تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسائل (أمّا بعد)، في قسم ثقافة، رصيف22.
ما كتبه كافكا للصحافيّة التشيكيّة ميلينا يسنسكا من رسائل كان بشكل من الأشكال محاولاتٍ مستمرةً للتخلّص من العالم، يسود فيها مناخ سوداويّ مغلق تبدو معه وكأنّها انعكاس لموقف الكاتب من الوجود الذي كان قد عبر عنه بشكل مكثّف وموجز في افتتاحيّة رواية "التحوّل" التي تقول: "عندما استيقظ غريغور سامسا من نومه ذات صباح عقب أحلام مضطربة، وجد نفسه قد تحوّل في سريره إلى حشرة عملاقة".
كافكا وجد نفسه وقد تحول إلى كائن طيفيّ إثر المرض، وفي ظل حياةٍ شهدتْ قسوةً متناميةً من الأب وظروف العيش. لذا قرّر أن يصبح شبحاً وأن يقضي حياته في نحت صورةٍ شبحيّة للوجود والدفاع عنها.
ميلينا هي كمال ذلك النزوع وميدانه وساحته التي عمل على توليد معانيها ونحتها باستمرار.
الشبح الدائم الغياب
العلاقة كانت قائمة على الغياب واستحالة اللقاء. طابع الرسائل أنها مكتوبة في ظلّ غياب الآخر وخطابها غائبٌ لأنّ رسائلها إليه أُتلفت. من يخاطبه كافكا بإصرار هو الشبح الدائم الغياب والّذي لا يمكن أن يخرج عنه كلام، بل فقط إشارات ورموز وإيحاءات.
الغياب كان أقصى ما يحتاجه، لأنه سمح له بتأليف ميلينا شخصيّةً، وأسرِها داخل عالمه المتداعي، حيث يتحول كلُّ شيء إلى صدىً للخوف واليأس.
المرأة التي يؤلفها ببنيتها الشبحيّة تتيح لكلّ المشاعر أن تفقد صلابتها وتماسكها، وأن تعبر مخلفة وراءها سلسلةً من الآثار التي يلتقطها مشكلاً منها أفكارَه ولغته.
ميلينا ليست جداراً صلباً يدافع به عن عالمه، بل ميدان عبور وهروب يمتاز بالسيولة والخصب واستحالة الوصول. يحدّد كافكا معنى الكتابة اليائسة معتبراً أن "كتابة الرسائل... تعني أن تعري نفسك أمام الأشباح، وهو شيء لطالما كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر. كتابة القُبل فيها لا يعني أنّها ستصل إلى مكانها المقصود، بينما على العكس يتخطفها الأشباح على طول الطريق".
لماذا يجتهد في تمهيد طريق الأشباح وتعرية نفسه أمامهم؟ لأنّها تملك ملامح وصفات مكتملة ولا يمكن أن يطالها التزييف. لقد خرجت من الذات لتتمرّد عليها وخلقت كيانها المستقل، ولكنّها لم تفقد صلتها بها، ولم تتوقّف أبداً عن أداء وظيفةٍ حمل أوهامها وآمالها واحتضان هذياناتها.
تذيب كل شيء بتحويله إلى نص. القبلة المكتوبة لا تصل لأنّ وظيفتها تكمن في استحالة الوصول.
ما كتبه كافكا للصحافيّة التشيكيّة ميلينا يسنسكا من رسائل كان بشكل من الأشكال محاولاتٍ مستمرةً للتخلّص من العالم. هي رسائل يسود فيها مناخ سوداويّ مغلق تبدو معه وكأنّها انعكاس لموقف الكاتب من الوجود
الأشباح تكتب والتعري أمامها آمن لأنها قادرة على احتواء كلّ شيء في النصِّ و تسييله في معانٍ. الاصطدام بالعالم الفعليّ ليس بهذا القدر من السلاسة والأمان، ولا يمكن التعرّي أمامه من دون دفع أثمان باهظة، فهو لا يلتقط العريَ ويتيح تمثّله في أفكار قابلة للحوار، بل يجلد من يجرؤ على تبنيه وممارسته دفاعاً عن سلاسل الأقنعة الّتي تشكل معالم المجتمع والعيش البشري.
كافكا اختار الأشباح لأنّها لا تدين، ولأن تعرّيه أمامها يجعله مرئيّاً وليس العكس، ولأنّها تحتفي بمشاعره عبر إحراقها. تسمح له بالتخلص منها في التوّ والحال ليعيد إنتاج غيرها ضمن سيرورة متواصلة صارت شكلَ حياتِه المشتهى، والّذي كانت ميلينا منتجتَه وصاحبتَه.
المنشود من كلّ هذه العملية ليس الخلاص. التمعن في خطاب كافكا يكشف أنّ فكرة الخلاص ليست واردةً بالنسبة له. كلّ ما يتمناه لا يعدو عثورُه على لحظة انكشاف ووضوح. كان يبحث بشراسة عن الوعي مهما كان مؤلماً وشاقاً، وميلينا كانت المجال الّذي يتكثّف فيه ذلك الوعي، ويتخمّر بكلّ ما فيه من مرارات.
أعيش في قذارتي
يخاطب ميلينا معترفا: "إنني أعيش في قذارتي، فهذا هو ما يشغلني، لكن أن أجرجرك إلى داخلها أيضاً، فهذا شيء مختلف تماماً. إن الشيء المزعج هو شيء بعيد بالأحرى حيث أنني من خلالك أصبح أكثر وعياً بقذارتي على نحو زائد، ومن خلال وعيي يصبح الخلاص أكثر كثيراً في صعوبته".
مع ميلينا يقع كافكا في ذاته بشكل نهائي، ولا يعود ثمة مجال لتجميل الأمور والتحايل عليها، وبقدر ما يصبح الخلاص مستحيلاً فإنً الوعي يصبح حاداً ومضيئاً.
يفكك الوعي شكلَ الوجود المادي وأنماطَ العلاقات القائمة فيه لصالح وجودٍ يحيا في قلبِ عمليّة انتقاليّة غير منجزة بين الحياة والموت، تجعل العالقَ فيها روحاً أو شبحاً لا يمكنه إلا أن يخاطب مخاوفَ تحضر بشكلٍ ينعدم معه التصنيفُ والدرجة، بحيث يتساوى التافهُ منها مع الشديد.
"إنني أعيش في قذارتي، فهذا هو ما يشغلني، لكن أن أجرجرك إلى داخلها أيضاً، فهذا شيء مختلف تماماً"... كافكا
"منذ سنوات لم أخاطب روحاً، وكان يفترض أن أكون ميتاً. لم أشعر بضرورة التواصل مع أي أحد. كان الأمر وكأنني لم أعد في هذا العالم، لكنني لستُ من عالم آخر أيضاً. كان الأمر وكأنني رميتُ تلك السنواتِ التي طالبتُ بها بالكثير، لكني بالحقيقة كنتُ أنتظر أن أسمع أحداً يناديني، حتى ناداني مرضي من الغرفة المجاورة".
الموقع الذي يجد كافكا نفسه فيه هو الموقع الذي يمنحه لميلينا. إنّها الناطقة باسم انعدام الموقع، ولكنّها في الآن نفسه، وحدها من يستطيع خلقَ خطاب خاصّ بهذه الحالة. وهكذا يشفّ كلُّ شيء ويصبح آيلاً للنحت وصناعة الملامح والتشكل. البنية الشبحيّة والروحيّة تتماسك في حضور ميلينا وبسببها من دون أن تفقد أثيريتها، ولكنّها تصبح قابلةً للتخاطب وإنتاج المعاني.
لا تتلاشى الأمراض والمخاوف بل تتحوّل إلى اختبار معرفي وإلى سياقات تساهم في جعل الحقائق مرئيّة وواضحة، وأهمّها حقيقة الذات التي يسوقها كافكا في رسائلة عاريّة من دون تجميل. ومن هنا كان ذلك الانحياز إلى خطاب الشفافية المنحوته بإزميل الاعترافات، وكأنّه حين يعري نفسه يعرّي الوجود، ويصبح قادراً على التخلي عنه وخلق حيّزه الخاص.
ميلينا هي خالقة هذا المشروع ومجاله وأثره وصداه وضحيته في الوقت نفسه. كافكا بأنانيّة مفرطة ويائسة حتى الموت يرسمها من خلاله وحسب، وبذلك لا يتيح لنا معرفة أيّ شيء عنها من خارجه. يحاول أن يرسم لنا صورة لقائه معها في الرسائل على أنه حوار يحمل معنى التبادل والتواصل بين كيانين، ولكنّه لا يتحدث مع كيان منفصل عنه، بل لا يكون الحوار ممكناً إلا حين أصبحت ميلينا مؤسّسة لإنتاج كافكاويته.
ينتج عن ذلك توحد مرير وشاق يتضاعف فيه كلّ ألمه خوفه، إذ أنه يعيشه عنها ومن خلالها. تقبع المسرات في الخلفية بوصفها مستحيلاً لا يجرؤعلى الظهور على خشبة المسرح، لأنّه محكوم سلفاً بجملة استحالات خلقها الظرف الاجتماعي لكلّ منهما وخلفيتهما التربوية والشخصيّة المتقاربة التي جعلت اللقاء في أساسه وكأنه عمليّة حفر في الآلام والمخاوف.
"منذ سنوات لم أخاطب روحاً، وكان يفترض أن أكون ميتاً. لم أشعر بضرورة التواصل مع أي أحد. كان الأمر وكأنني لم أعد في هذا العالم، لكنني لستُ من عالم آخر أيضاً"... من رسائل كافكا
الرسائل كانت رعباً وجد من يكتبه و يصنع له سيرة مكثّفة، وينحت ما ينتجه من أشباح على هيئة كلمات لا زالت تلتقي مع واقعنا وتعبر عن حياتنا المعاصرة.
كلّ ما ترصده من وحدة ومخاوف ليس سوى وصف للعيش الحديث في مدن العولمة، حيث تنتشر العزلة وتتمكن، ونحيا لننادم أشباحاً قد تكون كائنات الرقة الممكنة التي نرسمها عبر ذاكرتنا، صانعين منها مفهوماً خاصاً عن حميم بات ممتنعاً وممنوعاً.
يخبرنا كافكا عن أحوالنا ويصوّر عجزنا عن التذكر إلا عبر الفقد: "لم أتمكن من أن أتذكر وجهك، ولا تذكرت شيئاً من ملامحه بصورة واضحة. أذكرك فقط بينما كنت تبتعدين وسط مقاعد المقهى".
نلتقط آمالنا العابرة ونحييها في ذاكرتنا على أمل النجاة من العالم بتركه يجري على هواه والانسحاب منه. هذا ما كان كافكا يحاول تعليمنا إياه، وهو ما يمكن أن نطلق عليه فنَّ النجاة الذي حمل بالنسبة له اسم ميلينا. نستعيد رسائله الآن بحرارة، لأنّ كلّ واحد منا يبحث عن نسخته الخاصة من ميلينا ليدفن فيها ومعها العالم ويعبر منه إلى ذات مأهولة بأشباح أليفة تبدّد وحشته عبر حوارات لا تنتهي يكتب عبرها كلَّ فرد سيرته ويرسم صورته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...