للكتابة حياة خاصة، لا تكون إرادة الكاتب فيها هي الفاعل الوحيد، فقراءة أي رواية بل ومشاهدة لوحة فنية، ينطوي على مشاركة من المتلقي في صناعة المنتج الإبداعي، عندما يضفي تفسيراته الخاصة على هذا المنتج وعناصره. ويبرز هذا الدور كلما كان العمل الإبداعي ذا بنية تسمح للمتلقي بممارسة دور الشريك عبر التلقي، كما في بنية رواية "تماثيل الجان"، أحدث أعمال الكاتبة والصحافية المصرية سمر نور.
تظل دوائر الأحداث في "تماثيل الجان" مستقلة ومتوازية في مجرى الرواية، حتى يظهر مفتاح وحدتها، ممثلاً في شخصية "دينا" الحبيبة الغائبة، التي يحبها البطل "عمر" ويشاركه في حبها جني، وتستمر الحكاية لنقف أمام رواية يُعدّ بناؤها بطلاً أساسياً في السيطرة على عملية تلقيها، إذ تُبنى الرواية على تقديم الأحداث وتأخيرها، ودخول الشخصيات وإختفائها في مواقيت محسوبة. الرواي هنا ليس شخصاً واحداً، فلكل رواية روايات بديلة تدور حول صور من الواقع وتهرب من أساطير تحيطها.
تترك سمر نور خيوط التلقي للقارئ على أن تقبض هي على نهاياتها، فيما يتسق مع نظرتها للكتابة باعتبارها "لعبة" تحب أن تشاركها مع القراء الذين تنظر إليهم باعتبارهم "رفاق لعب".
تترك سمر نور خيوط التلقي للقارئ، على أن تقبض هي على نهاياتها، فيما يتسق مع نظرتها للكتابة باعتبارها "لعبة" تحب أن تشاركها مع القراء الذين تنظر إليهم باعتبارهم "رفاق لعب"
لعبة التجريب
تشكل التجربة الروائية للصحافية سمر نور حالة خاصة، فلا يمكن الإمساك بنقطة بداية واحدة تؤرخ لميلادها ككاتبة، فهي تكتب منذ طفولتها. كان أول نص مكتمل هو قصة طويلة يمكن اعتبارها "نوفيلا" كتبتها وعمرها 12 عاماً، توقفت بعدها عن الكتابة بعض الوقت، وعادت إليها في حقبة الدراسة الجامعية، وفازت بجائزة في مسابقة بالكلية، ثم فوجئت بنشر قصة لها في "إبداع" الصادرة عن وزارة الثقافة، كانت قد أرسلتها أملاً في نشرها في باب بريد اقراء، إلا أن القصة حظيت باهتمام إدارة التحرير فنشرتها بين إبداعات كبار الكتاب. ثم كان فوزها بجائزة نادي القصة وهي ما زالت طالبة، وربما البداية الحقيقية أتت متأخرة قليلاً، إذ نشرت مجموعتها الأولى "معراج" في العام 2004، بعد نحو خمس سنوات من حصولها على جائزة نادي القصة.
منذ مجموعتها الأولى ظهر اهتمام نور بالتشكيل البصري، إذا صدرت معراج باعتبارها "مجموعة قصصية تشكيلية"، شاركتها فيها صديقتها الفنانة التشكيلية حنان محفوظ، وهو ما تكرر لاحقاً في روايتها "محلك سر" التي تقول إن حياة وأعمال فان غوغ، كانت من عناصر إلهامها خلال العمل عليها.
أما في روايتها الأحدث "تماثيل الجان"، فجاءت أعمال التشكيلي المصري البارز عبدالهادي الجزار لتكون هي الحافز البصري للعبة سمر نور الجديدة.
سحر وجان وأثر فنان
عبر الصفحات الأولى للرواية تسكن شخصيات لوحات الفنان التشكيلي عبد الهادي الجزار، تضعها البطلة الغائبة خلفية لجهاز اللاب توب الخاص بها، تبحث عنه في بشر يطلون من مرحلته السحرية.
تقول سمر نور لرصيف22 : "حين تأملت التفاصيل، شعرت أنني بحاجة إلى تتبع أثر أبطالي وأثر الجزار معاً، من السيدة زينب حيث جلست في انتظار مجاذيب الجزار، إلى الإسكندرية، تحديداً حي القباري، حيث سافرت بحثاً عن البحر كما وصفته دنيا، في الحي الذي ولد فيه الجزار، وكأن النبش في أعماق أبطالي مرتبط باقتقاء أثر الجزار وفنه في مراحله المختلفة. فتأثير الجزار عليّ وعلى روايتي، امتد من مرحلته السحرية ولوحات مثل ‘عاشق من الجن’ و’المجنون الأخضر’، إلى مرحلته الأخيرة، حيث المدينة المتخيلة في لوحاته".
هيا بنا نلعب
عند قراءة الرواية، ستشعر أنك أمام لعبة تمارسها الكاتبة معك كقارئ ببراعة تامة، تمارس لعبة عبر الصوت الذي تفضله لتعلن أن لا منتصر في هذه اللعبة، فالمنتصر مهزوم بالفعل منذ أزمنة سحيقة، تجعل الحب لعبة محاطة بالأساطير، ومن خلال الحبيبة الغائبة تسرد تاريخ كوكب فانٍ، لم يبق من أثره شيء للعيان، ولا نعرف من استطاع إنقاذ التمثال الوحيد المسكون بالحكايات الذي يحتل موضعاً مركزياً في الحكاية الكبرى.
الجني مثله مثل سيدته ومثل عمر، مخلوقات منحت معارفها الأولى، اسمها، جنسها، ديانتها، لغتها، وحكايات ما مضى من الزمن، ولا تختبر تلك المعارف إلا بالخروج من سجنها، ومعاينة ومساءلة المعرفة المتوارثة كسجن نعيش فيه ولا يمكن الفكاك من سطوته
عبر سطور الرواية، تمرر الأسطورة، وعن ذلك تقول الكاتبة: "الفنون تتداخل على مستويات مختلفة، هناك قصص وروايات تستدعي أعمالاً بعينها، أو تستدعي بنية سرد متأثرة بفن آخر، في كل أعمالي تقريباً، هناك حضور للفن التشكيلي والسينما والموسيقى بدرجة كبيرة، كانت مجموعتي القصصية الأولى ‘معراج’ قصصية وتشكيلية، بعض النصوص كتبت من وحي لوحات وبعض اللوحات كانت من وحي قصة، وهناك نصوص ولوحات كتبت ورسمت في نفس اللحظة أثناء ورشة عمل مع الفنانة التشكيلية حنان محفوظ. في روايتي الأولى ‘محلك سر’ عمل كل منا على نفس الفكرة وداخل نفس العالم منفرداً، لم تر حنان سوى الفصل الأول من الرواية، ولم أر أغلب لوحاتها إلا بعد إنتهاء التجربة. أهوى اللعب بالفنون، بتجاورها وتكاملها. على مستوى آخر في رواية محلك سر ستجد بناءً سينمائياً وحضوراً قوياً لعالم فان غوغ، وفي تماثيل الجان كان عالم الفيديو جيمز إضافة أخرى لعوالم الفنون التي أهوى الاشتباك معها. على مستوى الحكايات والبنية أيضاً".
جني في زجاجة... جني في تمثال
يحلينا إسم الرواية إلى الجني المحبوس في تمثال بأمر سيدته ومولاته، التي منحته اسمه وحكايته كجني التماثيل، وريث البِن والحِن، الذي سكن الأرض قبل البشر. كانت كل معارفه في بداية الرواية مستقاة من دنيا، البطلة المروي عنها، ربما يبدو العنوان هنا مباشراً، إذا اعتبر نابعاً من تلك الفكرة، لكن الجني يخرج من التمثال ليتتبع أثر سيدته، ومع كل فصل في الرواية تزداد معارفه وتكتسب أبعاداً مختلفة عن سردية دنيا، ليتحول العنوان لمعنى أكبر، الجني مثله مثل سيدته ومثل عمر، مخلوقات منحت معارفها الأولى، اسمها، جنسها، ديانتها، لغتها، وحكايات ما مضى من الزمن، ولا تختبر تلك المعارف إلا بالخروج من سجنها، ومعاينة ومساءلة المعرفة المتوارثة كسجن نعيش فيه ولا يمكن الفكاك من سطوته، إلا إن إنكاره تماماً أو التملص منه قد يقودان إلى الجنون.
"حين يتوقف الحكي، تنتهي السيرة"
وعن العنوان تقول سمر: "الحقيقة، كنت أرغب في تغيير عنوان الرواية، لما يمكن أن يحيل إليه من أجواء الرعب أو السحر وما إلى ذلك. كانت لي تجربة سابقة مع مجموعة قصصية بعنوان "في بيت مصاص دماء" كانت أقرب إلى أجواء الفانتازيا الواقعية، لكن عنوانها أحال البعض إلى عوالم دراكولا ومصاصي الدماء، لكني فشلت في إيجاد عنوان يمس صلب العمل مثل عنوان ‘تماثيل الجان’".
وتواصل: "العنوان كعتبة للنص قد يكون مضللاً إذا تعاملنا معه بدلالاته المباشرة، لكن دائماً هناك قراءات متعددة".
شتات أم وحدة؟
في الأدب العالمي أعمال متميزة تلعب وحدة المكان فيها دوراً رئيسياً، منها رواية بيت الموتى لدستويفسكي عن معتقله في سيبريا، ورواية الكاتب الأمريكي جون شتاينبك التي ترجمت إلى العربية بعنوان "شارع السردين المعلب"، ورواية زقاق المدق لنجيب محفوظ، هذه الأعمال وما يماثلها يكون التركيز فيها على علاقة التأثير المتبادل بين المكان والأشخاص، أي كيف تتأثر هذه العلاقات بحدود المكان، فالمعتقل في رواية دستويفسكي يكشف أقبح ما في الإنسان وكذلك أنبل ما فيه، والشارع الفقير عند شتاينبك الذي يكاد الفقر أن يصهر فيه الفوارق بين المتعلمين والحرفيين والهامشيين بمن فيهم البغايا، والبيئة الشعبية عند محفوظ التي تقاوم التفكك رغم انغلاقها فتنجح حيناً وتفشل أحايين أخرى. وفي رواية تماثيل الجان، فإن نهجها يختلف تماماً عن روايات المكان بالمعنى السابق، فهي لم تركز اهتمامها على العالم الداخلي للمكان، فالمسرح الفعلي لأحداث الرواية يشمل مواقع وأماكن مختلفة، وعلى امتداد تلك الأماكن، تشغل الأسطورة حيزاً كبيراً على ذلك المسرح المتنوع، هنا تقبع أماكن متعددة: السيدة زينب، بيت العائلة، بيت عادي في حي الدرب الأحمر، سطح عم ضياء، القبور، شارع قصر العيني من ناحية المنيل، ميدان التحرير الذي يعكس ثورة 25 يناير، ضريح القباري بالإسكندرية، وساحة الحاكم بأمر الله.
لا مركزية الثورة
تبدأ الرواية بما رواه عمر، وعمر أزمته تسبق الثورة، رجل من طبقة وسطى تحاول التمسك بمكانها في السلم الإجتماعي بصعوبة، متعلم متباهٍ بثقافته، ولا يدرك إزدواجيته، الرواية تبدأ معه في لحظة ضعف ومرض تنكشف فيها كل تلك التناقضات، مع تاريخ عائلي يضج بالخرافات والأساطير ومتماهٍ مع أمراض ذهانية. الثورة تأتي في الرواية متأخرة كحدث كبير، لتصبح كدخان يكمل صورة الأسطورة في الرواية، وما تلا الثورة من سنوات تقلبت فيها الوجوه وتحطمت فيها الأحلام، لطمت عمر ونفسيته الهشة، وتشوش رؤيته، كما أثرت على أخته ريم رغم قوتها، ومحاولاتها البدء من جديد، وعلى خطيبها زياد الذي أتى من الهامش متطلعاً للحاق بعربة الطبقة الوسطى، ليجد الحياة تصدمه بجدار صلب من الواقع المركب. نعم صنعت سمر نور عالماً ذهانياً بامتياز، الكل مسجون فيه داخل قوالب صنعت أطرها، عقول من زمن آخر، قوالب أكبر من قدرة الحالمين، والسجن كان مصير زياد كما كان مصير الجني من قبله، والحرية منحها الجني لزياد في خط الرواية الأسطوري، فلا نعرف إذا كان حقيقة أم هو جزء من ذهان الخط الواقعي.
حضور الأساطير
في الرواية تحضر الأسطورة بقوة، ولك أن ترى أن تلك الأسطورة تفسر الواقع، أو ترى أن الحياة والشخوص هم من يصنعون الأسطورة لأغراضهم، فالأسطورة تفسر الحياة، والقراءة المتأنية للرواية تثبت لنا أننا أمام كاتبة تتمتع بنوع من المكر الفني، تقول نور لرصيف22: "يمكن أن أقول إن الحكايات والأساطير المروية في نصي متأثرة بنصوص من ثقافات مختلفة، ومشتبكة مع الواقع المعاش، كما تشتبك أساطير ألعاب الفيديو جيمز مع الواقع ومع المرويات السابقة. النص يتبنى فكرة أن الحكايات تتناقل من زمن يسبق معارفنا ذاتها، وأن وجودنا مرهون ببقاء الحكايات، مهما تغيرت تفاصيلها. فسرديات البشر عن نشأة الكون ومحاولاتهم لتفسير ما لا يدركه العقل ولم يثبته العلم ستستمر عبر الحكاية، حتى أن الجني في النص يرى أن استمرار وجودنا مرتبط بالحكايات المتواترة التي لا تنتهي، وحين يتوقف الحكي تنتهي السيرة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون