شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"النجاة"... استعادة "عبثية" لمسرح نجيب محفوظ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحريات الشخصية

الأحد 19 يونيو 202204:35 م

في أعقاب الهزيمة العسكرية المسماة بـ"نكسة" 1967، عمت مصر حالة من اليأس والإحباط نتيجة لضياع الحلم وانهيار الآمال العريضة على أبواب الهزيمة، ومع فقدان الكثير من الكتاب والمثقفين القدرة على مواجهة هذا الواقع، استسلم بعضهم وانسحبوا من الحياة العامة، بينما حاول البعض الأخر تغيير جلده، ولجأ إلى نوع مختلف من الكتابة للتعبير عن نفسه، ومن أمثلة هذا ظهور عدد من النصوص المسرحية بين مؤلفات الأديب العالمي نجيب محفوظ في هذه الفترة. ويبدو أن ازدهار المسرح في ستينيات القرن الماضي أغراه لخوض تجربة كتابة النصوص المسرحية لأول مرة، ليصدر 5 نصوص دفعة واحدة في الفترة من أكتوبر/ تشرين الأول إلى ديسمبر/ كانون الأول 1967. ثم أصدر ثلاثة نصوص أخرى متباعدة، صدر آخرها في العام 1979.

النجاة من بين خمس مسرحيات

ضمت المجموعة القصصية "تحت المظلة" الصادرة في عام 1969 خمس مسرحيات من فصل واحد، وهى "يميت ويحيي" و"التركة" و"النجاة"، و"مشروع للمناقشة"، وتلتها مجموعة "الجريمة" (1973) التي ضمت أيضاً مسرحية من فصل واحد، كتبت خلال نهايات العام 1967، وحملت اسم "المطاردة".

في تصريحات صحافية نشرت له في العام 1970، وقال محفوظ إنه استخدم المسرح ليواكب الأحداث السريعة والمتغيرة، مضيفا "إننا نعيش عصر المسرح بلا جدال، فهذه اللحظة المزدحمة بالكثير من الأفكار والمشكلات لا يمكن مناقشتها إلا عن طريق المسرح".

هنا، تتداخل حركة الجمهور والممثلين في المكان، وتتقابل الأوجه، ولكن من دون كسر حاجز الإيهام بشكل كامل

وعلى الرغم من اختلاف الزمن وتغير الواقع السياسي والاجتماعي الآن عن توقيت كتابة هذه المسرحيات، إلا أن الكثير من الشباب المصري من يناير 2011 وحتى الآن يعيش حالة مشابهة من فقدان التوازن والإحباط والصراع مع المجهول، التي حاول محفوظ مناقشتها في هذه النصوص الخمسة، لذلك لا يعتبر أمراً غريباً أن تظهر رؤية حداثية لنص "النجاة" تحمل بصمة المخرج الشاب محمود سيد، تخلى فيها عن الحائط الرابع الذي يفصل بين الممثلين والجمهور، ليصبح الأخير شريكا في الأحداث بالحضور والمراقبة.

الهروب من "وهم المجهول"

طرقات متوترة على الباب، وبمجرد أن يفتح تدخل امرأة مندفعة إلى منزل شاب أعزب، ربما لم يتوقع أن يعيش ليلة مليئة بالأحداث الخطرة من دون وجود أسباب واضحة، تراقبهما الأعين في ساحة فيلا صغيرة بمنطقة مصر الجديدة، هي مقر جاليري أوديسي حيث عرضت المسرحية لمدة أربع ليال في مطلع يونيو/ حزيران الجاري. لكن ساحة الجاليري تحولت في هذه الليلة إلى ساحة للتلصص على أبطال مسرحية "النجاة"، في تجاوز للشكل التقليدي للمسرح، حيث يخوض الجمهور تجربة فريدة لما يعرف بمسرح برومناد أو "مسرح تجوال" لا توجد فيه خشبة المسرح المعتادة بجدرانها الثلاثة، والحائط الرابع الوهمي الذي يفصل الجمهور عن الممثلين أثناء أداء مشاهدهم، وإنما تتداخل حركة الجمهور والممثلين في المكان وتتقابل الأوجه ولكن من دون كسر حاجز الإيهام بشكل كامل.

محفوظ نفسه اعترف أنه لم يتمكن من إتقان مسرح العبث، وقال عن هذا "مرّتْ بي حالات فقدتُ فيها توازني، فكتبتُ أعمالاً ظاهرها عبث، ولكن حرصي على الانتماء أفسد عبثيتها... ويبدو أنني لم أستسلم للعبث، بل صورته وكلي رغبة في تجاوزه"

جرائم ترتكب باهتمام وجنس يُمارس بلا اهتمام

تتجلى في العرض مشاعر ومعاني مختلفة عن الحياة والموت واليأس والإحباط والحب والألم وتعقيدات النفس البشرية، فبينما تحيط قوات الشرطة بالمنزل لسبب غير معلوم، يتورط الرجل مع هذه المرأة الغامضة من دون أن يعرف جريمتها وسبب طلبها للحماية، ولكن يجبره رعبه على التخلي عن شهامة الرجال والسعي لطردها لتواجه مجهولاً ينتظرها، ويحافظ هو على حياته. لكن الصراع تغلبه المشاعر الإنسانية لرجل وامرأة في ممارسة جنس وليد العنف، يتورط الرجل بسببه في علاقة حب لحظية مع امرأة لا يعرف عنها شيئاً وربما لا تبادله المشاعر نفسها.

يستمتع الجمهور في العرض بالتلصص على هذا الثنائي في حالاته المختلفة، ويختار بنفسه من يريد تتبعه، فالبعض يقرر مراقبة المرأة وهي تقف أمام مرآة المرحاض لتهندم مظهرها وتعدل تبرجها الذي أفسده الرجل بشهوته الهستيرية، والبعض الأخر يتتبع خطوات الرجل إلى خارج غرفة النوم وهو يحاول استيعاب ما حدث.

يربط علاقة الرجل والمرأة بما يحدث في العالم الخارجي شخصية ثالثة، تطلعنا في كل زيارة على خطورة ما يحدث خارج أبواب هذا المنزل، مع التأكيد على أن هناك كارثة أو جريمة كبيرة وقعت، وأن المنطقة المحيطة محاصرة بالكامل ولا أمل في نجاة من يطاردونه!، في النص الأصلي قدم محفوظ هذه الشخصية ممثلة في رجل يحتل موقع الصديق المقرب للبطل، بينما قام محمود سيد بتعديل زكي خدم العرض، فجعلها امرأة، يبدو كأنها عشيقة متسلطة للبطل تفرض نفسها على حياته باستمرار، ويناسب هذا التغيير طبيعة الشخصية أكثر خاصة إذ تحركها الغيرة والانتقاد الدائم لتصرفات البطل ممزوجة بحب متسلط من هذه المرأة الدخيلة على حياة البطل.

العبث واللامعقول

ويكشف محمود سيد من خلال شخصية رابعة عن أن الخوف الكبير الذي عاشته المرأة ودفعها للانتحار لم يكن سوى وهم، فبعد أن شارك ضابط الشرطة في زرع هذا الخوف في نفس البطل أيضا مطالباً إياه بتوقيع اعتراف يفيد أنه لم يستقبل أية امرأة في بيته هذه الليلة، نراه يدخل معركة وهمية في غرفة المنزل المطلة على الشارع، نسمع فيها صوت يشبه الطلقات والقنابل بينما ما نراه هو ألعاب أطفال تطلق أوراق ملونة في الهواء!، في تجسيد لفكرة العبث واللامعقول التي كان يسعى محفوظ لتجسيدها في نصه، وتمكن محمود سيد من الاقتراب منها لأول مرة، على عكس العديد من الأعمال السابقة التي قدمت النجاة بشكل كلاسيكي تقليدي.

تأثر محفوظ في المسرحيات الخمس ومن بينها "النجاة" بمسرح اللا معقول (العبث) الذي انتشر في أوروبا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وحاول أن يحاكي نصوص يوجين يونسكو وصمويل بيكيت بتقديم شخصيات بلا أسماء، واستخدام جمل حوارية قصيرة، والحديث عن أمر مجهول وانتظار حدث وهمي، والدلالات والرمزيات التي تتحمل أكثر من تأويل سياسي واجتماعي.

لكن محفوظ نفسه اعترف أنه لم يتمكن من إتقان مسرح العبث، وقال عن هذا "مرّتْ بي حالات فقدتُ فيها توازني، فكتبتُ أعمالا ظاهرها عبث، ولكن حرصي على الانتماء أفسد عبثيتها... ويبدو أنني لم أستسلم للعبث، بل صورته وكلي رغبة في تجاوزه".

نجح في تجسيد شخوص النجاة أربعة مواهب شابة وهم عمرو جمال في دور الرجل، وسارة خليل "المرأة" ومنى سليمان "العشيقة"، وأحمد السيسي "الضابط"، دراماتورج وإخراج محمود سيد، وساعد استخدام اللهجة العامية في النسخة الثالثة من العرض على الاقتراب من الروح المعاصرة.

يذكر أن العرض قدم عدة مرات من قبل في مصر وخارجها بدءًا من العام 2016. 


إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

خُلقنا لنعيش أحراراً

هل تحوّلت حياتنا من مساحةٍ نعيش فيها براحتنا، بعيداً عن أعين المتطفلين والمُنَصّبين أوصياء علينا، إلى قالبٍ اجتماعي يزجّ بنا في مسرحية العيش المُفبرك؟

يبدو أنّنا بحاجةٍ ماسّة إلى انقلاب عاطفي وفكري في مجتمعنا! حان الوقت ليعيش الناس بحريّةٍ أكبر، فكيف يمكننا مساعدتهم في رصيف22، في استكشاف طرائق جديدة للحياة تعكس حقيقتهم من دون قيود المجتمع؟

Website by WhiteBeard
Popup Image