شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
المرة الوحيدة التي زرت فيها فلسطين، عثرت على جثة ضائعة منذ 26 عاماً...

المرة الوحيدة التي زرت فيها فلسطين، عثرت على جثة ضائعة منذ 26 عاماً...

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 4 يوليو 202204:29 م


علاقتي مع "الوطن" كانت دائماً علاقة مرتبكة، فلم أستطع التعامل معه كحبيب إطلاقاً، ولم أره رحباً ولو مرة واحدة طوال ستّة وعشرين عاماً. واقتصر مفهومه عندي على مساحة جغرافية لا تتجاوز 365 كم، وكنت دائماً في حالة شك بفكرة "فلسطين"، ذلك الوطن الراقد في الذاكرة الجمعية، المفتقد في ذاكرتي الفردية بشكل غريب.

قبل الخروج من قطاع غزّة، كان صعباً عليّ تصديق كل الصّور والفيديوهات التي يمكن رؤيتها حول شقّ الوطن الثاني، الذي يشمل الضفة الغربية والقدس وأراضي الـ 48. وتجلّت المدن الفلسطينية وسكانها كفكرة خيالية/ مستحيلة في قصصي التي كتبتها عن القدس ونابلس وطوباس وغيرها، ولكن، بعد أن جمعتني الغربة بثلاثة أشخاص من هذه المدن، شعرت بالارتباك، وتغيّر المفهوم عندي، فصرت أتساءل، هل أنا فلسطيني فعلاً أم غزّي أعيش حياةً وظروفاً مختلفة وأملك ثقافة مغايرة كجزء مبتور من جسد؟ كان الأمر أشبه بمحاولتي أن أصبح جسداً كاملاً ولو مرة واحدة. جسد مرتبك على نحو غريب.

الارتباك الأوّل: اللهجة ليست واحدة

لم تمدّ الدّكتورة رشا يدها لتسلّم عليّ، رغم أنّها سلّمت على صديقي. كانت تلك لحظة الارتباك الأولى التي شعرت بها في إسطنبول بعد مرور أسبوعين على وصولي إليها. حدث ذلك في مقهى متواضع ببرج ترامب. حينها، شعرت أنّي كائن منبوذ حقيقةً، وأدركت الهوّة التي تفصل دكتورة من نابلس تعيش الثقافة الفلسطينية كما كانت في سيرتها الأولى عن شخص مثلي ينتمي لمجتمع أصبح شبه أصولي. جلست الدكتورة قبالتي، عرّف صديقي عني وعنها قائلاً: الدكتورة رشا من نابلس. صديقي عامر من قطاع غزة، وكمان كاتب". فابتسمتْ ابتسامة مجاملة، وقابلتها بالمثل.

مرّت نصف ساعة وأنا صامت، لم أجد ما أتحدّث عنه. ثمّ في لحظة غفلة، قلت: "هل تعلمين يا دكتورة أنّ هذه المرة الأولى التي أقابل فيها شخصاً من الضّفة الغربية؟"، فاستغربت أشد استغراب، وابتسمت وتبعت ابتسامتها بكلمات لم أعد أتذكرها. قلت: "هل من الممكن أن تحدّثيني عن البلدة القديمة في نابلس يا دكتورة؟ ولماذا يعاني الاحتلال صعوبة في ملاحقة الفلسطينيين بداخلها؟"، فقالت: "أجمل مكان في نابلس هو البلدة القديمة"، ثم راحت تتحدث عن الأنفاق الموجودة أسفل البلدة، وتصف شوارعها الضيقة وجمالها.

هل أنا فلسطيني فعلاً أم غزّي أعيش حياة وظروفاً مختلفة وأملك ثقافة مغايرة كجزء مبتور من جسد؟ كان الأمر أشبه بمحاولتي أن أصبح جسداً كاملاً ولو مرة واحدة. جسد مرتبك على نحو غريب

في تلك اللحظة، كنت أبعد ما يكون عن المكان. كان عقلي يتجوّل للمرة الأولى في البلدة القديمة في نابلس، وشعرت باغتراب حقيقي عن مكان لم أعرفه من قبل.

ثمّ انفكّت عقدة اللقاء بعد ذلك، فأخذت الدّكتورة تتحدث عن اللهجات الفلسطينية لأهل القرى الفلسطينية، متحدثةً عن لهجة قرية سالم وقرية زعترة وغيرهما، والاختلاف في نطق الكلمات بين المدن والقرى في الضفة الغربية. يومها كانت المرّة الأولى التي أعرف فيها مصطلح "الكشكشة" التي يحوّل فيها الفلاحون الفلسطينيون وسكّان القرى حرف الكاف إلى "ش" معطّشة. حتى تصبح كلمة "كيف حالك" هكذا: تشيف حالك؟. ثمّ أبهرني كيف استطاعت تحويل حرف العين الساكنة إلى نون عندما قالت: أنط بدلاً من أعط. وهكذا حتّى وجدت نفسي أمام معجم جديد من الكلمات واللهجات التي لم أعرفها يوماً، والتي تكاد تكون قد اختفت من قطاع غزّة بسبب اختلاط البادية والقرية والمدينة معاً، حتى توحّدت اللهجات – بشكل كبير- وأصبح الاختلاف الملحوظ يتمثّل في من ينطقون القاف قافاً، ومن ينطقونها همزة.

الارتباك الثاني: الرؤية ليست واحدة

شعور غريب على نحو مدهش أن تقابل شخصاً من العاصمة، شعرت فعلاً أنني أرى القدس للمرة الأولى. دخل عصام المقهى ذلك اليوم، وكان المقعد المقابل لي هو مكانه. عرّف صديقي عبد الله أحدنا على الآخر: عصام من القدس، عامر من خانيونس. ثمّ أخذنا الحوار. لم يكن الأمر منطقياً على الإطلاق. عصام يتحدّث عن بيت جدّه الذي يطلّ بابه على مسجد قبة الصخرة في القدس، وأنا أتحدّث عن "دوار أبو احميد". عصام يتحدّث عن حبيبته التي كان ينتظرها في شوارع البلدة القديمة في القدس بابتسامة واسعة، وأنا أتحدّث عن حبيبتي التي لم ألتق بها مرةً واحدة. عصام يتحدّث عن سفره عبر مطار بن غوريون، وأنا أتحدّث عن الساعات الطّوال والترحيل من باب البيت إلى باب الطائرة في القاهرة. عصام يتحدّث عن الحياة اليومية والأمنيات والذكريات، وأنا أتحدّث عن الحرب واليأس وشارع الوحدة.

في تلك اللحظة، كنت أبعد ما يكون عن المكان. كان عقلي يتجوّل للمرة الأولى في البلدة القديمة في نابلس، وشعرت باغتراب حقيقي عن مكان لم أعرفه من قبل

ثمّ تحوّلت الجلسة إلى تبادل رؤى ومعرفة ونصوص. كنت كلما هممت في قراءة نصّ، شرعت في الحديث عن الموقف الكامن وراء كتابته، وكادت دمعتي تسقط وأنا أتحدّث عن الحرب الأخيرة، عن النّواح وكسرة القلب والغضب. بينما، على الطرف الثاني من الطاولة، كان عصام يلقي قصائد حبّ عن حبيبة لا يخاف من عدم رؤيتها والالتقاء بها قريباً، ثمّ يشرع في وصف الحالة والشّعور عند كتابته هذه القصائد. كانت قصائد عامية بلغة فلسطينية أدهشتني تماماً، فطوال 26 عاماً لم أسمع قصائد باللغة العامية في قطاع غزّة، حتى في المرات التي كتب فيها الأصدقاء بالعامية، لم تكن قصائدهم صادقة، كانت ناقصة، وتدخل في لهجتها كلمات مصرية بشكل محزن. وطوال ثلاث ساعات جلسناها، استمررت في طلب المزيد من القصائد العامية.. كنت فقط أضع يدي على خدّي وأنا أقول: سمّعني، سمّعني يا ابن العاصمة.

الارتباك الثالث: الألم ليس واحداً

انتظرت خمس دقائق حتى فتح لي الباب. قال عبد: "تفضّل"، فتفضّلت. أدخلني إلى غرفته الصّغيرة التي يدفع أكثر من ألف ليرة شهرياً بدل إيجارها. سألته عن مدينته فقال: "طوباس"، ردّ سؤالي إليّ فقلت: "خانيونس". ثمّ ساد الصّمت للحظات، وقبل أن أشرع بسؤاله عن الأهل والبلاد والحياة الرّاقدة خلف بوابة إيريز، بدأت الحديث عن قطاع غزّة، عن المجتمع الذي لم يعد بخير على المستوى النفسي، وعن أزمات الكهرباء والغاز وسعر ربطة الخبز. توقّعت أن يتلقّى حديثي بشغف كبير، وأن يسأل أكثر عن تفاصيل الحياة اليومية في غابة الصّواريخ التي كنت أعيش وسطها، ولكن في عزّ انغماسي بالحديث، قال: "آه وشو يعني؟" قلت: "كيف وشو يعني؟" فردّ: "آه يعني أنا شو أعمل؟ محنا عنّا نفس الشي"، فلم أجد غير الصّمت حلاً مناسباً لي.

عندما قدّم لي فنجان القهوة الذي صنعه على عجل، سألته عن نوع القهوة، فقال: قهوة سورية، ثمّ أخرج الباكيت من الكوميديون ليريني إيّاه. قلت: "اعتقدت أنّها من قهوة البلاد"، فردّ: "لأ، قهوة سورية، ليش بدي أجيب من قهوة البلاد؟ هادي منيحة". ابتسمت عندما تذكّرت "قهوة مزاج" التي نوصّي عليها كل غزّاوي يأتي لتركيا، ونلومه أشدّ اللوم لو نسيها أو لم يأت لنا بكميات كافية. انتبهت إلى اللوحة التي وضعها على حائط مرسمه الصغير، كانت لوحة لامرأة عجوز تبكي. قلت له: "من هذه"؟ قال: "امرأة استشهد ابنها في الخليل، ألم ترها؟"، فقلت بارتباك وكذب: "آه تذكرتها". ولكن ما تذكّرته بالفعل، هو الانعزال الفعلي عن تفاصيل الواقع في ضفّة الجرح الأخرى، إلى درجة أنّ خبر استشهاد ابن العجوز لم يمرّ عليّ من قبل. 

بعدما شربنا القهوة، بدأ يحدّثني عن الوحدة، وإسطنبول، وشوقه الجارف للعودة إلى "البلاد" بعد إنهاء دراسة الماجستير. عن ذكرياته في جامعة النجاح، والثلاث لوحات الوحيدات التي باعهم خلال مسيرته كرسّام، وتحديداً تلك اللوحة التي وصل سعرها لقرابة ألف دولار. عندها، أركبني مصطلح "البلاد" الذي نطقه بلهجة قروية مدهشة، وشعرت أنّي بحاجة فعلاً أن أمتلك هذا المصطلح الذي يشعر قائله بالرّاحة، ثمّ تذكرت أصدقائي الرسامين الذين لم يبيعوا لوحةً واحدةً في حياتهم، ولن يبيعوا. كتمت ذلك حفاظاً على بريستيج مدينتي، فقط قلت: لا أحمل شوقاً للوطن مثلما تحمل أنت، ولا أريد أن أعود يوماً، ثمّ صمتت. ولم أرد على سؤاله حين قال لي: ليش بدكاش ترجع؟

أن تتحسس جسدك للمرة الأولى

أشياء غريبة تلك التي حدثت معي عندما قابلت الدكتورة رشا، وعصام، وعبد. يشبه الأمر أن تتحسس جسدك للمرة الأولى، أن تكتشف أنّك تمتلك جسداً فعلاً رغم عدم إدراكك الأمر ولو مرة واحدة من قبل. ولكنّ الجسد الذي اكتشفته بعد مقابلاتي هذه، جسدٌ متناقض وغريب على نحو مدهش، فالفرق فيه بين حالة اليد والقدم يثير الاستغراب. وقد توصّلت إلى أنّ عزل قطاع غزّة عن باقي فلسطين من قبل الاحتلال الإسرائيلي، تسبب في فجوات كبيرة جداً على المستوى الثقافي والفكري والاجتماعي بين شقّي الوطن، حتى جملة: قلّي كيف حالك، جعلها تبدو كفخ لاختبار الوطن.

وما اكتشفته من كلّ ذلك هو أنّ الاحتلال استطاع أن يحوّلنا إلى غرباء، وأن يصنع حواجز نفسية غريبة بيننا بعيداً عن الحواجز التي صنعها على الأرض، وهو بذلك يشتتنا ثقافياً واجتماعياً وشعورياً، وليس فقط جغرافياً. لهذا يمكنني القول إنّ تركيزنا على نكبة 48 ونكسة 67 هو تركيز منقوص، لأنّ فيه ظلماً لكلّ النكبات والنّكسات والمجازر الثقافية والاجتماعية التي ارتكبها الاحتلال طوال السّنوات التي تلتهما.

لقد ارتكب الاحتلال ما لا يمكن إدراكه وتحليله بسهولة، فكيف يمكن إدراك الاختلاف بين فلسطينيين، يسأل الأوّل عن وطنه فيجيب: فلسطين. ويسأل الثاني عن وطنه فيجيب: غزة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard