"هنا في هذا المكان، الذي ليس بمكان"، بهذه العبارة يعود مهرجان أيام بيروت السينمائية بدورته 11، بعد انقطاع دام لمدة ثلاث سنوات، حاملاً ثيمة "المكان والذاكرة"، ليقدم مجموعة من الأعمال التي تعالج هذه الموضوعات ضمن ثلاث فئات رئيسية، تستمر على مدى تسعة أيام، من 10 حتى 19 من حزيران الجاري، في فضاءات ثقافية وأماكن متنوعة من لبنان: في بيروت ضمن سينما أسواق بيروت ودار النمر وفي مركز اتجاهات بيروت، وصيدا، وبلدات عربصاليم وشبعا في النبطية، والهرمل في بعلبك، وبر الياس في البقاع، و القبيات في عكار، والجية في قضاء الشوف.
يضم البرنامج مجموعة من الأفلام الطويلة والقصيرة متنوعة ما بين الروائي والوثائقي والتجريبي، بالإضافة لفعالية افتراضية ستقام على منصة " أفلامنا" المجانية، حيث سيتم عرض 12 فيلماً قصيراً ضمن مسابقة يفتح خلالها تصويت خاص للجمهور، من 2 إلى 29 حزيران الجاري، وهي : " النجمة" لجيلبرت كرم، و"بيت أبي" لموران مطر، و"نفس" لروي ديب، و"الجبل الأحمر" لكمال حرب، بالإضافة إلى "الجدار الأحمر" لسينثيا سوما، و"لما بيروت كانت بيروت" لأليساندرا الشنتي، و"لذا نعيش" لرند أبو فخر، وفيلم "حبال الهوى" لغنوة مروة، و"جفاف" لريم عيتاني، و"إلياس" لمناف الشامسي، و"غرفتنا" لصفاء مقدح، و"سكون" ليارا الظهر.
عرض المهرجان ضمن ليلة الأفلام القصيرة 11 حزيران، مجموعة الأفلام المشاركة بالمسابقة، إلى جانب عدد من الأفلام العربية الروائية والتجريبية والوثائقية، ومنها "1941" لعاصم عبد العزيز، و"ميكروباص" لماغي كمال، و"القاهرة – برلين" لأحمد عبد السلام وغيرهم.
كان من اللافت الحضور الطاغي لثيمة المكان على ليلة الأفلام القصير، وكان حضور لبنان، وبيروت بشكل خاص، يحمل ملامحه الخاصة التي انفرد فيها كل فيلم، ولكن بشكل أو بآخر توحدت هذه الملامح لترسم صورة قاسية عن بلد ومدينة قلقة.
"هنا في هذا المكان، الذي ليس بمكان"... بهذه العبارة يعود مهرجان أيام بيروت السينمائية بدورته 11، بعد انقطاع دام لمدة ثلاث سنوات، حاملاً ثيمة "المكان والذاكرة"
ممر الانتظار
ضمن مجموعة الأفلام القصيرة، عُرض فيلمان لتلاميذ مدرسة "العمل للأمل للسينما"، صفاء مقدح بفيلمها "غرفتنا" ومناف الشامسي بفيلمه "إلياس"، حيث تناول كل منهما قصة حميمية عن العائلة والمكان والزمان في بلد اللجوء المؤقت، وهو لبنان، ومدرسة "العمل للأمل للسينما" تأسست عام 2017 في منطقة غزة في البقاع، وتعنى بتدريب اللاجئين اليافعين على مبادئ السينما.
فيلم صفاء "غرفتنا" 2021، يتتبع بطابع كوميدي سوداوي طريقها في التحضير والاستعداد لامتحان الثانوية العامة في لبنان، لكي تحقق حلم والدها المعتقل في سوريا بدراسة الطب البشري، ضمن منزلها المكون من غرفة واحدة تقطنها برفقة أمها وأشقائها.
تصور صفاء مقتطفات من يوميات تحضيرها للامتحان ضمن غرفة تعجّ بأهلها وبالزائرين، متنقلة مع كتبها ما بين الحمام وسطح المنزل، نسترق السمع إلى أجزاء من قصص عن المعتقلين والعفو في سورية، وعن والدها الغائب في المعتقل، وكذلك نستمع لتدريبات أخواتها الموسيقية واشتياقها إلى العودة للعزف برفقتهم.
استطاعت صفاء، ذات 19 عاماً، بواسطة كاميرتها نقل القلق والضغط والضحك والمشاكل العائلية والانتظار، وغيرها من المشاعر المختلطة والمضغوطة بغرفة تأويها مع أخوتها وأمها، غرفة قابلة للانفجار بضغط المشاعر ذاك، وكما حال صفاء كانت كل المواضيع الجانبية مجرد لمحات، والتركيز كان تاماً على التحضير للامتحانات، فكل حدث آخر متقطع وكأننا نسترق السمع له.
يصورفيلم "غرفتنا" عالم عائلة كاملة بغرفة واحدة، هي غرفة النوم والجلوس والمطبخ وصالة الاستقبال واللعب والتدريب، لا خصوصية ولا فردية. الواحد هو الكل
تخرجت صفاء من الثانوية ولازلت العائلة بانتظار الأب الغائب، الذي يحضر بحضور حقيبة ملابسه ومحاولات صفاء تحقيق حلمه، ولكن واقع اللجوء هو حالة استثنائية، فكل شيء قابل للتغير لحظياً. لا شيء ثابت، فامتحانات الثانوية أجلتها وزارة التربية بسبب جائحة كوفيد، وكل الطلاب حصلوا على تقييم مقبول في الجامعة، ولم تتمكن صفاء من دراسة الطب، لتنهي الفيلم بمعزوفة برفقة إخوتها.
أما فيلم "إلياس" لمناف الشامسي، فتناول اللجوء عبر نقله لواقع عائلته اللاجئة في لبنان والمنتظرة طريقاً للسفر. بعد 11 عاماً، ينجب أهل مناف مولوداً جديد في بلد اللجوء، تمت تسمية المولود الجديد بـ "إلياس" لأنه، وكما يقول الأب: "اسم أسهل له، ولا يسبب مشاكل، فهو اسم مسيحي". ينقل مناف تشتت العائلة بين ثلاثة بلدان (لبنان، كندا، تايلند) عبر مكالمات واتس أب مع أخوته المهاجرين، المكالمات أشبه بمقابلات حول رأي أفراد الأسرة بالمولود الجديد، كيفية خلق حياة في مكان مؤقت، واختلفت الآراء وجمعها صوت مناف الراوي للفيلم.
يعالج الفيلمان مكان وحالة استثنائية، حالة مؤرجحة تتصف بعدم الاستقرار والانتظار الدائم وهي حالة اللجوء، لبنان يعني للعديد من اللاجئين معبراً وممراً لمكان آخر، مكان لانتظار غائبين ومحطة، ولكن طال المكوث فيها. الزمن فيها غير اعتيادي، فهو يعامل على أنه يجب أن يقاس في بداية فترة الانتظار، ومن ثم تضيع مقاييسه حتى يغدو أبدياً برفقة الانتظار. "غرفتنا" يصور عالم عائلة كاملة بغرفة واحدة، هي غرفة النوم والجلوس والمطبخ وصالة الاستقبال واللعب والتدريب، لا خصوصية ولا فردية في هذه المرحلة. الواحد هو الكل، وهي غرفة الانتظار، انتظار حلّ أو انتظار غائب قد يعود. خارج نطاق الغرفة نرى مشهداً لسهول البقاع من على سطح الغرفة. مشهد موحش يعكس الاغتراب والعزلة، وكأن الغرفة استحالت العالم بأكمله، غرفة لم يكن من المقرر أن تكون منزلاً دائماً، ولكن السنين مرت واستطاع قاطنوها أن يضبطوا روتين حياتهم بحسب شكلها ليتماهوا معها.
تناولت المخرجة اللبنانية غنوة مروة في "حبال الهوى" لبنان، هذه البقعة الجغرافية التي تضيق على ناسها حتى تكاد تخنقهم، تبتدأ غنوة فيلمها بقولها: "لم أكن أنوي صنع فيلم عن الحرب، لكنهم لم يسمحوا لي"
وفي "إلياس" نحن أمام عائلة مصيرها مرتبط بالهاتف بانتظار مكالمة من المفوضية وبانتظار أوراق الموافقة على الهجرة، وانتقال العائلة لمستقر أخير بعيداً عن أرض الانتظار. لا ماض متعلق بالمكان في الفيلمين، و صانعاهما غادرا سوريا صغاراً، وهم لا يعرفونها، وللاثنين نظرة واحدة حول المكان الذي ليس لنا.
المكان الذي يرفضنا
تناولت المخرجة اللبنانية غنوة مروة في "حبال الهوى" لبنان كذلك، هذه البقعة الجغرافية التي تضيق على ناسها حتى تكاد تخنقهم، تبتدأ غنوة فيلمها بقولها: "لم أكن أنوي صنع فيلم عن الحرب، لكنهم لم يسمحوا لي". في هذا المكان لا تستطيع أن تحيا متجاهلاً واقعك، حتى إن استطعت، فالواقع الذي تجاهلته سيعود لكي يصفعك بوجهك، كانفجار مرفأ بيروت الذي خلق تساؤلاً لدى الجميع: "والآن ما العمل؟".
تقف غنوة في بداية فيلمها على سطح بناء عالٍ مطل على بيروت التي كساها الغبار والدخان، برفقة أصوات تقارير إخبارية حول انفجار المرفأ وصوت سيارات إسعاف، تشارك غنوة رفاقها السؤال حول المستقبل والقرارات المستقبلية، وتطرح سؤال الهجرة: هل هي الحل بالنسبة إلى اللبناني اليوم؟ لنستمع لمختلف الإجابات.
نرصد المكان والعلاقة فيه من الذاكرة الفردية لكل شخص ضمن الفيلم، لتتكون عند من لا يعرف بيروت صورة عنها، صورة يشوبها القلق والخوف والتوتر، صورة مشوهة، ومع هذا تملؤها العاطفة التي عبرت عنها إحدى المشاركات بالفيلم: "الحل بأن آخذ كل من أعرف ونهاجر سوياً".
قرار الهجرة قرار مصيري، فهو يعني التخلي عن كل ما هو مألوف، أشبه بعملية قتل لذاكرة وروتين، قتل يساعد على خلق وبناء ذاكرة جديدة وعاطفة جديدة تربطنا بمكان جديد، ولكنه يغدو القرار الأسلم لدى أغلب المشاركين بالفيلم، ومن تبقى يقف بينهم وبين هذا القرار عواطفهم المتعلقة بالأشخاص الموجودين في المكان والألفة التي اعتادوا عليها.
يشرح فيلم غنوة العلاقة بين اللبنانيين وبلدهم، علاقة شائكة يمكن تسميتها بعلاقة سامة. علاقة حب وخوف، تشوبها الأسئلة دوماً. كان انفجار المرفأ اللحظة التي فجّرت هذه العواطف ودعت كل لبناني للتساؤل حول علاقته مع مكان يرفضه.
وكذلك كان الفيلم الروائي "الجدار الأحمر" لسينثيا صوما، الذي صور في متحف سرسق بعد انفجار المرفأ، حيث تلعب لوحتا ليلى وخليل دور بطلي الفيلم، بالإضافة لصديقهما التمثال، لنعرف أنهما سيفترقان بعد صداقة طويلة، دون أن يستطيع خليل التصريح بحبه لليلى. ستؤخذ لوحة ليلى لتعرض في باريس ويبقى خليل ينتظر ترميم متحف سرسق وحيداً، عبر حوارات بسيطة تحاول صنع شكل للهوية اللبنانية.
محاولات بناء
في فيلمه "بيت أبي" لموران مطر، يحاول موران ترميم صورة لمنزل عائلة والده الذي تدمر في الأشرفية سنة 1982 أثناء قصف عشوائي. يجري مقابلات مع عماته الاثنتين و عمه ووالده، الذين نزحوا من البيت قبل دماره، محاولاً عبر تلك المقابلات تركيب بقايا ذكريات الأخوة الأربعة، لرسم صورة للمنزل الذي أصبح اليوم كراجاً لسيارات جامعة الحكمة.
كانت ليلة الأفلام القصيرة تعج بصورة مختلفة ودراسة للهوية اللبنانية، محاولة من المخرجين والمخرجات لكشف وتفكيك المدينة والعلاقة بها، الكل يحاول الغوص وتشريح هذه المدينة لفهمها وفهم علاقتنا بهذا المكان
ذاكرة الأخوة الأربعة عن المكان مشتتة. كل منهم يذكره من جانب ما. يتزامن سردهم مع عرض صورة ثابتة للشخص الذي يتكلم، مع فيديو يحاول تجسيد ما يتكلم عنه، الأخت الكبرى تسترجع المكان بأغراضه وتحزن على فراقها، ألبومات الصور التي ضاعت مع الدمار ولم يعد لها أثر. تتذكر الأخت الكبرى لمحات من الصور المفقودة، وتتحدث عن سجادة قديمة كانت معلقة على الجدار، كانت متواجدة منذ أن تزوج أهلها، ولطالما بقيت على الجدار حتى يوم الدمار. سجادة عادوا ووجدوها، أشبه بشاهد مادي ومراقب لذكريات العائلة، أي غرض كان كفيلاً للأخت الكبرى لإثبات وتأكيد أن للعائلة وجوداً في ذلك البيت الغائب. الأخ الثاني يسترجع ملامح المكان معمارياً، واصفاً شكل الفناء والحديقة بركة مياهها وشجرة النخيل، وإلى جانب صورته يتم رسم سكتش لما يرويه. أشبه بمحاولات يائسة لاسترجاع البيت أو شيء يشبهه. الأخت الأصغر سناً تتذكر الراديو والأغاني والتسلسل لحفلات الزفاف في الكنيسة المجاورة، أما الأخ الأصغر فيتذكر "جمعة العيلة"، وهو ما يحزنه على فقدان المكان.
بالرغم من تحدث والده عن حلمه بالسكينة والعائلة المجتمعة رفقة بعض، إلا أن لبنان لم يسمح له بتحقيقه، فهو مهاجر بعيداً عن أبنائه وتلك الجمعة التي حلم بها.
وبنزعة مشابهة، عملت المخرجة أليساندرا الشنتي بفيلمها "لما بيروت كانت بيروت" على ترميم صورة بيروت بواسطة فيلم تحريكي "أنيميشن"، عبر العودة للماضي، انطلاقاً من ثلاثة مبان رمزية في المدينة، وهي " مبنى البيضة"، "مسرح البيكاديلي" و"مبنى بيت بيروت". تلعب الأبنية الثلاثة دوراً مهما في فضاء بيروت، فمبنى البيضة الذي كان مركزاً تجارياً مشهوراً بمحلات والسينما الخاصة به، أغلق منذ الحرب الأهلية، حيث كان مرتعاً للقناصة وخط تماس، وبعد مشروع سوليدير، أعيد النقاش حول مصير مبنى البيضة، وتبنته شركة أبوظبي للعقارات، التي كانت قد خططت لهدمه وبناء ما يعرف ببوابة بيروت عام 2011، ولكن توقفت بعد حملة منددة على فيسبوك، وأعيد إحياؤه من جديد بعد ثورة 17 تشرين، ليصبح رمزاً للثورة وحاملاً جديداً للذاكرة الجمعية لمدينة تعج بالأحداث.
أما مبنى بيت بيروت المميز، الواصل بين شارع دمشق و شارع الاستقلال، والمطل على سوديكو بيروت، المبنى الأصفر كما كان يدعى، فهو قائم منذ عشرينيات القرن الماضي، وذو طابع بناء عثماني، كان تقطنه عائلات بيروتية، وفي أسفله محال تجارية متنوعة، منها محل الحلاقة الذي عرضت قصة صاحبه بالفيلم، ولكن موقعه جعله يوجد على ما يدعى بخط الجبهة في الحرب الأهلية. تحول بيت بيروت اليوم إلى متحف للذاكرة، ليبقى كأرشيف حي شاهد على الحرب.
ومسرح البيكاديلي في الحمرا يعكس طابع بيروت في أيامها الذهبية، مسرح ما بين الجامعة الأميركية ودور النشر ومقاهي الحمرا، غنت عليه فيروز والرحابنة وداليدا، وأقيمت به حفلات متنوعة من مختلف البلدان. نراقب بالفيلم تأثير الحرب على حركة الناس في المسرح حيث كان في بدايتها فسحة للتنفيس عن النفس، وكان المسرح في ذاك الوقت مأوى للمقاومة الفلسطينية، حتى بدأت حركة الناس بالانحسار كلما تقدمت الحرب، الى أن هُجر المسرح، ولكن لم يتوقف عن العمل إلا بشكل عبثي عبر سيجارة رماها أحدهم عام 2000، ليحترق المسرح ويتوقف عن العمل حتى الآن.
بجرعة ضخمة من الحنين عملت أليساندرا على التجول في ذاكرة بيروت، عبر ثلاث نقاط لا يجهلها أي لبناني أو أي شخص زار لبنان عموماً، جعلت الأماكن الثلاثة تتحدث عن ذاكرتها لتؤرخ حكاية لمكان تتغير معالمه بشكل دوري، وتتغير معها وظائف المكان ذاته، حيث يستطيع مبنى البيضة أن ينتقل بسلاسة من مجمع تجاري إلى ساحة معركة واليوم إلى شاهد.
كانت ليلة الأفلام القصيرة تعج بصورة مختلفة ودراسة للهوية اللبنانية، محاولة من المخرجين والمخرجات لكشف وتفكيك المدينة والعلاقة بها، الكل يحاول الغوص وتشريح هذه المدينة لفهمها وفهم علاقتنا بهذا المكان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون