعددت أوجه إنفاقها على تصميم إنتاج الحقبة الزمنية، أجور النجوم، فريق العمل وخسائر توقف التصوير بسبب وباء كورونا.
بالتأكيد نلمس اهتماماً بتقديم ديكورات وملابس وإكسسوارات تناسب المرحلة التاريخية، وتصوير مشاهد حركة متماشية مع طبيعة الالتحامات الجسدية آنذاك، تتقرب فيها الكاميرا من الوجوه والأجسام لتذكرنا بأننا نشاهد عملاً عن قصص منسية بالأساس.
كذلك هناك إمتاع بصري يتجلى في المشاهد الليلية ذات الإضاءة الملاءمة للعصر، وتطويع للصورة لتعبر عن المخاطر التي يواجهها المقاومون، إذ نراهم في لقطات مختلفة، يسيرون في الممرات المظلمة المفضية إلى المخبأ السري، ويتواجدون داخل تكوينات ضيقة خانقة، لكن الفيلم لا يعبر عن هذه المآزق على مستوى السرد، وبمرور الأحداث يغرق بصرياً ودرامياً في معارك بطليه مع الإنجليز وشجارهما معاً من حين لآخر.
لا يتوقف السيناريو كثيراً عند لحظات الانكسار والاختبارات الصعبة، لا يتأمل الخوف الغريزي والتردد قبل المعارك الكبيرة، أو حتى ثقل الحزن والعزيمة عند خسارة فرد في المجموعة. كل هذه المشاعر، إن وجدت في الشريط السينمائي، تضيع سريعاً وسط استعراض المزيد من مشاهد الأكشن والمعارك التي ينجو منها البطلان في كل مرة، مهما كان حجم الأسلحة النارية والبيضاء المصوبة تجاههما، الأمر الذي يصل إلى حد الملل والضحك في آن واحد خلال المعركة الأخيرة.
وفي سبيل الحرص على تقديم أكبر قدر من المعارك المثيرة لجذب انتباه المشاهد على مدار 3 ساعات تقريباً، يلجأ صناع الفيلم إلى قفزات زمنية غير مبررة، مثل مرور عام بعد محاولة القتل الفاشلة للضابط الإنجليزي الذي يتربص بهم. لا نعرف ماذا حدث لهم خلال هذا العام، لا بالصورة ولا بالحوار، ولا نرى أي اختلاف في واقعهم عما كانوا عليه قبل هذه القفزة الزمنية. كل ما يهم هو التخطيط للعملية التالية والشخصية الجديدة المستهدفة.
يغيب المنطق الدرامي أيضاً عن بعض الدوافع والأحداث، أبرزها الدافع وراء خيانة الهلباوي في الفيلم؛ فهو شخص ذو ماضٍ مشرف مع المقاومة، يخاطر دوماً معهم حتى إن انتابته تخوفات من النتائج، لا يعني ذلك أنه مثالي، إذ يُقدم على القتل دون رحمة، ولا يرق قلبه للتوسلات، ولكن هل يخون؟ وإذا فعل أيكفي أن يكون ضعفه بسبب المال فقط؟! كان هذا القرار المفاجئ بحاجة إلى مزيد من التوضيح.
يأتي هذا على عكس الرواية التي تمنح الشخصية سبباً منطقياً يقودنا إلى التفكير في تساؤلات حول مكاسب الثورات والمنتفعين بها، إذ قضى الأهواني تسع سنوات في سجن طرة، وعندما خرج بعد تولي سعد زغلول الوزارة في 1924، توقع أن يحصل على وظيفة مرموقة، نظير تضحياته، ولكنه يفاجئنا بتوليه عملاً بسيطاً وحصوله على أجر زهيد، يحتج على تقسيم الغنائم بين القادة والسياسيين، ويعتبر أنه وغيره من الأبطال الحقيقيين لم ينالوا التقدير المناسب؛ لذلك، يقرر اللجوء إلى الإنجليز، ويعرض عليهم تسليم صديق عمره "كيرة" مقابل المال، وذلك بعد صدمته في رجال الثورة.
يحتج الأهواني في الرواية على تقسيم الغنائم بين القادة والسياسيين، ويقرر "خيانة" مصر باللجوء إلى الإنجليز، فهو وغيره من الأبطال الحقيقيين لم ينالوا التقدير المناسب، كل تلك الأسباب لم نرها في الفيلم، وكأن الخيانة بلا مبرر أو سبب واضح ومقنع
ربما بدت الخيانة في الحالتين بسبب الطمع، ولكنها في سياق النص الأدبي واضحة الأسباب، أما في الفيلم منزوع الجانب السياسي فجاءت مقحمة.
يقودنا اعتراف الهلباوي على رفاقه في الفيلم إلى الوقوف عند ذهاب دولت فهمي إلى عبد القادر شحاتة في القسم لتبرئته أثناء التحقيقات. نرى على الشاشة الهلباوي وهو يذكر أسماء أعضاء المقاومة، ومن ثم يتوجه الضابط الإنجليزي إلى مقهى ريش للقبض عليهم في مخبئهم السري. يصبح اسم دولت من بين الأسماء المعروفة لدى الضابط، فكيف لا يلقي القبض عليها عندما تكون بين يديه، وفي حال لم يكشف الهلباوي سوى عن هوية كيرة والجن، فبعد إقرارها بوجود علاقة بينها وبين عبد القادر ليس من المنطقي أن يتم تركها ترحل دون ممارسة أي ضغوطات عليها –مثلما جاء في الرواية- خصوصاً أنها مقربة من شخص خطير بالأساس.
قد يتغاضى البعض عن هذه الفجوات وغيرها عند مشاهدة الفيلم، خاصة مع وجود نجوم محبوبين، يقدمون مشاهد حركة كثيرة، بها قدر من الإثارة يتخللها لمحات من الكوميديا والرومانسية المعقدة بين مسيحية ومسلم وإنجليزية ومصري، ولكن مروان حامد، الذي يتحمل بكل تأكيد مسؤولية الفيلم بأكمله، كان لابد ألا يكتفي فقط بجاذبية الحكاية على الورق، ويهتم بطريقة معالجتها ومنطقها الدرامي على الشاشة، لأن هذا ما يحقق له نجاحاً، يتجاوز اللحظة الآنية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع