قبل أيّام، مرّت الذكرى الـ36 لرحيل الموسيقار عاصي الرحباني، فنشرت على حسابي في فيسبوك كلمة رثاء في رجل ما زال أكثر منّي حياةً وتأثيراً، لأفاجأ بكلمات من متابعي الحساب تشيد بما كتبت، بدل أن تتوقّف بخاصّة عند الراحل الحيّ ومآثره. هذا لا يعني أن أتواضع تواضعاً جمّاً، فأنفي عمّا كتبت بعض انتباهات او استدراكات في ما طرقتُ، لكن حصل أني أحسست بأثر كلمات على فريندز ربما زاد الموت، وإن وقعَ قبل ثلاثة عقود ونيّف، من حساسيّة تلقّيهم النصّ المنشور.
بعد يوم أو يومين، رحل الشاعر حسن عبدالله، فعاجلته بـ"واجب" تكريم شاعر لشاعر، وإذ بعبارات التقريظ نفسها تتوالى كما لو أنّي "أتوهّج" بإلهام من الموت، لاسيّما موت المبدعين، فتنقدح القريحة، وتتفتّح كما لاتفعل ربما عند تناول موضوعات أخرى. فكأنّي مع تجرّع حرقة نعيهم، أسرق من موتهم نثاراً من ذهب أعمالهم، أطرّز به حبري.
وهنا النصّان المشار إليهما.
"كأنّي مع تجرّع حرقة نعي (حسن عبدالله وعاصي الرحباني)، أسرق من موتهم نثاراً من ذهب أعمالهم، أطرّز به حبري"... جوزيف عيساوي في رثاء حسن عبدالله وعاصي الرحباني
حسن عبدالله... انضمّ الى عُمر الأرض
بعدما لم يعد "قادراً حتى على مجرّد التقدّم في العمر"، كما كتب في مجموعته الأخيرة "ظلّ الوردة" قبل عشرة أعوام، انضمّ حسن عبدالله اليوم الى عمر الأرض، حاملاً إليها قامته الضئيلة كأحد الأطفال الذي نكتب لهم القصص، تاركاً، لهم ولنا، حقول الكلمات ولطائفَ من رنين الحروف. بدأ شاعر تفعيلة مازجاً رومانسيّة "الخيام" وطبيعتها ودردارتها بهموم عمّال التبغ، فوضع بعض أرقّ نسمات الشعر الجديد، مضيفاً إليها احتفاءه بنضال اليسار يومها، طارحاً قصيدته الأشهر، اذ غنّاها مارسيل، "أجمل الأمّهات التي انتظرت ابنها وعاد مستشهداً". لا أعرف موقفه اللاحق منها، هل تغيّر بعد نحو مائتي ألف قتيل في حروب لم تثمر سوى مزيد من الحروب، والأسى، والمشاريع الضالّة؟
لكنّ شعره القليل (4 مجموعات في 79 عاماً) بواقعيّة مباشَرة وحادّة، وفي آنٍ خفرة مِثله، انتهى إليها بدءاً من ديوانه الثالث "راعي الضباب"، متخفّفاً من التفاعيل، بنفَس تأمّليّ يقول عبثيّة العيش، وحماقة العشق، إنما يؤشّر إلى ابتعاد الشاعر وكاتب القصّة عن الإيديولوجيا، والأحزاب، والمشاريع الكبرى، ليغرق في شرايين العيش، متأمّلاً كساد الكائنات، متمسّكاً بالكتابة حتى "يعرف ما هو الشيء الذي تخفيه الحياة وراء ظهرها". الدين أيضاً تناوله بأسلوبه الهادئ لكن الواضح، ملقياً عليه ما يشبه"الحرم" الإيمانيّ اذ يكتب: "الطريق إلى الله ضيّقة، بحيث لا يستطيع أن يسلكها الإنسان، إلا بمفرده".
كأنو الآباء غالباً، بلبنان والشرق، بياكلو شي من احلام ولحم ولادن، ولهيك منلاقي عبادة الناس للزعما (ورجال الدين) حتى ولو دعوسوهن وفقّروهن وذلّوهن
دَعَوته يوماً عشية "عيد الحبّ" الى ندوة تلفزيونيّة بعنوان "من الحبّ ما قَتل" على شاشة "أن بي أن" ضمن برنامج أسبوعيّ "عليك الأمان". كان يناقش زميله في الندوة المطران جورج خضر والآخرين أنّ "الحبّ ليس سوى الهالة التي تحيط بها الطبيعة الجنس، بهدف بقاء النوع"، حين هو للمسيحيّة صورة عن"العائلة المقدّسة" و"الحبّ الإلهيّ" للبشر. لا أذكر ماذا قرأ حسن من شعره تلك الليلة، لكنه في اليوم التالي في المقهى بدا مرتاحاً للمشاركة، هو المقلّ بل نادر الظهور الإعلاميّ، البعيد عن الافتتان النرجسيّ بالذات أو الاكتراث للنجوميّة الأدبيّة. يرحل حسن الى الأرض التي سبقه اليها قريباه وصديقاه ونديماه عصام ومحمد العبدالله. أخاله واصلاً إليهما بيده علبة دخان "الفَلت" ودفتر ورق "اللفّ"، يسألانه أوّلاً عن حال الدردارة، ثم يعاتبه محمّد كيف لم يحمل في جيبه ورق شدّة قشيباً، وعلى خاصرته قنّينة الـ"بلاك". بينما يهنّئه عصام: "لم تُنجب فلن تبكيَ الآن مثلي كل الفرح الذي عشتُه مع سلاف، ابنتي، وولدَيّ حازم وورد". ليردّ حسن بتهكّمه الدافئ: إذن، فخير ذا بشرّ ذاك، ويضحك الشاعران مرحّبين بنديمهما القديم لكن هذه المرّة إلى مائدة التراب.
رثاء عاصي الرحباني... كمن يسرق من نعشه ذهباً
بيصادف بكرا اوّل الصيف (أطول نهار بالسنة) وعيد الأب مع عيد الموسيقى، بس كمان ذكرى رحيل عاصي الرحباني: بَيّ الغنّيّة اللبنانيّة (مع خيّو منصور)، اللي كان ربيع وصيف المسرح الغنائي اللبنانيّ. أمّا العيد فكأنّو عثور عاصي عا مجرّة أو كون مسحور هوّي صوت فيروز، صوت بيشبه حزن طفل بالعيد كأنّو يسوع (يسوع/ة؟) الكان "عارف" من لحظة ولادتو أنّو رح ينصلب (بتذكّر هلّق عبارة وضّاح شرارة: "إذا كان المسيح هو الكلمة، فيروز هي الصوت"). فينا نحطّ أبعاد مختلفة لمصادفة رحيل عاصي بهالنهار: 21 حزيران، ورح تكون هالمعاني والأبعاد كلّها إسقاطات. بس المصادفة فعلاً شعريّة وبتليق بواحد من الخيّين اللي رشّحن انسي الحاج عن حقّ لجايزة نوبل للآداب.
"العيد كأنّو عثور عاصي عا مجرّة أو كون مسحور هوّي صوت فيروز، صوت بيشبه حزن طفل بالعيد كأنّو يسوع (يسوع/ة؟) الكان "عارف" من لحظة ولادتو أنّو رح ينصلب"
بخصوص عيد الأب، عاصي ابن حنّا الرحباني، "الطايح": "قاطع الطرق"، متل ما قال عنّو منصور، المطلوب من السلطنة العثمانيّة والهربان عالمتن، بالشوير بأملاك الدير فتح قهوة: "المنيبيع"، وكان يعزف عالبزق. هل كان حنّا بيّ مثالي؟ ما بعرف. وعاصي؟ يمكن ما كان البَيّ المثاليّ بعيلتو، عاإفتراض في بيّ مثالي، وعاإفتراض المشكلة بالآباء مش بعلاقة الأبوّة/البنوّة نفسها اللي برأي علما نفس هيّي بحدّ ذاتها "الفاسدة". كان دايماً مشغول بمهنتو، مخطوطاتو، عالمو الشعري المسرحي، المجد اللي استحقّو وعاشو وكمان، إذا صدّقنا هوبس، بالبحث عن الخلود. بيبقى عنصر أوّل من التلاتة اللي افترضن الفيلسوف كطِباع للبشر، وهوّ يعنصر المنافسة. وطبعاً ما حدا قدر ينافس عاصي ومنصور بأيّ من المجالات اللي طرقوها.
متل اليوم فَلّ عاصي "مجرم الشغل" والخَلق مع منصور، حتى بعد الفالج وتحديداً بالتأليف الموسيقي، عاصي البيّ الواقعي والرمزي لمشاعر ورؤى وأفراح وأحلام وقيم عشناها وعاشوها أهلنا من الخمسينات، واللي إجا ابنو زياد لـ"يقتلو" (رمزيّاً وفنّيّاً بنوع من تمرّد "أوديبيّ"ّ عاصورة البَيّ وسطوتو الشخصيّة بالبيت، والإبداعيّة-الثقافيّة اللي طالت العالم العربيّ) ويصنع تفرّدو ويصير بدورو بَيّ تيّار بالمسرح والأغنية العاطفيّة والسياسيّة، ويستحقّ يكمّل اللي زرعوه الأخوين بصوت فيروز، بعد ماسلّمت الأمّ ابنها صوتها واكتمالو وشعشعانو (زياد اللي ما قدر يصنع مطربتو او مطربو)، وسمحت بولادتها التانية من جاز اوتارو للبيانو، بصورة جديدة للحبّ بين رجّال ومرا، وأداء نثري غالباً بالغناء، بس من دون ما تقبل ايّ خربطة برمزيّة لبنان بغنّيّتها. زياد بِدَورو ما كان بيّ مثالي لابن، ووصل حد التبرّؤ منّو متل ما تبرّأ سياسيّاً من بيّو عاصي وعمّو.
كأنو الآباء غالباً، بلبنان والشرق، بياكلو شي من أحلام ولحم ولادن، ولهيك منلاقي عبادة الناس للزعما (ورجال الدين) حتى ولو دعوسوهن وفقّروهن وذلّوهن (مقابل انتماء الفرد بالغرب لحزب وبرنامج سياسي). بيحضر الزعيم بلاوعي الناس ببلادنا كبديل عن بيّ بيولوجي متسلّط عازوجتو وولادو، صبيان وبنات، زعيم شبيه الى حدّ ما بهالبيّ لكن بيوفّر "الأمان" النفسي والإحساس بالقوّة. القسوة عند العباقرة، مع الرقّة والمعرفة والانضباط، بتخلق فن كبير، لكن بالتوازي ممكن تعمل عِيل مفكّكة وأوجاع ومآسي. كأنو مع نبيد الآلهة، بكاس الموهبة، بتجي لعناتها، ومع إكسير الخلود طعم مرارة بلا حدود. بيبقى نقول ختاماً مسا الخير لعاصي ابن حنّا، بيّ زياد وأخواتو، خيّ منصور، وزوج فيروز. مسا الخير كمان لكلّ عاصي.
في شي مملكة مات آخر ندّابيها وعايزة ندّاب موهوب، صوتو حلو، وعيونو زرق مَرّة ومَرّة خضر حسب ألوان الفصل؟... جوزيف عيساوي في رثاء عاصي وحسن عبدالله
خاتمة... وظيفة ندّاب
بالسنين الأخير صرت عم حسّ أنّي ندّاب، متل بعض شعرا الزجل بالمآتم. وبلّشت فتّش عاوظيفة بشي مملكة أرثي موتاها، يمكن يتونّسو أهل الفقيد، يمكن يقولو يا ريت المرحوم بيقوم دقيقة يسمع، وياخد المرثيّة معو تونّسو. أنا كمان سريع بتحضير الندبة، كأني بشمّ من بعيد ريحة عزرايل. بصراحة حلو تكون مهنتك الجديدة هواية بتحبها. العلاقة مع الموت بتخلّيك خوش بوش معو. بتغنّيلو تعا ولا تجي. بتسامحو عاللي عملو بأهلك وحبابك وهيك يمكن تفكّ حْداد ما خلص عاأمّك أو بيّك. وبس يقطعلك آخر ورقة بتقلو: ولَوْ اعطيني بعد وقت بدّي أكتبلك ملاحم، قدّيشك ملهم للشعرا، حنون عالمرضى المعذَّبين، ووعد حريّة للضجرانين. في شي مملكة مات آخر ندّابيها وعايزة ندّاب موهوب، صوتو حلو، وعيونو زرق مَرّة ومَرّة خضر حسب ألوان الفصل؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون