شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
إلى أين سنذهب إن اندلعت حرب جديدة؟... حلم العودة إلى

إلى أين سنذهب إن اندلعت حرب جديدة؟... حلم العودة إلى "البلد" اندثر مع تسليم الأوراق السورية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الاثنين 20 يونيو 202204:06 م


يصادف يوم اللاجئ العالمي الـ 20 من حزيران/يونيو من كل عام، وهي مناسبة مخصصة للاجئين حول العالم. ننشر اليوم مجموعة من المقالات والتقارير حول هذه القضية.

ستُّ سنوات في هذه المدينة كفيلة بأن تجعلني أشعر بأنّني حين أعود إليها أعودُ إلى الوطن، أتعرّف إلى مداخلها وأمشي واثقةً في شوارعها وإن أوقفني تائه لا أقول له أنا لست من هنا، بلى أنا من هنا.

لكن ما يجعل الأمر صعباً هو أنني لست من هنا (فقط)، فأحياناً تختلط عليّ الشوارع وأنفصل عنها تماماً لأمشي في شوارع دمشق أو غازي عينتاب أو حتّى تونس.

يقولون إنّها أعراض لمرض يسمّى اضطراب ما بعد الصدمة، لكنّي ما زلت مصرّة على ربطها بالحنين وأنني مهما ابتعدت فسأبقى مرتبطة بالبلاد، رغم أنّني لم أعد أعرف أيّ منها البلاد.

في سن الرابعة، في حي التضامن ،  قالت إحدى بنات صفي: "رحنا عالبلد". لم أكن أدرك معنى الكلمة، ففكرت: "الطفلة من السويداء، فإذن كلمة البلد هي الاسم الآخر للمدينة، وأنا بما أنّني لست من السويداء فهذا يعني حتمًا أنّني لست من البلد".

 أدركت مؤخراً أنني مع حلول نهاية هذا الشهر سأكون قد قضيت ثلث عمري مُغتربة، ثلث عمري أحاول استيعاب ما تحمله الكلمة، وأبعد من ذلك، أحاول استيعاب لماذا أختار هذا المصطلح دون غيره.

في سن الرابعة، في روضة الضياء في حي التضامن، وتحديداً بعد عطلة منتصف العام التي نسميها عطلة الربيع، سألتِ المعلمة كيف قضينا عطلتنا، فأجابتها إحدى البنات: "رحنا عالبلد". لم أكن أدرك في تلك السن الصغيرة معنى الكلمة، فعقدتها في رأسي هكذا: "الطفلة من السويداء، فإذن كلمة البلد هي الاسم الآخر لتلك المدينة، وأنا بما أنّني لست من السويداء فهذا يعني حتمًا أنّني لست من البلد".

بقيتُ على هذه القناعة زمناً طويلاً إلى أن كبرت وأصبحت في أواخر سنواتي في المدرسة الابتدائية، سُئلتُ من أين أنا، فأجبت من دمشق بما أنّني ولدت وكبرت فيها، لكن السائل أصر على سؤاله، فجعلني أعود بذاكرتي إلى الطفلة القادمة من البلد، وقلت لنفسي على ما يبدو نحن من المكان الذي نقضي فيه عطلنا، إذن أنا من السلمية، أعيش في دمشق.

 كان ذلك اليوم يوماً فارقاً في حياتي، كان اليوم الذي بدأت أشعر فيه بالغربة، لست من دمشق بين أهلها، وحين أذهب إلى سلمية أشعر ويُشعرني من حولي أنّني قادمة من مكان بعيد.

 لاحقًا، أحببت مدينة اسمها معلولا، أصبحت أشعر بالنقص إن مرّ صيف ولم أزرها، تعرّفت من خلالها على شعور الانتماء.

 مرت سنة أو اثنتان ثم جاءت الثورة التي ستغير مسار حياتنا ومشاعرنا إلى الأبد، انتقلنا إلى منطقة أخرى وبعد فترة قصيرة تأقلمت مع المكان الجديد، أصبح لي فيه أصدقاء ونشاطات وأماكن أقضي فيها أوقاتي، لكنّي أواجه السؤال بإجابة أطول، من سلمية لكني لست قادمة من السلمية، بل من التضامن، أحب معلولا، وزرت "البلد" عدّة مرّات. المختلف هذه المرة أن الغربة تحولت من شعور إلى سلوك، تمّ لأول مرة التعامل معي على أنني غريبة، لم أفهم ذلك في البداية، لكنّي حين غادرت البلاد كلها وراقبت المشهد من الخارج فهمت كيف يكون المرء غريباً.

قضيت أول يومين لي في تركيا دون توازن، كسرتُ صحوناً وسكبتُ أكواب الشاي وبكيتُ كثيراً بسبب رجفة يدي، جسدي هو من شعر بالغربة هذه المرة

في تركيا، بـ 21.06.2014 في مطار أضنا، جاء عمي لاستقبالنا، راقبت المكان من سيارته طوال الليل على طريق أضنا عينتاب، ضحكت حين نظرت إلى شعره وشاربه، تساءلت هل كنا نتشبّه بالمكان الذي نعيش فيه، ثم غرقت في النوم.

قضيت اليومين اللاحقين دون توازن، كسرتُ صحوناً وسكبتُ أكواب الشاي وبكيتُ كثيراً بسبب رجفة يدي، جسدي هو من يشعر بالغربة هذه المرة، استمرّ هذا الوضع لأكثر من ستة أشهر، كنت لا أحبّ فيها سوى المشاوي والكوسا المحشي، ارتبط هذان الطبقان بعمّي، عمي الذي أخبر أصدقائي بعد فترة أنّني سأغادر إلى فرنسا.

بعد طريق طويل، وصلنا إلى المكان الذي نتمنّى أن يكون الأخير، شخصياً تعبت، لا أعرف ماذا شعر باقي أفراد العائلة، فالغربة الأخيرة بالنسبة لي هي الأصعب، عدا أنّها الأخيرة.

 المكان أبعد، رحلة من الجنوب إلى الشمال بكل ما تعنيه الكلمتان لغوياً وسياسياً، حلم العودة القديم اندثر مع تسليم الأوراق السورية إلى المحكمة الفرنسية. 

تلك الطفلة الصغيرة التي تُسأل هل كانت تعرف البلد، أصبحت تسأل هل كانت البلد تعترف بها.

 لغة/ وجوه/ طقس، كل شيء جديد ما عدا شعور الغربة، وصل إلى معدتي هذه المرة، أنتظر عمي ليشوي في الصيف لكنهم أخبرونا أن الشتاء هنا طويل، أمّا عن الكوسا وبقيّة ما خلق ربّي من خضار فطعمها غريب جداً، واللحم واللبن مختلفان، والخبز إن وجد مختلف أيضاً، معدتي أصبحت غريبة كغرابة طعامهم على معدتي.

 تجريب هذا الطعام فكرة مؤجّلة، أريد الآن خبزاً يشبهني، بدأت أخسر الوزن والشهية، وأتعلّق أكثر بمشاهد تُذكّرني بـ "من أين أتيت؟"، تيشرت مكتوب عليه بالعربية، تطريزات توحي بأنها شرقية، صور في الحارات الضيقة والأبواب القديمة، لستُ من هنا بعد، لكنّ البعد يجبرني على البحث عمّا يشبهني فيه لا لشيء بل لأنّني ما زلت متمسكة بالحياة.

هنا في هذه الغربة البعيدة يقولون كلمة "غريب" بكل وضوح وصراحة، والغرباء هم نحن الذين لم نعتد نعيق الغربان في الصباح، ونتردّد عند قول "بونجور" إن كانت الـ"و" الأولى أم الأخيرة مضمومة أكثر؟

ولكن "غريب" هي الكلمة التي قد نسمعها في المدرسة أو الشارع، أمّا للحديث عنّا في وسائل الإعلام مثلًا فإنهم يستخدمون كلمات أكثر لباقة، كلمات يمكن أن تُرفق بـ"أزمة" أو "مشكلة"، هل سمعت من قبل عن أزمة الغرباء؟ 

هنا في الغربة البعيدة يقولون كلمة "غريب" بكل وضوح وصراحة، والغرباء هم نحن الذين لم نعتد نعيق الغربان في الصباح، ونتردّد عند قول "بونجور" إن كانت الـ"و" الأولى أم الأخيرة مضمومة أكثر؟

عند الأزمة يتم وصفنا باللاجئين أو المهاجرين، ولا أخفي أنني إلى يومنا هذا أحتار في التفرقة بينهما، هم يختارونها بعناية لئلا يتم اتهامهم بالعنصرية أو بالشناعة، نحن لم نعد نهتم بشكليات كهذه. نحن غرباء لدرجة أنّنا لا نملك الوقت للتفكير بالكلمة، مشغولون بملء أوراق تعطينا صفات رسمية، بتعلم اللغة أو بانتظار معجزة تجعلنا ننطق كل كلماتها بسلاسة، بالتفكير بالاستقرار، بأسماء لأولادنا ممكن أن ننطقها بلغتين، وبأشياء أخرى لا تهمّ أحداً مثل متابعة أخبار المجازر في بلادنا والاطمئنان على أحوال المعتقلين وغلاء المعيشة وصحّة الكبار من أفراد عائلاتنا ودراسات الصغار وما إن زاد عدد الأحفاد عن البارحة.

على سبيل المزاح، نسأل بعضنا بعضاً إلى أين سنذهب إن اندلعت حربهم الثالثة؟ إلى أي مدى نحن مستعدون لغربة جديدة؟ وهل الاعتياد على الغربة يجعل الأمر أسهل؟ كيف سيكون شكل الكوسا على المريخ إن لم يبق لنا مكان على الأرض؟ والسؤال الأصعب هل سنشعر بحنين لمكان كنّا قد قلنا عنه غريباً وكنّا فيه غرباء؟

 أنا لست من هُنا فقط، أنا من هنا ومن كل مكان زرته، رأسي هو المكان الوحيد الذي تجتمع فيه شوارع كل المدن، دفاتر مذكراتي وإنستغرام تجتمع فيها صور ومواقف الأصدقاء الذين عاشوا معي الرحلات كلها. أنا/ نحن الغرباء عن أماكن تعيش فيها أجسادنا، تنتمي ذاكراتنا لأماكن عشنا فيها، وأرواحنا لأماكن قد لم نرها أو قد لن نراها مجدّداً، نحمل لوماً نلقيه على العالم كلما ارتجفت أيدينا.


إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

لعلّ تعريفنا شعوباً ناطقةً بالعربية لم يعد يستقيم من دون الانتباه إلى أننا صرنا شعوباً متفلّتةً من الجغرافيا. الحروب الدائرة في منطقتنا والنزاعات الأهلية والقمع، حوّلتنا إلى مشردين، بين لاجئين ونازحين، وأي تفكير في مستقبلنا لم يعد ممكناً من دون متابعة تفاصيل حياة الجميع، أينما كانوا، وهو ما نحرص عليه في رصيف22. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard