كتبت في مقدمة كتابي للناشئة "تراثنا إن حكى بين القرية والمدينة"، أنّ غايتي من الوقوف على مظاهر التراث، لا تتوخى إيقاف الزمن، فالماضي بتجاربه يشكّل مختبر الزمن الآتي. نتوقّف عنده لنتأمّله ونتجاوزه بغير التنكّر له، بل الأصحّ أنّه مكوّن من مكوّنات ذاتنا الجمعيّة. وحين نذكر اسم فيروز، ولا أقول نتذكّر، لأنها حاضرة بأغنياتها في حياتنا اليوميّة، يتنادى تراثنا بفولكلوره، بوصفه ظواهر روحيّة وثقافيّة واجتماعيّة، وفرحنا بحنين خفي لا نقوى على تفسير سرّه.
يدمج أنيس فريحة في كتابه "حضارة في طريق الزوال" بين الطفولة والأنوثة في حديثه عن الفولكلور. فنحن ننجذب إلى براءة الطفولة في إضفاء الحياة على كل جماد، وإلباس أيّ ظاهرة لبوساً إنسانيّاً، وليس هذا فحسب، بل "فيه شيء من الأنوثة الحلوة، لأنّه في أكثره من صنع المرأة، ومن ذكريات العجوز". هذا تماماً ما تؤكده الفيروزيّات في غالبّيتها.
"يا دارة دوري فينا"... غياب وتصعّد
عندما تغنّي فيروز: "يا دارة دوري فينا ضلّي دوري فينا/تينسوا أساميهن وننسى أسامينا/تعا تنخبّى من درب الأعمار/وإذا هنّ كبروا نحن بقينا صغار" (كلمات الأخوين الرحباني، ألحان فيليمون وهبي)، تنقل صورة طفليّة واقعيّة لحركة الدّوران حول الذات في اللعب، ترافقها أصوات "آه" لا تنقطع إلّا حين السقوط أرضاً. يسقط الأطفال متضاحكين، ليقفوا من جديد ويكرّروا اللعب الدّائري. مَن منّا لم يجرّب هذه اللعبة الممتعة، ويختبر شعور الفرح في الغياب عن محيطه حين يختلّ توازنه، فيقع؟ غير أنّ في الأغنية أبعاداً روحيّة في فكرة الغياب ونسيان الزمن، وتغييب الوعي بالمكان من طريق الاندماج فيه، تحيل إلى رقصة الدراويش أو المتصوّفة.
"شتي يا دنيي"... استنزال المطر وسحر التحوّلات
يشكّل الرقص منفذاً لقراءة سلسلة من التحوّلات الاجتماعيّة والثقافيّة، بتحوّله من طقس ديني وعبادة إلى تعبير فرح، وتشكيل فنّي حركي. تنتمي تلك الطقوس إلى السّحر الانجذابي الذي يقوم على افتراض أنّ الحدث المرغوب في حصوله، يحصل إذا ما جرى تقليده أو الإيحاء ببعض عناصره؛ فتتشابه الرقصات الطقسيّة والممارسات الاحتفاليّة لدى شعوب حوض البحر المتوسّط.
عندما تغنّي فيروز: "يا دارة دوري فينا ضلّي دوري فينا/تينسوا أساميهن وننسى أسامينا/تعا تنخبّى من درب الأعمار/وإذا هنّ كبروا نحن بقينا صغار" (كلمات الأخوين الرحباني، ألحان فيليمون وهبي)، تنقل صورة طفليّة واقعيّة لحركة الدّوران حول الذات في اللعب
الاحتفال الطّقسي بالاستسقاء على سبيل المثال، يعبّر عنه الغناء الشعبي "أم الغيث" في الأردن: "يا أمّ الغيث غيثينا/هزّي غيماتك واسقينا"، و"أم الغيض" في لبنان: "يا أم الغيض غيضينا/شتّي بأراضينا". ذلك في الابتهال إلى السماء الأم أن تنزل المطر على ابنتها الأرض. يماثله في دول البلقان احتفاليّات شعائريّة بطواف عذارى في القرى يرقصن حول "الدودولا" (وهي فتاة عارية مكسوّة بالأعشاب والأزهار)، يطرقن الأبواب فتخرج ربّات البيوت ويرششن الماء على الفتاة فيما الموكب ينشد: "نمضي في القرية/تمضي الغيوم في السماء/نمضي أسرع/أسرع من الغيوم/ولكن ها أنّ/الغيوم تجاوزتنا/وبلّلت شتلات الذرة والدّوالي". وإلى الشغف الشعبي باستنزال المطر ربما تعود جذور أغنية فيروز "شتّي يا دنيي تيزيد موسمنا ويحلا/وتدفق مي وزرع جديد بحقلتنا يعلا" (كلمات وألحان الأخوين الرحباني).
يا ستي... بيتك حكاية لبنان وفي صوتك لون الكروم
في أغنيتين للجدّة، ويطلق عليها بالمحكيّة نداء "يا ستّي"، يحضر معجم الضيعة اللبنانية، في البيت وما يؤثثه، وفي الطبيعة وما يجمّلها، والإنسان وما يفعله. "بيتك يا ستي الختيارة بيذكرني ببيت ستي، تبقى ترندحلي أشعارها والدنيي عم بتشتي". لبنان بلد زراعي بجبله وبقاعه وجنوبه وشماله. ساحله أو مدنه لا تخلو من النكهة القرويّة، لأن غالبيّة سكانها من القرى. وثمة تقليد أسبوعي، لمن يجهل، برحلة نهاية الأسبوع من بيروت باتجاه الشمال والجنوب والجبل، ومع بداية يوم الاثنين رحلة عودة صوب بيروت بأشغالها وحركتها الدؤوب. فإن لم تملك العائلة بيتاً في مسقط الرأس، فالزيارة تكون لبيت العائلة الكبير، للأبوين والعجزة، للكرم والحقل والحاكورة، وللجنينة، على أقل تقدير.
ذاكرة الجيل الجديد تفتقر لكثير من التسميات لمسمّيات لم تعد متداولة أو في مرمى نظرها. ففي أغنية "بيتك يا ستي" تطرق مسامعنا ألفاظ مثل الزبيب (العنب المجفف)، واليوك (خزانة في الحائط). وفي أغنية أخرى من مسرحية "ميس الريم" تغني زينون (فيروز) لضيعتها كحلون، مهاتفة جدتها: "ستي، علّي صوتك، صوتك بعيد جايي من الكرم، جايي من التفاح. صوتك حامل شمس وفَيّ [فيء]، لون التين والزيتون... وريحة الطيّون [نبات عطري برّي]". (كلمات وألحان الأخوين).
"أنا وشادي"... تخبر عن الحرب بألعاب الطفولة
جماليات الكلام أن تصف القبح بجمال، وأن تحكي عن الحزن بفرح، وأن ترسم لوحات ثلجيّة تخفي سواد الأحداث واسوداد النفوس، بعيداً من النبرة الخطابيّة. والجمال البلاغي في أغنية "أنا وشادي" هو اتخاذها من الطفولة وألعابها وبراءتها ورمزيتها حكايةَ لبنان الذي ما زال يحبو رغم عتق التاريخ والأصالة الحضارية فيه. في الحكاية اقتسام للآلام وتخفّف من وطأتها وتنبيه إلى اغتيال الطفولة في وطن أنهكته الحروب:
"من زمان أنا وزغيرة كان في صبي/ إلعب أنا ويّاه كان اسمو شادي/ويوم من الإيام ولعت الدني ناس ضد ناس علقوا بهالدني/وصار القتال يقرّب ع التلال/ وعلقت ع طراف الوادي شادي ركض يتفرّج/خفت وصرت اندهلو: وينك رايح يا شادي؟/ اندهلو وما يسمعني ويبعد بالوادي/ومن يومتها ما عدت شفتو/ضاع شادي/ والتلج إجا وراح/التلج عشرين مرة إجا وراح التلج/ وأنا صرت إكبر/وشادي بعدو زغيّر عم يلعب ع التلج" (كلمات وألحان الأخوين الرحباني). لعلّ الذاكرة تحتمل فائض ما مرّ من عنف عندما تنسج التاريخ تخييلًا.
"بحبك ما بعرف"... أن تحبّ الفتاة من الوشوشة
استمتاعنا لصوت فيروز ينبغي ألا يحجب عنّا متعة الفهم، وتأمّل المعاني وإن بدت بسيطة، فهي ذات محمول سيكو-ثقافي يغرف من الأنساق الثقافية الشرقية. الفتاة اليافعة في زمن ليس ببعيد، وربما في كلّ زمن قد تعشق من الهمس ومن مديح شاب لم تتعرّفه بعد، ويحدث أن تعقد الخطوبة لدى بعض الجماعات "عَ السمع". والشاب ليس بمنأى أحياناً عن هذه الأعراف الاجتماعيّة. ولنا مثال في ما جاء في هذه الأغنية (من كلمات سعيد عقل وألحان الأخوين): "بحبّك! ما بعرف، هنّ قالولي/من يومها صار القمر أكبر/بحبّك ما بعرف حبّ لا تشدني بإيدي/اتركني بعد بكّير".
الجمال البلاغي في أغنية "أنا وشادي" هو اتخاذها من الطفولة وألعابها وبراءتها ورمزيتها حكايةَ لبنان الذي ما زال يحبو رغم عتق التاريخ والأصالة الحضارية فيه
فالحبّ حلم وتخييل بوصفه حاجة وجدانيّة، وإن غاب شخص الحبيب وخُلق صورة في الخيال قد تتعملق لتغدو "صرحاً"، ولعلّ الحلم يتجسّد وفق فلسفة "ما نحلم به نصيره". لم يبتعد نزار قباني عن هذه الفكرة حين قال: "الحب في الأرض بعض من تخيّلنا/لو لم نجده عليها لاخترعناه". في الدلالات نفسها غنّت فيروز "قديش كان فيه ناس عالمفرق تنطر ناس/وتشتي الدني ويحملوا شمسية/وأنا بأيام الصحو ما حدا نطرني/ نطرت مواعيد الأرض وما حدا نطرني/ صارلي شي مية سنة عم ألّف عناوين/ مش معروفة لمين/ ووديلهم أخبار.." (كلمات الأخوين منصور وعاصي-ألحان زياد الرحباني).
الحبّ وفصوله... لماذا الشتاء قدر المرأة في الانتظار؟
عود على بدء، والبداية مع ما تنزله السماء من مطر وحكايات حبّ. فالأجواء الشتويّة الماطرة تغشى الفيروزيّات. هذا ليس غريباً في بلد مثل لبنان يتمتّع بفصول أربعة، ثلاثة منها يتخلّلها المطر. ولذا، فإنّ النهايات ترتبط أيضاً بالشتاء. كأنّ للحبّ دورة زمنية ناظمها الشتاء بما يُحيي ويميت في أرض تتلقاه من الأعلى، ونفوس لا تفتأ ترسل نظرات رجاء صوبه. في أغنية "حبوا بعضن تركوا بعضن" رسم للبدايات والنهايات في العلاقة، وفي أخرى تأكيد أنّ الإنسان بقصصه ابن هذه الأرض لا يخرج عن مدارها: "حبيتك بالصيف حبيتك بالشتي"، وفي ثالثة ذكريات مستعادة مع أجواء الشتاء الحزينة "رجعت الشتويّة ضلّ افتكر فيي".
هل يصبح الفراق أقلّ تعذيباً إذا ما شاركتنا به الطبيعة؟: "بديت القصة تحت الشتي بأول شتي حبوا بعضن/وخلصت القصة بتاني شتي وتحت الشتي تركوا بعضن" (كلمات الأخوين، ألحان زياد الرحباني). والسؤال التالي لا يتعلّق بانتظار الحبّ وحسب، بل بانتظار المرأة حبيبها: "شتوية وضجر وليل وأنا عم بنطر على الباب". وقد يفوتها ميعاد العمر فتذبل قهراً وتحسّراً: "بأيام البرد وأيام الشتي/تجي هاك البنت من بيتها العتيق/ويقلّا انطريني وتنطر عالطريق/ويروح وينساها وتدبل بالشتي/نطرتك بالصيف نطرتك بالشتي/ وعيونك الصيف وعيوني الشتي" (كلمات وألحان الأخوين الرحباني).
أغاني فيروز سجلّ اللبنانيين، بل سفر الإنسان متجاوزاً الأمكنة وممتداً في الأزمنة. هي بلاغة البساطة تضعنا خلف غلالة بقدر ما تحجب تكشف، وكلّما أشرفنا على عالمنا المعيش لامسنا عوالمنا الداخلية وأمعنا تأملاً فيها. متعة تولّدها عناصر جمالية (الصوت، الكلمة، اللحن) كأقانيم ثلاثة تتوحّد في حالة تعصى على الإمساك بها لتفسيرها، إذا ما أردنا إضاءة ما يحدث معنا حين نستمع إلى الفيروزيات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...