من

من "فات الميعاد" إلى "كيفك عَ فراقي؟"... تذكّرنا الأغاني بكل ما جنته الحرب علينا 

مدونة

السبت 26 يوليو 20258 دقائق للقراءة

لدي لحظتان أحسبهما من عمري؛ أولاهما تلك التي أقف فيها أمام مجلد الموسيقى في اللابتوب، وتحديداً أمام "فيروز"، ولفيروز ميزتها؛ فهي إما أن تكون خيارك الشخصي جداً حين تغني "ضاق خلقي"، أو تصير صوتاً جماعياً حينما تأتي من شبابيك الجارات، أو من السيارات، ومن المحال صباحاً. حتى لو كانت تغني "صيف يا صيف"، الصيف الذي يبدو خطأً، يصير فجأةً لطيفاً. 

لكن اليوم انقطعت واحدة من هذه العادات، وصارت فيروز خياراً شخصياً وضيّقاً للغاية أحافظ فيه على كينونتي، كينونة سقط منها طعم الفانيلا من فنجان النسكافيه، وسقط معها الفنجان عموماً من تقويم الصباح… وسقطت تفاصيل كثيرة تجعلني أتساءل بينما ينقذون الحيوانات من حياة غزة:

هل ما زال بوسعي أن أكون بشراً عادياً؟ 

ترسل لي الصديقة "أمل"، بينما نحكي ساخرَين من شكل أغنيات أعوام الحرب: "الحمد لله على نعمة الموسيقى"، فنتوافق حدّ أن قلت لها: "لولاها علينا، لولاها علينا بس".

فأحرص أن أبقي شحنة اللابتوب تكفي للصباح من أجل أن أحظى بأهم شعور ما زال بوسعي أن أكون فيه عاديةً دون أن أفقد كينونتي، وأن أختار لحظةً يصير فيها التجني لطيفاً أو وقحاً. لا يهمّ!

فكل ما حدث يعلّمك أن تتجنى على كل شيء.

جدّي عاش انكسارات وكأنه أورثنا إياها دون قصد لمجرد الهوية، يتمثل أمامي مشهد جلسته وهو يروي لأخوتي الذين يكبرونني كيف ذهب في رحلة نحو حيفا فقط من أجل حفل أم كلثوم هناك، ثم في ما بعد ذهب في رحلة أخرى بعد هزيمة 67 خارج البلاد ليبحث في شكل الخريطة التي تشتّت فيها أقاربه

لحظة وأمضي نحو النهار، ليحاول كعادته تعريف الحرب، فيما الحرب تمضغ كل ما حولها لتصير أشدّ شراسةً وأقلّ قابليةً للفهم، لأطفئ العالم، وأختبئ في لحظتي المقدسة، وأبقي من حواسي ما يوهم الآخرين بأني ما زلت أتمتع بعلامات حيوية، ولأطأ رقبة الحياة الثقيلة وأمضي نحو لحظة أخرى تصلح لأن تسجّل في تقويم عمري. عند التاسعة مساءً بائع الفلافل تحت العمارة ما إن يفرغ من عجينته ينهي مهمته في صناعة "البديل" لذاكرة الطعوم، ويبدأ لحظته المقدّسة يحسب الغلة، ومن هناك تأتي "أم كلثوم" تحمل صوتها: "فات المعاد" ليومين قبل أن تفرغ البسطة من العجينة والزيت والحطب والنار أصلاً ثم إغلاق البسطة بعد نفاد كل شيء في السوق. الأغنية ذاتها تتكرر وأنا أسرق معه لحظته المقدسة تلك. أضيفها إلى قائمة اللحظات القليلة التي تستحق أن تعاش وما دون هاتين اللحظتين عمر مهدور على الفاضي في الحقيقة.

عرفت حين كبرت أن أغنية "فات الميعاد" تخصّ جدّي لوالدي، وهي أغنيته المفضلة. جدّي عاش انكسارات وكأنه أورثنا إياها دون قصد لمجرد الهوية، يتمثل أمامي مشهد جلسته وهو يروي لأخوتي الذين يكبرونني كيف ذهب في رحلة نحو حيفا فقط من أجل حفل أم كلثوم هناك، ثم في ما بعد ذهب في رحلة أخرى بعد هزيمة 67 خارج البلاد ليبحث في شكل الخريطة التي تشتّت فيها أقاربه، وعند الحدود الأردنية الفلسطينية انفجر فيه لغم، وفقد قدمه اليمنى بعد بترها. جدّي مات ليلة توقيع اتفاقية أوسلو في أيلول/ سبتمبر 1993. ما زلت في الخامسة، لكنني أعي شكل جدّي بينما يجلس على سريره الخشبي في غرفته أمام التلفزيون يتمايل ويهزّ كتفيه على صوت سميرة توفيق، وهي تغنّي "بسك تيجي حارتنا"، ويردّ: 

"زحف، باجيكي زحف"... 

جدّي الذي أفقده جيب إسرائيلي جدّتي حينما دهسها في طريقها إلى البيت عام 1974، عاش بقية عمره بعدها وحيداً كأنه لا يريد الاعتراف بخسارات أخرى بعد كل هذا سوى أمام التلفزيون حيث يشاهد سميرة توفيق، وإذا سكن صوت التلفزيون يمضي نحو موقد النار في ساحة بيته يغلي قهوته ويغنّي:

" فات الميعاد… وبقينا بعاد

طالت ليالي الألم

واتفرّقوا الأحباب… واتفرّقوا"...

كنت شاهدةً على هاتين اللحظتين كلما زرته برفقة أبي. حين كبرت ووقفت أمام صورة سميرة توفيق في التلفزيون أشير إلى أنني عرفتها من "سيدي". وحين سمعت "فات الميعاد" أول مرة عرفتها. كانت من هناك، من لحظة انكسار سيدي الذي يسكت إذا وصل إلى مقطع:

"وعايزنا نرجع زي زمان… قول للزمان ارجع يا زمان"...

وينشغل بنار موقده ليعيد أمامي فكرة الغناء وسرّه برغم الانكسار.

فهل الغناء يداوي انكساراتنا؟ أو أنه هزيمة أخرى ناعمة غير كل هذه الهزائم التي مرّت؟

جدّي الذي أفقده جيب إسرائيلي جدّتي حينما دهسها في طريقها إلى البيت عام 1974، عاش بقية عمره بعدها وحيداً كأنه لا يريد الاعتراف بخسارات أخرى بعد كل هذا سوى أمام التلفزيون حيث يشاهد سميرة توفيق، وإذا سكن صوت التلفزيون يمضي نحو موقد النار في ساحة بيته يغلي قهوته ويغنّي: "فات الميعاد… وبقينا بعاد"


منذ أن عاد فضل شاكر، بقوة، بعد مسلسل "يا غايب" الأخير الذي يحكي فيه قصته، وأغانيه تنافس حالة الانكسار والقهر الذي أعيشه، وكأنه يريد لي زمناً غير هذا الذي أنا فيه، حيث الموت خلفية ثابتة لكل تفصيل صغير في الحياة. تتغير وظيفة الفن، ويتحول الغناء من ترف اختياري إلى طقس وجودي، كأنّ فضل صُنع لا ليستهلك التسلية أو الذائقة، أو يمضي كرسالة قدر كل مرة كأداة تنقيب داخلي وبوصلة شعورية وسط هذا التشوش فيقدّم لنا مرةً أخرى تساؤلاً مغلّفاً بكل الاحتمالات المتوقعة في الإجابات ومساحات التأويل والخيال فيسأل:

"كيفك ع فراقي؟"... هي في الحقيقة عودة من منطقة عاطفية مهجورة، فبعد عزلة طويلة وبعد أن تراكمت فوق صورته طبقات من الجدال والسجال والغياب لا يعود ليسلّي ذائقتنا بتساؤل مغنّى. إنه يعود ليؤكد لي أنه يشبهنا تماماً نحن المنكوبين الداخلين إلى الحرب والخارجين منها، التائهين في الفراغ لايجدون ليقولوا سوى:

"كيفك ع فراقي". لا تبدو الجملة مجرد طرح تساؤل، بل هي صنعة السؤال بحد ذاته ليس بين اثنين أو جسدين، بل تطرحه على العالم كله، كأنها تسألنا جميعاً:

كيف أصبحنا بعد كل هذا الفقد؟

كيف هي حالنا بعد أن فقدنا المدن والأصوات والضحك والدفء؟

كيف نحيا بعد أن فارقنا أنفسنا دون أن نلاحظ؟ 

كان السؤال هذا يدور معي في جلسات لقاءاتي مع النساء اللواتي اختبرتهنّ الحرب بفقد غير محتمل لتأتي الإجابة بلا استثناء: "مشتاقون".

الأغنية التي تقدّم لنا وجبة انكسار على قسوتها، رقيقة تختبر مناطق كثيرةً تلغيها الحروب والقتل الممتد من الشمال إلى الجنوب في بلادنا بإجابة مغلّفة بـ"الفراق" ومرادفاته: "الوداع". لتبدو الأغنية كأنها ليست مجرد مقطوعة رومانسية، بل وثيقة صوتية عن الفقد الجماعي، تفتح أبواب الحنين على مصاريعها، ليلمح دون صراخ إلى أن المسافة لم تعد فقط بين شخصين بل بين الأحياء وما تبقى من الحياة. 

في كتابها "الالتفات إلى ألم الآخرين"، تناقش سوزان سونتاغ، مدى تأثرنا بالصور المروعة التي تخلقها الحروب، وأنّ كثرة الصور المفجعة يمكن أن تخلق نوعاً من تبلد الحس أو التخمة البصرية لنشعر بالحزن، ثم بالذنب، ثم بالتعب ثم لا نشعر بشيء، ويصبح الألم المكرر مشهداً عادياً، ويأتي الحل الذي يذكّرنا بكل ما تتجنى عليه الحرب: الموسيقى، ربما لأنها قادرة على أن تترجم الألم دون أن تخونه، لأنها لا تصفه بل تعيشه وهذا ربما ما جعل من "كيفك ع فراقي" تعيش الألم، وتجعلنا نقيم فيه دون أن نخوّنه، فالغناء ليس شكلاً من أشكال الترف بقدر ما هو أداة مقاومة لتذكيرنا بأننا لم نتحول إلى جثث تبلّد فيها الإحساس، بل ما زلنا نسمع الموسيقى ونستمتع بها. فلا يمكن أن أقرأ هذه الأغنية دون الانتباه إلى أنّ "فضل" لا يغني وحده، بل يشاركه الغناء ابنه محمد، وبهذا تبدو الأغنية مشهداً رمزياً لجيلين يغنّيان، وامتداداً لحالة توريث معنى القهر والانكسار؛ فالأب يغنّي ما خسره، والابن يغنّي ما ورثه من تلك الخسارة، وكأنهما يتقاسمان ذاكرةً ممزقة.

الأغنية التي تقدّم لنا وجبة انكسار على قسوتها، رقيقة تختبر مناطق كثيرةً تلغيها الحروب والقتل الممتد من الشمال إلى الجنوب في بلادنا بإجابة مغلّفة بـ"الفراق" ومرادفاته: "الوداع". لتبدو الأغنية كأنها ليست مجرد مقطوعة رومانسية، بل وثيقة صوتية عن الفقد الجماعي

"فات الميعاد" التي كان يغنّيها جدي، غنّتها أم كلثوم أول مرة في شباط/ فبراير 1967، وهو العام نفسه الذي شهد فيه جدّي انكساره الأول باحتلال القطاع، ثم انكساره الثاني بتر قدمه، ثم تتابع الانكسارات والخسارات… لكنه كان يختار من الأغنية ما يجعل هدف الغناء في زمن الانكسار والقهر هو الوصول إلى مناطق عاطفية مهجورة تردمها الحروب.

"وعايزنا نرجع زي زمان… قول للزمان ارجع يازمان"؛ كلما سمعت إخوتي يحدثونني عما أخبرهم به جدّي من أنه شاهد أم كلثوم في حيفا، أخال أنني أجلس في مقصورة أمامها وهي تغنّي وأنا ألوّح لها وأقول: "أنا اللي جالك سيدي من غزة لحيفا!".

وبعدها ألتقي بجدّي ونغنّي كجيلين شهدا كل الانكسارات، لكنهما ما زالا يغنّيان لأنّ الحروب قد تهزمنا، لكننا نريد حرباً أكثر سلاماً تقهرنا بنعومة غير كل هذه البشاعة ولو كانت سؤالاً ناعماً، بين سؤالين: "وعايزنا نرجع زي زمان؟"، و"كيفك ع فراقي؟". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image