شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"الكل في حضرتها يطلب وهو متطمّن"... موالد العذراء في مصر أعياد للشفاعة والبركة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 8 يونيو 202204:48 م


يا عدرا يا أم الحبيب... نورك فج على الصليب

يا عدرا يا أم النور... اظهري لينا ظهور

نورك بان ع الصلبان... رشوا الورد والريحان

ثمة علاقة روحية خاصة تجمع المصريين، مسلميهم ومسيحييهم، والسيدة العذراء مريم أم المسيح. يعظمونها ويتبركون ويتشفعون بها أكثر من أي قديس أو ولي آخر.

لكن ليس مثل "الصعايدة" في الوله والهيام في حب "أم النور"، ولمَ لا وقد باركت السيدة مريم أرض الصعيد بزيارتها والاختباء في مغارات جبالها، وطافت ببلدانها خلال ثلاث سنوات قضتها ووليدها أثناء هروب العائلة المقدسة من فلسطين إلى مصر.

توجد موالد عديدة للاحتفال بالسيدة العذراء في المحافظات المختلفة، من الريدانية في المنصورة (أقدم كنيسة كرست للعذراء في مصر)، والعذراء والملاك ميخائيل في دقادوس بالغربية، وكنسية العذراء بالزيتون في القاهرة وغيرها مما ترصدها دراسة "المعتقدات والأداء التلقائي في موالد الأولياء والقديسين" بجزئيها الصادرين عن المركز القومي للمسرح والفنون الشعبية في مصر.

ليس مثل "الصعايدة" في الوله والهيام في حب "أم النور"، ولمَ لا وقد باركت السيدة مريم أرض الصعيد بزيارتها والاختباء في مغارات جبالها، وطافت ببلدانها خلال ثلاث سنوات قضتها ووليدها أثناء هروب العائلة المقدسة من فلسطين إلى مصر

أغلب تلك الموالد ترتبط بمناسبات "ظهور" السيدة العذراء، أي تجليها للمؤمنين والعابرين فوق قباب الكنائس، في مناسبات الضيق والهزيمة التي يمر بها المصريون، وما أكثرها في تاريخهم. لكن موالد العذراء (العدرا) في الصعيد قائمة على حقائق تكاد تكون مؤكدة ترتبط بإقامتها ووليدها وخطيبها القديس يوسف النجار في المواضع التي كرست عليها تلك الكنائس لاحقاً.

 ويقع في الصعيد أهم ثلاثة أديرة باسم السيدة العذراء مريم، أولها دير "جبل الطير" بسمالوط، و دير "المحرق" بالقوصية، ودير العذراء بجبل "درنكة" في أسيوط، آخر محطة للعائلة المقدسة في هروبها، قبل عودتها مرة أخرى لفلسطين بعد موت "هيرودس". ويقيم أهل الجنوب الموالد بهذه الأديرة تباعاً، بداية من تاريخ تذكار دخول العائلة المقدسة لأرض مصر. وفي الأسبوع الأخير من مايو/ أيار امتداداً إلى مطلع الاسبوع الثاني من يونيو/ حزيران الجاري، أقيم مولد السيدة العذراء في الدير الذي يحمل اسمها بجبل الطير بسمالوط، في محافظة المنيا.

أغلب تلك الموالد ترتبط بمناسبات "ظهور" السيدة العذراء، أي تجليها للمؤمنين والعابرين فوق قباب الكنائس، في مناسبات الضيق والهزيمة التي يمر بها المصريون، وما أكثرها في تاريخهم

يمتد مولد العذراء في جبل الطير أسبوعاً كاملاً بعد انتهاء الفلاحين من حصاد القمح. وبعد فض المولد الأول بخمسة عشر يوماً فقط، يبدأ مولد العذراء في دير "المحرَّق" بأسيوط لمدة خمسة عشر يوماً. وذلك بمناسبة ذكرى تكريس أول كنيسة على اسم السيدة العذراء مريم في مدينه فيلبي الذي يوافق 21 يونيو/ حزيران. وتنتهي سلسلة موالد العذراء بالمولد الأضخم في مصر، بجبل "درنكة" في أسيوط أيضاً، ويمتد المولد طوال فترة صوم العذراء مريم (من 7 إلى 22 أغسطس/ آب)، تزامناً مع عيد صعود السيدة العذراء إلى السماء، وهو نفسه عيد تجليها فوق كنيسة العذراء في الزيتون بالقاهرة، حيث يسود الاعتقاد أن السيدة العذراء تجلت للمصريين في محنتهم بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967، لتساندهم وتبشرهم بقرب انفراج الكرب.

يا ست العدارى

يا فخر الإمارة

مدحك فيه تجارة

ونصرة للنصارى

يا زينة العرايس

وعمار الكنايس

مدحك في المجالس

رحمة للنصارى

(مديح شعبي من مخطوط قديم)

مائة وسبعة وعشرون درجة، هي عدد درجات السلم الأثري العتيق الذي يجب على الزوار صعوده لزيارة الكنيسة الأثرية في حضن الجبل، وهي المغارة التي اختبأت فيها العائلة المقدسة ثلاثة أيام، في "جبل الطير" قبل أن تواصل ترحالها إلى الجنوب.

يتذكر مينا رؤوف زياراته مع أسرته وهو صغير للدير كل عام، فهو من مدينة ملوي، وتعوّد والده اصطحاب أسرته لموالد العذراء الثلاثة في طفولته. يقول لرصيف22: "كان أبي يحملني على كتفه ويصعد درجات السلم، ومن خلفه أمي تحمل شقيقتي وباقي إخوتي يحملون الحُصْر والنذور. نتوقف قليلاً لنلتقط أنفاسنا ثم نكمل الصعود، والناس يصعدون وينزلون ويرتلون للعذراء ويحملون الأيقونات والهدايا التذكارية".

اليوم يحمل مينا طفلته الصغيرة كما كان يفعل معه والده، وبصحبته زوجته ووالدته، يصعدن معه نفس الدرجات، سعيدات رغم مشقة الصعود، وإنشاء طريق بالأسفلت للسيارات لتصعد وتهبط من مدخل الدير وإليه، ويعلق مينا بقوله: "ناس كتير زيي ما تحسش بمتعة الزيارة، إلا لو طلعنا السلم على رجلينا، وفيه ناس بيبقى عليها ندر تيجي من بلدانها مشي على رجليها، خصوصاً القرى اللي حوالين الدير".

أكثر من مليوني زائر يأتون في أسبوع حب وتمجيد أم النور، والتبرك بالكنيسة الأثرية، التي شيدتها الملكة هيلانة والدة الأمبراطور قسطنطين (328م) في القرن الرابع الميلادي، في موقع المغارة التي يعتقد أن العذراء اختبأت فيها، وتعد الكنيسة حسب تصنيف اليونيسكو من أهم 13 مزاراً حول العالم، وثاني أبرز محطة للعائلة المقدسة، بعد دير "المحرق".

جبل الكف والبكرة والبوقروس

تقول الأسطورة هنا إن ساحرة شريرة كانت تسكن هذا الجبل، علمت بمجيء العائلة المقدسة، ورأتها تعبر بمركب صغير ضفة النهر من الغرب إلى الشرق فألقت الساحرة على أفرادها الثلاثة صخرة عملاقة من أعلى الجبل لتقتلهم، لكن الطفل يسوع رفع كفه فتوقفت الصخرة ولم تصبهم بأذى، وصعدت العائلة المقدسة أعلى الجبل، وهربت الساحرة لتبحث لنفسها عن مكان أخر، لذلك يطلق على جبل الطير أيضاً اسم "جبل الكف"، نسبة إلى هذه القصة، لكن ثمة اعتقاداً أن الاسم حُرّف من مغارة الكهف إلى الكف. فيما جاء اسم "جبل الطير" بسبب استخدام طيور البوقيراس للجبل كمخبأ لها أثناء هجرتها من أوروبا.

"مسلم أو مسيحي، مؤمن بالشفاعة، ولّا بينكر وجود القديسين والأولياء والمعجزات من أصله، كل دول ييجوا عند العدرا مريم وتختفي الفروقات والطوائف، الكل في حضرتها يطلب وهو متطمن إنها مش هاترده خايب"

وفي القرون الأولى التالية على ميلاد المسيح، أطلق عليه السكان المحليون اسم "جبل البكرة"، بسبب استخدام الرهبان لبكرة عملاقة في عمل مصعد بدائي من الحبال والخشب، حسب شنودة عادل، أحد سكان القرية، والباحث في تراثها، ضمن مبادرة ثقافية بالقرية، ويضيف لرصيف22: "المولد ماحدش فاكر من إمتى بالظبط كانت مجرد زيارات صغيرة بتحصل بعد عيد القيامة وشم النسيم، ولحد عيد الصعود. و لما الزوار كترت والمكان أصبح ضيق على الخيام والبياعين اللي بيسترزقوا في المولد ببيع الحلويات والسوداني والحمص ورسامين الوشم. أصبح مافيش مكان للمبيت، فبدأ أهالي القرية يأجروا غرف بيوتهم، سواء مسلمين أو مسيحيين. ومن عادة بعض الزوار تقديم ذبائح كنذور للعدرا، يأكل منها الفقراء".

ويشير شنودة إلى أن الزوار هنا لا يمكن أن يفرقوا بين المسلم والمسيحي، ويقول: "مسلم أو مسيحي، مؤمن بالشفاعة، ولّا ينكر وجود القديسين والأولياء والمعجزات من أصله، كل دول ييجوا عند العدرا مريم وتختفي الفروقات والطوائف، الكل في حضرتها يطلب وهو متطمن إنها مش هاترده خايب".

من ناحية أخرى يتمنى شنودة أن تهتم الدولة ممثلة في وزارة السياحة بالقرية والدير، الذي يلاقي الإهمال، ويتعامل معه المسؤولون المحليون باعتباره "سبوبة" لا أكثر، دون أي تطوير في خدمات القرية أو حتى البحث في سبل راحة زوار الدير.

 شي لله يا أم النور

جينا نتبارك ونزور

التعبان يطلب الراحة

والعليل يطلب الشفا

الراجل يطلب الستر والرزق

العاقر تطلب العوض

وأم البنات تطلب الولد

وأم الغايب تطلب رجوعه

وأبو البنات يطلب يسترهم

ونعيش ونزورك يا عدرا

ونقيد في شموعك يا عدرا

(من الأهازيج الشعبية المتوارثة للعذراء)

أيقونة النذور داخل مغارة اختباء العذراء ومعها المسيح والتي كرست فوقها كنيسة جبل الطير - موقع مصرالمباركة

مغارة صغيرة في حضن الجبل، يقف خارجها ألوف البشر ينتظرون دورهم للدخول والتبرك، ولمس برواز الأيقونة الأثرية للسيدة مريم وطفلها. في البرواز العتيق للصورة، عشرات الأوراق الصغيرة والمناديل الورقية، مطبقة بعناية بحجم صغير يمكن لصاحبه دسه بين البرواز والصورة. رسائل عديدة يحملها البرواز ومن حوله حامل الأيقونة، وهناك طلبات وشفاعات لوالدة الإله لتحقق للمؤمنين الأماني والمعجزات الصغيرة: أم تطلب العون والفرج لزوجها، والطلاب يطلبون النجاح، والمرضى يتشفعون بالعذراء لينالوا الشفاء. وصندوق زجاجي كبير، به العديد من العملات الورقية المختلفة، وبعض المصوغات الذهبية، كلها نذور وتبرعات من الزوار للدير، وفي الأخير يشعل الزائر شمعة ويتلو صلاته، ويخرج ليدخل غيره لنيل البركة.

 "أم كاراس" جاءت بصحبة أسرتها لتفي بنذر "عمنول" أي العام الماضي، بعد ما قضت لها العذراء طلبها في الميعاد، تخلع أم كاراس سلسلة ذهبية من رقبتها، وتشهد عليها الزوار، قائلة بصوت مرتفع بسعادة غامرة: "الندر اللي عليا وفيته يا أم النور، وأنتي عمرك ما اتأخرتي"، وتزغرد مسرورةً في المغارة الضيقة. طفل صغير يحاول لمس الصورة وهو على كتف أمه، بينما تقف في خشوع شابة صغيرة في الركن تصلي وهي مغمضة العينين، وكأنها في مكان آخر لا يصلها من الضجيج الذي يحوطها شيئاً. وفلاحة عجوز ترقص فرحاً في الخارج على أصوات التراتيل، وهي تنتظر الدخول. كرنفال شعبي مهيب في حب السيدة العذراء، سيتكرر بعد أقل من نصف شهر في دير المحرق، ومن ثم يزحف المريدون إلى دير "درنكة"، بعد حصاد محصول الذرة الشامية، ليختتموا السنة الزراعية في حب "أم النور".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard