تندرج هذه المقالة ضمن "طيف22"، وهو مشروع مخصص لالقاء الضوء على التنوعات والاختلافات الجنسانية والجندرية والجسدية في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يشارك فيه صحفيون وصحفيات، ناشطون وناشطات وأفراد من مجتمع الميم-عين أو داعمون لهم/نّ، ليكون مساحة للتعبير بحرية عن مختلف المواضيع المتعلقة بالتوجّهات الجنسية والجندرية والصحّة الجنسية، بغرض كسر التابو والحديث بموضوعية عن هذه المسائل الشائكة.
وصل النقاش حول تمثيل مجتمع الميم-عين في أفلام الرسوم المتحرّكة التي تنتجها شركة والت ديزني إلى الساحة اللبنانية، بعد منع عرض فيلم لايت يير (light year)، من إخراج أنغوس ماكلاين وإنتاج "ديزني-بيكسار"، بسبب مشهد قبلة جمعت شخصيتين كرتونيتين من الجنس نفسه، وحذت سلطات الرقابة المتمثلة في الأمن العام اللبناني هنا حذو عدد من الدول العربية والإسلامية في حظر الفيلم الجديد.
ويأتي الفيلم ضمن سلسلة أفلام الرسوم المتحركة الشهيرة، توي ستوري، وبطله حارس الفضاء "باز يطير"، ويؤدي صوته الممثل الأمريكي الشهير كريس إيفانز، وتُعدّ القبلة بين أنثتين في هذا الفيلم، أول قبلة تقدمها ديزني لمشاهديها، بعد 6 سنوات من تقديمها أول زوجين مثليين في فيلمها "زوتوبيا"، عام 2016.
وتمثيل الفئات المهمّشة بناءً على أصولها العرقية أو هوياتها الجندرية، ومنها مجتمع الميم-عين، في أفلام الرسوم المتحركة التي تنتجها شركة والت ديزني تحديداً، قضية برزت خلال السنوات الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، مع وصول الخطاب الحقوقي الرافض للتمييز ضد هذه الفئات إلى ديزني، التي قررت التجاوب معه وبدأت تُبرز شخصيات من هذه الفئات، بعد أن همّشتها لعقود في أفلامها.
ومع إعلان قرار الحظر في لبنان، انتشر فيديو في الولايات المتحدة للمذيعة الأمريكية ميجان كيلي، وهي تحذر الأهل حول العالم، من مشاهدة أطفالهم للأفلام التي تنتجها شركة والت ديزني، خوفاً من أنها "تعلم الأطفال المثلية الجنسية وتروج لنشرها".
منع الأمن العام اللبناني عرض فيلم لايت يير (light year)، من إخراج أنغوس ماكلاين وإنتاج "ديزني-بيكسار"، بسبب مشهد قبلة جمعت شخصيتين كرتونيتين من الجنس نفسه
وتظهر مذيعة "فوكس" وهي تعلّق بغضب بالغ على تصريحات لرئيسة إنتاج الرسوم المتحركة في شركة ديزني، كاري بيرك، تؤكد فيها التوجه إلى رفع تمثيل الأقليات العرقية ومجتمع الميم-عين، إلى ما لا يقل عن 50 في المئة من الشخصيات العادية في أفلام عملاق الترفيه الأمريكي، بحلول نهاية العام الحالي.
جهل وتمييز
تقول الأخصائية التربوية والأستاذة في جامعة القديس يوسف في بيروت، ندى معوض، لرصيف22، إنه "لا يمكن بأي شكل من الأشكال القبول بنظرية أن مشاهدة أطفال ومراهقين لقبلة مثلية قد تجعل منهم مثليين، فالناس يولدون مثليين، وتتأثر توجهاتهم الجنسية بعوامل عدة، ليس من بينها قطعاً مشاهدة التلفزيون". وتسأل: "لماذا لم يتأثر المثليون بسيل الأفلام التي تعرض قبلاً غيريةً، كرتونيةً وحقيقيةً"، محيلةً هذه الرؤية إلى "الجهل بالمثلية والتمييز ضد هذه الفئة في المجتمع".
ولكن إلى ماذا استند الأمن العام اللبناني في حظره للفيلم؟ يقول المحامي أيمن رعد، إن الجهاز الرقابي استند إلى "وجود نص فضفاض في قانون الرقابة الصادر عام 1947، ويقضي بأن تحترم الأعمال السينمائية النظام العام والآداب وحسن الأخلاق". يضيف: "هكذا تعطى لجهاز أمني صلاحية تفسير مفهوم الآداب العامة وحسن الأخلاق، فيما هذا الجهاز يحوّل صلاحية تحديد مفهوم الآداب وحسن الاخلاق إلى السلطات الدينية، كالمعهد الكاثوليكي للإعلام ودار الفتوى".
وعلى مدى عقود، مئات الأفلام الكرتونية التي تحوي قبلاً بين شخصيتين من جنسين مختلفين، مرت بشكل سلس على الأمن العام اللبناني، ولم تثِر أي ردود فعل سلبية في المجتمع، بل أحيطت القبلة الغيرية في أفلام الكرتون بالكثير من الجمال لسحر قصتها، سواء أكانت لإنقاذ أميرة نائمة، أو لتتويج حب علاء الدين وياسمين.
جهل الأطفال والمراهقين بالمثلية الجنسية يجعلهم فريسةً أسهل للتحرش والاغتصاب لجهلهم بواقع إمكانية وجود مشاعر عاطفية أو جنسية بين شخصين من الجنس عينه، طالما أن شكلاً واحداً من أشكال الحب والعلاقات يقدّم لهم باستمرار
ينبّه رعد هنا إلى أن التمييز الحاصل ضد المثلية الجنسية يُعدّ انتهاكاً للفقرة "ب" من مقدمة الدستور اللبناني، إذ يلتزم لبنان بشكل واضح فيها بمواثيق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، "وتجسد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقول والمجالات من دون استثناء"، بحسب النص الدستوري.
ويستشهد باجتهاد المجلس الدستوري "الذي رأى أن الحقوق الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعي، هي حقوق تتمتع أحكامها بقيمة دستورية موازية لمختلف أحكام الدستور وتشكل جزءاً من الكتلة الدستورية"، مؤكداً أن التفرقة والتمييز ضد مجتمع الميم-عين اللذين يتكرران مرةً جديدةً من خلال حظر فيلم لايت يير، ينتهكان هذه المواثيق الثلاثة، "ويحصل هذا بالرغم من أن أحكام الدستور يجب أن تسمو على كل القوانين".
"سموّ الأخلاق"
وفيما تبرر السلطات الأمنية حظر فيلم الكرتون بـ"سمو الأخلاق والآداب"، ترفض معوض بشكل قاطع عدّ تعرّف الطفل أو المراهق إلى وجود مجتمع الميم-عين من خلال أفلام الكرتون، يخدش "سمو الأخلاق" لدى المشاهدين من أطفال أو مراهقين أو ناضجين، وتسأل: "من قال إن المثلية خارجة عن الآداب أو الطبيعة؟ هذه القوانين من وضعها؟".
ترى الأخصائية التربوية أن استمرار "نهج إخفاء المثلية الجنسية، لا سيما عن الأطفال والمراهقين، بدل الحديث معهم بشكل مفتوح وعلمي عنها، يؤدي إلى زيادة العقد لديهم، فالخطر لن يأتي من قبلة، بل الخطر في استمرار الجهل".
تقول إنه عبر هذا الإلغاء، فإن السلطات والأهل يؤذون الأولاد، سواء سيكونون أشخاصاً مثليين أو مغايرين في المستقبل، "لأن معرفة المراهق المثلي بأن التوجهات الجنسية المثلية موجودة ومقبولة، تساعده على الانسجام مع نفسه بشكل صحي، وتجنبه الصراعات الداخلية شديدة الخطورة في مرحلة اكتشافه لميوله وتجنبه المعاناة مع الرفض والحظر اللذين يحيطان بهذه الميول في الأسرة والمجتمع".
برأي معوض، فإن تعريف المراهق المغاير على وجود هذه الفئة بشكل علمي وسليم ومفتوح يساعده على أن يبني مواقفه وعلاقاته مع أصدقائه ومجتمعه على أسس إنسانية، "فنحن بالانفتاح مع أبنائنا على هذه المواضيع، نجنبهم الخوف في الحالة الأولى لمنحهم فرصة السلام والاطمئنان، ونجنبهم الكراهية للآخر في الحالة الثانية، لنمنحهم فرصة أن يكونوا أشخاصاً متقبلين للجميع من دون تمييز، مع ما لهذا من انعكاس إيجابي على محيطهم، وعلى شخصيتهم وعليهم كأفراد في المجتمع".
التمييز الحاصل ضد المثلية الجنسية يُعدّ انتهاكاً للفقرة "ب" من مقدمة الدستور اللبناني، إذ يلتزم لبنان بشكل واضح فيها بمواثيق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان
وتشير إلى أن "جهل الأطفال والمراهقين بالمثلية الجنسية يجعلهم فريسةً أسهل للتحرش والاغتصاب لجهلهم بواقع إمكانية وجود مشاعر عاطفية أو جنسية بين شخصين من الجنس عينه، طالما أن شكلاً واحداً من أشكال الحب والعلاقات يقدّم لهم باستمرار وتخفى عنهم الأشكال الأخرى، فيكونون جاهلين لحقيقة أن أشخاصاً من جنسهم قد يرغبون فيهم، وتالياً هم عاجزون عن التعامل مع المتحرش وفهم غاياته منهم".
رفض الرقابة
توصي الأخصائية التربوية بوقف حظر هذه الأفلام، وبمشاهدة الأطفال والمراهقين لها برفقة أهلهم، ليكون الأهل حاضرين لتقديم الإجابات العلمية لهم، بحسب مستوى وعيهم.
من جهته، يدعو رعد إلى "نزع صلاحية الرقابة من جهاز الأمن العام، وحصرها في يد السلطة القضائية، وصولاً إلى تغيير النص الفضفاض للقانون بنص واضح ومحدد حول المبادئ التي تتم على أساسها هذه الرقابة"، مؤكداً أن الهدف الأخير هو الوصول إلى إلغاء الرقابة المسبقة على الأعمال الفنية.
أما الناشط السياسي الكويري، ضومط القزي، فيرى أن المطلوب هو إيجاد حركة سياسية قاعدية تجمع الأشخاص المهمشين في المجتمع، "لحشدهم حول قضاياهم في مواجهة النظام القمعي، الذي من أدواته الأجهزة الأمنية القمعية، ولن يتخلّى عن هذه الأدوات من تلقاء نفسه"، داعياً إلى "كسر جبروته من خلال العمل السياسي المنظم".
ويشير إلى أن حظر فيلم "لايت يير" بسبب القبلة المثلية التي يتضمنها، هو ضمن سياسة تمييزية قمعية متبعة لا تقف عند الرقابة الفنية، بل تتعداها إلى الحريات الشخصية، تنتهجها منظومة الحكم في لبنان، ليختم بالقول: "يمكنهم حظر الفيلم لكن هذا لا يعني أننا سنتوقف عن أن نكون موجودين".
هذا المشروع بالتعاون مع Outright Action International.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...