شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"نحنُ أيضاً نفصل الرؤوس عن الأجساد"... فن الرسم على الجسد وإخفاء وجوه المشاركات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 30 يونيو 202202:32 م
Read in English:

We Separate the Head From the Body... The Art of Body Painting with Hidden Faces

لماذا اخترت الرسم على الجسد؟

أسئلة تُطرح عليّ دائماً من الآخرين علناً ومن نفسي سراً، لماذا ذهبت إلى هذه الحرفة؟ ولماذا أنا مغرمة إلى هذا الحد بالجسد البشري؟

بدأتُ مشروع الرسم على الجسد حين كنت أدرس في كلية الفنون الجميلة في القاهرة في العام 2000، حينها ظننتُ أنني مغرمة بتفاصيل الأجساد؛ كالتشريح والعضلات وألوان وأنوع الجلد والقدرة على الحركة أو الثبات، وغيرها من التفاصيل الساحرة التي تفتحها هذه العوالم غير المألوفة. لكن مع التقدم بالسّن أدركت أن الذي وقعتُ في غرامه حقاً هو التفاعل الذي يحدث بين الناس، وبيني وبينهم حين يصبحون هم القطعة الفنية لا المتلقي للفن.

من ارتداء الجلد إلى ارتداء الملابس: التخلي عن التفرّد لصالح التشابه

الرسم على الجسد كان ولا يزال يُمارس بأشكال عديدة وفي أكثر من حضارة، على رأسها الحضارات الإفريقية - المصرية القديمة. الكثير من هذه الرسومات ذات أصول دينية ودلالات طقسية مدهشة، كالوشم الذي كان يصل إلى حد شق الجلد وعلامات الوجه التي تعكس مشاعر الفخر أو تحدد قبيلتك ومكانتك فيها أو ما كان يعتبر من علامات الجمال.

ومنها الرسم ذو الهدف الجمالي البحت والذي لا يحمل أية معانٍ أخرى (الجمال لأجل الجمال) وهو ما تربع الشرق على عرشه باستخدام الحناء، لكن في النهاية وبغض النظر عن تاريخه ودوافعه، يمكن تلخيص فكرة الرسم على الجسد عند الكثير من الحضارات بأنها استخدام للجلد ليمسي الزي الذي ترتديه الروح.

يمكن تلخيص فكرة الرسم على الجسد عند الكثير من الحضارات بأنها استخدام للجلد ليمسي الزي الذي ترتديه الروح

كان مشواراً ساحراً منذ بدايته، وعلى الرغم من أنني مارسته في ثلاثة بلاد هي مصر والإمارات وكندا حالياً حيث انتهى بي المطاف، إلا أنني قلّما قابلت من يمارسونه كحرفة، تلك الحرفة التي تربط بين الجسد والروح وتقوم على الإيمان بأن ما نضعه على أجسادنا يتحول لجزء من تعريق كينونتنا ويصبح علامة مختلفة دالة علينا.

هكذا، أصبح نموذج الجمال شبه موحد أو متفق على معاييره ولا يعكس أي تفرد أو خصوصية، والأصعب أن ظهور المكياج كان يهدف إلى تغيير الأصل وليس الاحتفاء به وإبرازه.

حكايتي

خلال دراستي في كلية الفنون كنت أجلس لساعات أنظر وزملائي إلى طبق الفاكهة الموضوع على الطاولة والأقمشة من حوله، نرسم كلنا نفس المشروع من زوايا مختلفة وبخاماتٍ مختلفة تنوعت غالباً بين الفحم والرصاص والألوان الزيتية.

خلال الساعات الست التي كنت أقضيها في الأتيليه، كان يغريني تأمل ملامس الأشياء، الفرق بين ملمس البرتقالة وملمس القماش وملمس الطبق، ثم اتفق أن أرسم على جسدي لا على القماش، ودعوت أصدقائي لمشاركتي.

من هنا بدأ الشغف، وتحولت الفكرة إلى مشروع ثم إلى جلسات فنية خاصة، ثم إلى ورش عمل جماعية ثم إلى معرض فني وجلسات فنية روحانية.

الفن دواء، والرسم على الجسد لم يزل يدهشني بعد كل هذه السنوات كما لو أنني اكتشفته للتو، صرت أحمل دهشتي وأسافر لأقيم ورشات الرسم وأدعو الناس لتجربة هذا الدواء-المرح.

الرحلة لم تكن دائماً بهذه السعادة

لدى الخوض في هذا النوع من الفنون نستطيع أن نعرف كم هي مخيفة مجتمعاتنا تجاه الفنون التي تستخدم الجسد كموضوع. خلال أكثر من عشرين سنة من هذا العمل واجهت الكثير من الصعوبات واللحظات المخيفة، لا سيما حين تكون المشاركات من الفتيات، أو إذا أظهرن كثيراً من الجلد. كان الخوف من إظهار الوجوه إذا تم تصوير العمل الفني/الجسد دائماً محل رعب وحذر شديد منهن.   

رحلت لبلاد أكثر رحابةً وتقبلاً، وعملت مع الرسامين والراقصين وممارسي اليوغا، وقابلت أناساً يحبون أجسادهم ولديهم الاستعداد لمشاركة هذا السحر مع العالم، ويمكنني القول إنها المرة الأولى التي استمتعت بالعمل الذي أؤديه دون أن يكون الخوف أو القلق شريكاً في اللحظة.
حين أنظر إلى الوراء أدرك اليوم أن حبي للرسم على الجسد كان أساساً للمقاومة التي توليتها، مقاومة الملل في الأتيليه والسأم من البرتقالة في الطبق الفخاري، ومقاومة للمجتمع وما يعتبره "الكود الرسمي" لزي النساء المحترمات، لكن السنين أوصلتني أخيراً إلى المكان الذي لن أقاوم به شيئاً بالفن، سأمارس الفن.
شعور مذهل أن يشعر الفنّان أنه يمارس الفن لا يقاوم بالفن.
حين وصلت إلى كندا، بدأت العمل مع عدة مؤسسات ومشاريع، صار ما أمارسُه يضاف كجزءٍ أساسيِ لبعض البرامج الخاصة بعلاج مشاكل التواصل وتقدير الذات، لاحقاً أنشأتُ ورشات عمل للأفراد والأزواج والمجموعات، وتمكنت من جعل جلسات تصوير الوجه المكشوفة حقيقة وواقعاً.
عندما أرسم على الجسد، لا أملك إلا أن أشعر بالامتنان للشخص الذي يشاركني مساحته، أعتقد أنه من اللافت أن يأتمنني أناس لا أعرفهم معرفة شخصية على أجسادهم، وأن يسمحوا لي بوضع طاقتي الفنية على جلودهم. فكل جلسة هي تجربة مختلفة بمشاعر مميزة وطاقات فريدة.

مشهد 1: الاسكندرية 2002

جلسة مع الأصدقاء:
أجلسُ وأصدقائي نتحدث عن رغبتنا بتغيير العالم من خلال الرقص والفن ونشر صور الرسم على أجسادنا على الملأ. حينها كنت أملأ الطلبات لتقديمها لمسابقات فنية مع مؤسسات ثقافية، أنهيتُ الاستمارة، ووضعتُ الصور المرفقة للموديل المشاركة بدون رأس وبدون هوية.
كل الصور كانت بلا رؤوس.
ظل مشروع الرسم على الجسد كالشبح، يعيش في دوائر صغيرة مغلقة ومحمية، ويحاطُ بالخوف كما لو أنه فضيحة.

مشهد 2: كندا 2021

ورشة عمل مع مجموعة Sass:
أعمل مع مجموعة من الفتيات اللواتي مررنَ بتجارب انتهاك جسدي وجنسي مؤلمة، نتحدثُ عن الشفاء، عن القدرة على أن نحب أنفسنا ونحب الآخر من جديد؛ نلملم ما مرت به أجسادنا وندل على الجروح التي نعرفها جيداً، نتقبلّها ونرسم فوقها أزهاراً وقلوباً.  

مشهد 3: كندا 2021

افتتاح معرضي الأول:
القلق يتملكني في الافتتاح، أقف حافية وأنظر إلى فتياتي الجميلات، البطلات، كل واحدة منهن مرّت بتجارب عميقة لتستجمع قوتها وتقوى على مشاركة روحها وجسدها في معرض مفتوح لعامة الناس.  
في انتظار الافتتاح أصابتني نوبة ذعر من أن يقتحم المكان شخص ساخط، وأن يبدأ في الصراخ في وجهي "إنت قليلة أدب واللي بتعمليه ده حرام" في أحسن الحالات سيقال إنني أفسد الفتيات وأدس في رؤوسن أفكاراً محرمة عن الجسد والجنس.
في انتظار الافتتاح أصابتني نوبة ذعر من أن يقتحم المكان شخص ساخط، ويبدأ في الصراخ في وجهي "إنت قليلة أدب واللي بتعمليه ده حرام" في أحسن الحالات سيقال إنني أفسد الفتيات وأدس في رؤوسن أفكاراً محرمة عن الجسد والجنس

تمر لحظات، يُفتح باب المعرض ويدخل الناس، يبدون إعجابهم بالمشروع، يسألون عن بطلات الصور وعن التجربة، أشعر بارتياح كبير، وهنا يحدث سحر الشفاء بالفن حين يتحول الرعب إلى سعادة. في النهاية السعيدة تأتي عمدة المدينة لترحب بي ولتبدي إعجابها بالأعمال وتهنئني على المعرض.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard