ربما في أفلام الخيال العلمي، أو ضمن مسلسلات الكرتون من مثل "لبيبة" التي كنا نحضرها صغاراً بداية التسعينيات، كان من الجائز أن نخترق قواعد المعقول، وأن نتجاوز الفرضيات المنطقية الآنية، من أجل الغوص فيما يُشبه الأحلام، لكن بعد ثلاثين عاماً، تحققت معظم تلك النبوءات العلمية، كأن نُكلِّم بعضنا فيديوياً على شاشة الكمبيوتر ولو كان أحدنا في شرق العالم والثاني في غربه، أو أن نطلب وجبة بيتزا عبر الإنترنت فتصل إلى منزلنا ساخنة، وغير ذلك الكثير.
أما في العصر الحالي الذي تخطى حدود الخيال، بات الملايين عبر العالم بَدْواً بصيغة معاصرة جداً، أو بدواً ما بعد حداثويين، إذ استعاضوا عن الجِمال بالإنترنت، واستبدلوا بخيامهم لابتوبات أو هواتف ذكية أو أجهزة لوحية، بحيث أنهم لم يعودوا يبحثون عن مكان جديد يوفر لهم الأكل والماء، بل بات أي مكان في العالم يقدم لهم خدمة الواي فاي بسرعات مناسبة، قادراً على جذبهم، وجعلهم يُخيِّمون فيه.
حتى أن الاستيقاظ باكراً من أجل الارتحال إلى منطقة أخرى، أو ما يسمى "الظعن"، صار مرتبطاً بدرجة كبيرة بالهوى الشخصي، والرغبة في تغيير مكان الرَّعي بمزاياه المعاصرة، حيث أن أعراف القبيلة البدوية تبدلت وصارت مرتبطة بالـwww (world wide web) والفيسبوك والتويتر والسكايب والزووم وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي.
كما أن شيخ القبيلة بمكانته المميزة وهيبته وأثره على محيطه والمقولات التي نسمعها في مضافته، من مثل "طال عمرك" و"هلا بالنشامة" وإكرام الضيف وغيرها، تحوَّلَتْ في الزمن الراهن إلى مرادفات معاصرة بنكهة مختلفة، بعدما تحول كل من "مارك زوكربيرغ" و"بيل غيتس" وأمثالهما إلى شيوخ قبائل رقمية معاصرة، وباتت عبارة الترحيب الشهيرة: "بم تُفكِّر/ what’s in your mind؟" أو اكتب تغريدتك أو أنشئ غرفة فيديو، هي البديل حالياً، إلى درجة يمكننا القول بأن حياة نسبة لا بأس بها من سكان العالم انتقلت إلى "البداوة الرقمية" بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
وكأن في ذلك تحقيق لنبوءة الخبير والكاتب الكندي "مارشال ماكلوهن" الذي قال في كتابه "فهم الإعلام" عام 1964، أي منذ 58 سنة، "إن الإعلام سيؤثر على نمط حياة الإنسان الذي سيعيش في العصر الرقمي، وأن نمط حياته سيكون أشبه بالبداوة في سعيه واستفادته من المعلومات". فهل استطاع الإنترنت ومرفقاته من مواقع التواصل الاجتماعي العديدة أن يعيدوننا إلى "حياة البدو" حقاً؟
هل استطاع الإنترنت ومرفقاته من مواقع التواصل الاجتماعي العديدة أن يعيدوننا إلى "حياة البدو"؟
بين الاستعباد والانعزال
تشير الكثير من الدراسات إلى أن جائحة كورونا على وجه التحديد، فرضت الكثير من المتغيرات، وأفرزت طرقاً جديدة للعيش، وأساليب مختلفة في كسب المال، فمن التَّعلُّم عن بعد، إلى العلاج عن بعد، وصولاً إلى العمل عن بعد، في ظاهرة جعلت ملايين البشر حول العالم يعملون بعيداً عن مكاتبهم، من دون أن يبقوا أسرى جدرانها الأربعة، وبعضهم صار أكثر أريحية في التعاطي مع ما ينجزه من أعمال، طالما تخلص من فكرة الاستعباد الوظيفي التي تفرض عليه قضاء ثماني إلى تسع ساعات في أماكن عمل ربما لا تستهويه، ومن دون أن يحظى بأكثر من استراحة غداء لا تتجاوز النصف ساعة يومياً، وإجازات سنوية لا تتجاوز الاثنين والعشرين يوماً، وفضلاً عن ذلك، فإنهم حققوا استقلالية مادية وفكرية وزمانية ومكانية، لم يكونوا يحلمون بها من قبل.
لكن في موازاة ذلك، هناك من شكَّل له هذا الأسلوب الجديد من الحياة والعمل ضياعاً حقيقياً، ووحشة لم تخطر على بال أحد، أودت به إلى أزمات نفسية عميقة، إذ كان يعتمد في كثير من الأحيان على دعم زملائه العاطفي والعملي ومشورتهم والحوار معهم، والآن بات يشعر بأنه وحيد ومعزول، ولو كانت سرعة الإنترنت عنده 10 غيغا بايت، وفوق ذلك أصبح غير قادر على العطاء مثل السابق، بحيث أنه صار أشبه بتائه في صحراء الأسلوب الوظيفي المفروض عليه حديثاً، وأقصى ما يتمناه أن يلامس عمود خيمة زملائه من البدو الرقميين الجدد، علَّه يحصل على مساندتهم له، كما كان يفعل مسافرو الصحراء القدماء عند استجارتهم بما لدى البدو الأصليين من إغاثة للملهوف وغيرها من أخلاق وقيم نبيلة.
هل سيتحوَّل العالم إلى قبيلة رقمية مَضَاربها ممتدة على خارطة الكرة الأرضية كما يريدها "الرُّحَّل الرقميون"، أم أن الحنين إلى صداقات العمل وذكرياته ستعيدنا إلى ما كُنّا عليه في السابق، متمسّكين بتعاضدنا ولهفتنا نحو الآخر على اعتباره عمود خيمتنا المعاصرة بكل ما فيه من دفء وحميمية؟
طبقيّة رقميّة
كما أن هناك نقطة أخرى ذات أبعاد اجتماعية، وهي أن العمل عن بعد بالاعتماد على الارتباط بالشبكة العنكبوتية، هو ميزة لعمال دون غيرهم، فإن كان ذلك متاحاً مثلاً للصحفيين الذين يُغذُّون العديد من المواقع الإخبارية بالمقالات والتحقيقات والتقارير، وللمُبرمجين ذوي الكفاءة العالية، والمُسوِّقين الإلكترونيين، والاستشاريين بمختلف تصنيفاتهم، والمقاولين، وغير ذلك ممن أتاحت لهم التقنية المعاصرة بأن يُقدِّموا خدماتهم لمواطنين في ألمانيا وهم في جزر المالديف مثلاً، أو أن يعقدوا صفقات بمبالغ هائلة تخص استثمارات في ماليزيا في حين أنهم يقضون عطلتهم في إسبانيا، فما الذي يستطيع أن يفعله عُمَّال البناء إنترنتياً؟
وكيف سيتمكنون من بناء خيمتهم الرقمية؟ وماذا بإمكان الميكانيكي أن يقوم به ليعيش حياة البدو الرقميين بأدق تفاصيلها؟ هل بإمكانه مثلاً أن يجلب سيارة الـBMW رباعية الدفع على اعتبارها سفينة صحراء حداثوية بدل أن يُغيِّرَ زيت مُحرِّكها؟ ثم كيف بمقدور عناصر الشرطة وحرس الحدود أن يذودوا عن مضارب بلادهم وحِماها كما كان يفعل رجال القبيلة سابقاً؟
وهل يكفيهم أن يتحوَّلوا إلى عَسَسٍ إلكترونية؟ كل هذا وغيره يضعنا أمام ما تنبأ به المـُنظِّر الفرنسي "جاك آتالي" عام 1994 بأن "العالم سينقسم إلى ثلاث فئات: نُخبة تُسمى Hyper nomad تعيش حالة من البداوة الرقمية المُفرطة، وفئة البدو الافتراضيين، وفئة أخرى تعيش بداوة منقوصة"، بمعنى أننا بتنا أمام نوع من الطبقية الرقمية، إن صح التعبير، تعتمد في تصنيفها تبعاً لعلاقتها مع أنساق الإنتاج المستحدثة.
تسمية غير دقيقة
وهو ما يجعل تسمية "البدو الرقميين" غير دقيقة تماماً، لاسيما أن البدو التقليديين اعتادوا على شظف العيش في مناخات صحراوية تندر فيها المياه والموارد الطبيعية، لذا فإنهم يسعون لإيجاد ما يساعدهم على الاستمرار، فاعتادوا احترام محيطهم والبيئة من حولهم، لتحقيق الاستفادة القصوى مما تجود به الطبيعة، لذا ضمن هذه الانعطافة في أسلوبية العمل بعيداً عن المكاتب، ومن أي مكان في العالم، يمكننا اعتماد مُصطلح "رُحَّل رقميين"، خاصةً لدى أولئك الذين يتنقلون من بلد إلى بلد، ويقيمون في أجمل الفنادق والشاليهات، وداغمين عملهم بشغفهم للسفر، ضمن توليفة لم تكن متاحة في السابق.
تُشير الإحصائيات إلى أن نسبة العاملين عن بعد في العالم وصلت إلى 18% من مجموع القوى العاملة العالمية، وهي في ازدياد مستمر
ومع أن الإحصائيات تُشير إلى أن نسبة العاملين عن بعد في العالم وصلت إلى 18% من مجموع القوى العاملة العالمية، وهي في ازدياد مستمر، خاصةً لدى من تشكِّل المعلومات رصيدهم الرئيس، لكن في ظل تخوُّف الكثيرين من تبعات هذه النقلة الرقمية في عالم العمل، وعدم قدرتهم على استشراف مستقبله وديمومته، وإمكانية الاستمرار في تحقيق المكاسب المادية منه، نستطيع القول بأن هناك قوتين متنافرتين ستُحدِّد الأيام القادمة لمن ستكون الغلبة بينهما، وتالياً سنعرف إن كان العالم سيتحوَّل إلى قبيلة رقمية مَضَاربها ممتدة على خارطة الكرة الأرضية كما يريدها "الرُّحَّل الرقميون"، أم أن الحنين إلى صداقات العمل وذكرياته ستعيدنا إلى ما كُنّا عليه في السابق، متمسّكين بتعاضدنا ولهفتنا نحو الآخر على اعتباره عمود خيمتنا المعاصرة بكل ما فيه من دفء وحميمية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...