شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
دثّريني بحطام مقام الخضر... رسالة إلى السيدة فيلكا

دثّريني بحطام مقام الخضر... رسالة إلى السيدة فيلكا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 30 نوفمبر 202212:36 م

تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسائل (أمّا بعد)، في قسم ثقافة، رصيف22.


"يوجع الألم مرتين لأنه الألم نفسه ألم ولغز مقلق". (بوتند جيك).

أيتها السيدة الجليلة

آتيك من كهف الحزن العميق وأعرف أنك ستنصتين إليّ، فأنا امرأة تسند احتمالاتها حجارة باردة، تبني جدران الأمان وتخسرها سوراً بعد سور، وتبقين في ذاكرتها مضيئة.

هل تذكرينني؟ كنت طفلة البهجة السمراء، لاهيةً بالألعاب البسيطة، تزعل لضياع دراجة هوائية بين الأيادي المستعيرة، تصيبها شمسٌ مستعرة بالدوار (ما زالت لا تطيقها)، بمزاج عكر تمشي على شاطئ ساخن، غاضبة من توالي قرصات الأشواك من الرمال، تشعر كحبة بازلاء، لا حول لها، تسمع وشيشَ احتراقها في مقلاة الطقس، بينما يبين المسبح الكبير، يزداد البحر الذي بجوارها، إشفاقاً ووعوداً بكرم البرودة والمودة بعد إنجاز المهمة.

غالباً ما أن تصل المسبح الكبير، فتجد والدها لايستكين لمعابثات الجوّ المضجر، يضع على كتفه كاميرا ثقيلةً، لا تلتقط ابتسامته الحلوة. تراه صادقَ السعادة يتابع الأبناء والأقارب بأفلامه القصيرة التي تصنع مشاهدَ مبتورةَ الأماكن. تدور أسئلته مرتجلة داخل شريط الفيديو المعبأ بالأصوات والضحكات؛ هكذا يبقى دليلاً على الرحلة لا يقبل مكر النسيان ولا يذوب بالزمن. لكنه غاب، صاحب الكتف الصبورة، بعد غداءٍ أعدَّه لأسرته الصغيرة، صانعاً وجبةً أخيرةً للسعادة. احتضنهم بوله عظيم، رافقوه بسيارته عابراً طريقَ ميناء عبد الله، مرتدياً "بِشت"  والِده. مضى بصدمةِ النهاية من سيارة ماكرة، دنيئة النوايا، ضربت الجانب الأيسر وانقطعت سلسلةُ حياته، وبقيت سلالته منذ الأول من يناير/كانون الثاني 1989.

***

صغيرة وأذكرك تمنحيننا عذوبةَ ذكرياتك ومُلوحةَ بحرِك، يغطيني، ولاتفارق قدمي برودته. لم أكن أعرف أنها ذات المُلوحة ستظل عالقةً داخلي، حتى في خطاي، وأنا يرفعني والدي لآلام قدمي،  وكبيرة وأنا أرى احتباسَ السوائل بها؛ هل هو بحرك الذي لا يتركني أنفض بقاياه كلما تُقتُ لحلم؟

آخر ذكرياتك أننا كنا نستأنس ببيوتك البيضاء المتراصة كأسنان ابتسامة هوليوود باهرة ومضيئة، ،لها أقواس تمنحها وجهاً للدهشة وتهدينا الاندساس بها؛ بيوت مشروع سياحي اختفت مسالك الوصول لها منذ 90 الجلل، وبقي ينوح الإهمال وفاجعة الخواء بها، وأرواحنا ثكلى بخسارة نهائية للطمأنينة.

أعترف الآن كلما شاهدت الفيلم الوحيد عنك الذي صوره أبي، أراهم يصفقون لأغنية، يجلسون متحفزين بادعاء العادية وابتسامات التواطؤ؛ يعرفون عين الكاميرا ويراوغونها بضحكات وعبارات تصطاد خجلهم وتترصد حركاتهم. أدرك كم انكمشَ ضجيجهم وقطفهم الغيابُ بالصمت. يا أبناء جدتي "عائشة" كم عاندتم عادياتِ الوهن، عاركتم نزالات المرض فاعتزلتم صخبَها واحداً واحداً: فلا وسمية، ولا راوية، ولا فوزية، ولا أمي آسيا، ولا عمي علي. تساقطتم في أيام قاسية، اندكّت جبال أعمارهم القصيرة. صرتم رمالاً كلما ناحت، تلاشت، مالئةً بغبار الأسى جرابَ أرواحنا، فلا ملامح باقية إلا وجه الموت الخشن في أحلامنا، يقطف طمأنينتنا، ونجابهه بالهزيمة.

***

الآن، في هذه اللحظة، لا أثر للطفلة. أجلس بحياد على مقعد "العبّارة" البحرية، في الألفية الثانية. أخشى أن يسمع الناس هديرَ أنيني الخفي. أطفو مع الأوهام والحقائق معاً. ألتفت تجاه النافذة الكبيرة على جانبي الأيمن. تحادثني رفيقةُ سفر، ولا أجد إلا ابتسامتي الباهتة؛ تدرّبت عليها في انعكاس زجاج النافذة، قبل أن تأتي، ساهمةً أجيب محدثتي. وكم آلمتني محاولات اليقظة!

أصرخ بك مراراً صامتة: دثريني بحطام "مقام الخضر"، صخرةً صخرة، خشبةً خشبة. اجعلي كتلَ الألم المتكدسة في داخلي على "عين" تنهزم أمام "عين المكان" الممسوس بالهشاشة 

أقترب من سواحلك، عازمةً أن أخبرك عن نبعٍ ينفجر ثم يتراخى. يثور ويسكن. وأحاول ألاّ أتخفف منه. أنا وحدي من أجلدني على تفاصيل الندم الذي يحفر في بئر روحي، بكآبةِ قوة ستة سلندرات  تدهسني، ولا تحتاج لتستدلّ عليّ إلى Share Location، تطبق عليّ سماء بلا نجمة واحدة.

أيتها السيدة العظيمة!

ما الصداقات؟ ما الفراق؟ وأي أثر للفقد لهم؟

طالما سبحت الكتابة بالقرب من الصداقة، سمكة ماهرة في التقاطاها، وحوت عظيم يفتح فمه ملتهماً الوقت. لكنها لا تغفل المحبة ولا قلوب خضراء تلمع في أراضي الود واللطف أشجاراً عملاقةً وثابتة.

وسأخبرك عن الكتابة وعن الصديقة "عين":

آتيك وأنا أمسك بالكتابة، أغنيتي في هذه الحياة. عرفتْها صديقتي قبلي. أنجزت كتابين ولحناً لم يلتئم، مضت ترسم في فيض المحاولات تجاربَ في اللون. هكذا استمرت تتجاهل الحرفَ وسياقات المعنى. كانت تعالج خزائن الكتابة بأرقام سرية تعاندها في النص، هي التي تجد نصوصي دببة طيبة لها دروبها الكثيفة بالتأويل، لكنها في متاهات الغابة تدور، وأرى نصوصها هينةً، لينة، مثل ليلى حين لم تقابل يوماً ذئبها، فتكمل دون آلام ولا وقوف كثير. كلانا كنا نرى الدرب وكلانا لهما خشخشة الورق في خطوهما؛ كلانا تبحثان عن فتيل الأدوات، لنا رطانتنا وللكتابة دوزنةُ أفكارنا كما تشاء.

أتيتُ لأخبركِ بفقد حارق أصابني في هذه الصديقة، التي رأت حتفَها، وركضت في دهاليزه. هي القبائلية التي تعرف "الحدس"، لها في الأنواء بصيرةٌ، تبعد بأعشاب أمّها الأمراضَ، ما رأت خبث الوباء، ما شهقت من غرفتها: خذوني للشفاء إلّا متأخرة.

أعيتني ابتسامتها في المرايا منذ الفاجعة. ترتسم وتضيق عيناها الصغيرتان، شعرها المشدود، وقفتها مستقيمة الظهر. لها صوتها المميز وضحكتها سند البدايات. أيّ مصادفة يا "عين"! مبتدأ اسمك "عائشة" مثل جدتي، أضحى الآن"عبرة". يضنيني أيتها اللمّاحة أنك أفلتّ طيور نجاتك، أصررت على لحاف الرفض تجذبينه، تنكرين أخباراً تتوالى عن تهاوي الرئات المعطوبة. تمنحين "الـلا" بركاتك، فينساق قلبك العليل إلى قرار اللاتطعيم، اللاتحصين، تتسلقك قطط الموت الثقيلة، تجثم على صدرك، وتنكسرين داخل بلور الإعياء بمتوالية الإنهاك والتدهور، ثم تسليم في المستشفى. وتصدح قصتك بختامٍ تراجيدي لا تهبط ستائره.

أيتها السيدة العظيمة!
ما الصداقات؟
ما الفراق؟
وأي أثر للفقد لهم؟

اليوم آتيك يا سيدة الجزر الصامتة بثقل الخبر؛ عرفته بعد شهور، فتعاظم ألمي، حزني، كآبتي، توهاني، وطوقتني أشباحُ الفقد. تقتحمني الصور، كلما أبعدتُها نبتت حرائقها واشتعلت.

***

أيتها السيدة الجميلة!

أجرّ تنهيداتي، و أهمس. يقال إن اسمك "فيلاكو" باليونانية وإنك تعنين بهذه اللغة نقطةَ تمركز أو موقعاً قديماً، مركباً صغيراً. هكذا تتوسطين القلب كبناء قديم لا ينهار إلاّ ليزداد جبروتاً. ويقال إن اسمك بالعربية "فيلق". أنت كتيبة من الودّ والحب والجنود المجندة في اختراق أراضي النزف.

أسماؤك عناوينك؛ أجملها اسمك البرتغالي، نكرره لحلاوة مذاقه في معناه "السعادة".

ما إن هبطت على ترابك راغبةً بالعزلة والتداوي تلقّفتِني. رأيت أنا الذي أحب ثباتَ الأمكنة ماضيكِ/حاضرك، معمارَك السبعيني والثمانيني وماقبله راكداً، سكونَكِ هائلاً بجدرانه، وأشياء لا تُحصى جميعها تسكنها طحالبُ التعب مثلي.

منجذبة، مفتونة إلىّ زواياك ونواحيك، شوارعك التي تهفو للخطوات، ترحابك وأنت تفتحين أحياءك لنمضي بها ساهمين. محصنةٌ بالزمان من الزمان، أنتِ. كلُّ زاوية تقول للسائرين "أنا أنتم، كونوا الصيادين لجمالي، أهبُكم أسراري.

بيوتك لا تنهل من الكمال شيئاً، لها كائناتها وهيئتها الساحرة، ساخرة تهدينا التأمل، تواجهنا بلا "رتوش". نعاين نوافذَ صدئةً وأبواباً خربة، لبيوت قصيرة القامة غالباً، نالت من ابتسامتها الناصعة سوسُ السنين، ورصاصات التجني والرعونة، تعلو بعضها عبارات ورسومات واعترافات ساذجة، ساخرة، وأخرى ملغزة كأنها تعاويذ تحرسك، بينما تمزقنا في"الديرة" جروحُ رصاصاتِ أزمنة حمقاء. يحيا تورم الخيبة تحت جلد أحلامنا، ويتضخم الخذلان فينا.

على طرقك تدوّخنا أشجارك، تحضن البيوت والشوارع، وبلا تشذيب تفترش الصحراءَ، وتعاكس فكرة النضوب وقلّة المطر. كلُّ غصن فيها زاخر بمعجزات التحمل والكرم. اخترتِ اللاجديد، فاحتميتِ تحت سمائك الخالية من الأحداث -منذ سنوات- باللاأخبار؛ تبتلعينها إن ظهرتْ غير مبالية، شاخصة للبعيد، تقبلين على العليل، وتعرفين كوابيسه، وتداوين المرضى، وأنت تنزعينهم من العجالة، الضجيج، الضياع.

أصرخ بك مراراً صامتة: دثريني بحطام "مقام الخضر"، صخرةً صخرة، خشبة خشبة. اجعلي كتل الألم المتكدسة في داخلي على "عين" تنهزم أمام "عين المكان" الممسوس بالهشاشة.

تسندين عواميد الهدوء فيّ، فأصبحتِ بيتاً للرضا، وزرعت نبتة الخدر، فربتّ على الألم فغفا. واغتسلتِ من أدران البلاد ولمعانها وأبراج مدنيّتها التي لا أحبها. باعدتِ كلَّ الهزائم، وأسماء الموتى الرطبة، ومضيتِ في صحراء سكينتي، أطيّر صقرَ الكتابة، يحلّق، فيعود

قادرة تمّرّغين أرواحنا بفكرة "التقبّل"،"التجاوز" ،"التناسي"،"التفكر"، وتدفعيننا باتجاه الشفاء. نعرف منذ غادرك أبناء الفزع، مروعين قبضوا أثمانَ بيوتهم لاحقاً وما عادوا، إلاّ قلة القلة ما باعوا. رتقتِ جراحك في غيابهم، واستغنيت عن الجميع، فكنتِ "مقام الجرحى" و سيدة الجراح الغائرة في الوحدة.

ماذا صنعتِ؟ أمسكتِني بالمحبة. تسندين عواميد الهدوء فيّ فأصبحت بيتاً للرضا، وزرعتِ نبتة الخدر، فربتِّ على الألم، فغفا. واغتسلت من أدران البلاد ولمعانها وأبراج مدنيّتها التي لا أحبها. باعدتِ كلّ الهزائم، وأسماء الموتى الرطبة، ومضيتِ في صحراء سكينتي، أطيّر صقرَ الكتابة، يحلق، فيعود. وأكتب رسالتي لك يا سيدة الجزر "فيلكا" عن عزلتك ومحبتك وأنسِكِ ونصيحتك عن "عين" في نومها الأبدي؛ عن مراسي العزلة التي وحدها لا بد أن أعتادها. أتكوّر عند أرصفتك الهشّة، المتهدمة، تهمسين بالتلويح للذاهبين، الإبحار بين بحر وصحراء، بين فضاء ومعمار، ذكرى ولحظة. ولا تفلتينني إلاّ وأنا منتصرة في خفوت، في جلادة الصابرين على الملمّات،  وعلى ما هو آتٍ، هامسةً بالكثير من الموانئ، أمسِكُ بيدي الصغيرة نجوب الأسفار، نسترجعنا، ونرانا، وإليك نعود.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image