"منذ أيام قصدتُ إحدى بلديات العاصمة تونس، لأستخرج ثلاث نسخ مطابقة للأصل، فما راعني إلا أن الموظفة الموقرة التي تصيح وتصرخ في وجه المواطنين وكأنها في بيتها، تخبرني بأنّ عدد وثائقي مرتفع وعليّ أن أرجع مرةً أخرى"، تقول الصحافية التونسية حياة بن هلال، لرصيف22.
تؤكد حياة أن العملية بأكملها لا تتطلب دقيقةً من وقت الموظفة التي ستقوم فقط بإمضاء كل وثيقة، "سألتها لماذا هذا التأجيل؟ فأجابتني: أنا حرّة. أعمل كما أريد"، تضيف.
تشدد بن هلال على أنها وقبل وصولها إلى الباب، عاودت الذهاب إلى الموظفة المعنية وطلبت منها الحصول على توصيل (إيصال) فما راعها إلا أنها أخبرتها بأنها رمته، "ولكني عندما أصررتُ على الحصول عليه مدتني به من الحاوية، وهو في حالة يرثى لها".
"أستغرب من كمية صراخها وعلامات وجهها المكفهرة تجاه المواطنين الذين لم يتجاوز عددهم الأربعة يومها، هل كل الموظفين العموميين في تونس هكذا؟ ألا يوجد قانون يحكمهم؟ هذه باختصار تفاصيل معاناة مواطنة تونسية مع الإدارة العمومية"، تختم.
ظاهرة "أرجع غدوة"
"نعم توجد ظاهرة ‘أرجع غدوة’ في الوظيفة العمومية ولكن ليس بالحجم الذي يتم الترويج له والتحدث عنه والتندر به، وهي بنظري ليست ظاهرةً متعلقةً بتونس فقط وإنما موجودة حتى في الإدارات العمومية الأوروبية"، يردّ كريم مخينيني، موظف عمومي في إحدى البلديات التونسية تحفّظ عن ذكر اسمها.
ويوضح لرصيف22، أن هذه الظاهرة لا تتعلق باتكالية الموظف العمومي أو بتراخيه عن آداء وظيفته كما يتهمه الكثيرون، وإنما بوجود آجال قانونية يحددها المشرّع التونسي في إسداء الخدمات العمومية وتقديمها (استخراج وثائق، إمضاءات، نسخ مطابقة للأصل، ومنح رخص...)، إذ يربط القانون هذه المسائل بين المواطن والإدارة العمومية.
أستغرب من كمية صراخها وعلامات وجهها المكفهرة تجاه المواطنين الذين لم يتجاوز عددهم الأربعة يومها، هل كل الموظفين العموميين في تونس هكذا؟
ويتحدث مخينيني عما قال عنه "نقصاً في الثقافة الإدارية"، لدى نسبة من المواطنين الذين وبالرغم من علمهم بالقانون وبأن خدمات عدة تُقدَّم في آجال محددة وتتطلب وقتاً معيناً، فإنهم يصّرون على قضاء حوائجهم في اليوم نفسه وينتقدون العون عندما يقول "أرجع غدوة" ويرون في هذه الجملة تنصلاً من أداء مهامه على أكمل وجه.
رقمنة الإدارة
أشار المتحدث إلى أسباب عدة وراء انتشار ظاهرة "أرجع غدوة" في بعض الإدارات العمومية، على رأسها مسألة رقمنة الإدارة التي تشهد تطوراً ملحوظاً وإن كان بنسق بطيء نوعاً ما بحسب تجربته الشخصية، يؤكد.
كاعتراف رسمي بوجود هذه الظاهرة في الإدارة العمومية التونسية، كان وزير تكنولوجيات الاتصال والاقتصاد الرقمي الأسبق، أنور معروف، قد أعلن في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، أن "سنة 2019 والسنوات الموالية لها ستكون سنوات التحول الرقمي وغرس ثقافة الممارسة الإدارية والتعامل مع المواطن ووضع حد لعبارة أرجع غدوة".
وأفاد بأن الوزارة "وضعت برامج في هذا الشأن وأعدت مشاريع مهيكلةً وخصصت محوراً كاملاً للتحول الرقمي في مشروع قانون المالية لعام 2019".
بدوره، أصدر رئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ، مراسيم لرقمنة الإدارة من بينها المرسوم عدد 17 الخاص بالمعرّف الوحيد الذي يجنّب المواطن الاستظهار بوثائق من إدارة أخرى لطلب خدمة محددة والمرسوم عدد 12 الخاص بالمحاكمة عن بعد للتخفيف من مشقات التنقل بين السجون ومراكز الإيقاف والمحاكم وتسريع إجراءات التقاضي.
من جانبه، أعلن وزير تكنولوجيات الاتصال الحالي نزار بن ناجي، يوم 27 أيار/ مايو 2022، عن المحاور الأساسية للإستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي والتي تتضمن مراجعة الأطر التشريعية وتحسين نظام حوكمة القطاع الرقمي ورقمنة الإدارة وتبسيط الإجراءات والاتصال وإدارة التغيير لنشر الثقافة الرقمية.
نقص في التكوين
كما تحدث كريم مخينيني، عن نقص في تكوين نسبة من أعوان الإدارات العمومية ومعاناة بعض المؤسسات من نقص في الموارد البشرية "ما يضطرها إلى سد الشغور بموظفين من غير الاختصاص ما يؤثر على جودة الخدمات المقدمة بالرغم من كفاءة هؤلاء".
ودعا إلى ضرورة تكوين اختصاص أعوان الشبابيك الذين هم على اتصال مباشر ويومي مع المواطن من الإدارة العمومية التي ينتمون إليها، "فيجب أن تكون تركيبة العون النفسية ملائمةً لأنه معرّض للتعامل مع مواطنين مختلفين من حيث الجنس والسن والثقافة العلمية وعليه أن يتعلم كيف يجاري مختلف الوضعيات ويتعامل معها".
وحصل كريم على تكريمات عدة من بينها شهادة شكر من إدارة البلدية التي يعمل فيها "نظراً لتميزه بحسن استقبال المواطنين ومعاملته الحسنة لهم"، حسب ما ورد في تقرير فريق المواطن الرقيب لسنة 2014.
احترام العمل والمواطن
يلخّص كريم مكونات الوصفة السحرية لكسب حب المواطن واحترامه ونجاح مهمة الموظف العمومي في احترام العون لعمله وللمواطن والقيام بالواجب تجاهه، "فأنا أضع نفسي في مكان المواطن، ولو حتى لا يمكنني تقديم الخدمة في الوقت الذي يريد فعليّ أن أفهّمه باحترام وبطريقة جيدة تجعله يتقبل الأمر".
المؤسسات من نقص في الموارد البشرية "ما يضطرها إلى سد الشغور بموظفين من غير الاختصاص ما يؤثر على جودة الخدمات المقدمة بالرغم من كفاءة هؤلاء
ويؤكد: "عملنا مرتكز أساساً على التواصل مع المواطن لذلك علينا أن نتعلم كيفية التواصل معه وإيصال المعلومة له وتبسيطها حتى نكتسب احترامه لنا وللقانون، فإذا كان هو يجهل القانون فواجبنا أن نفسره له".
الضمير المهني
يعرّف الباحث في علم الاجتماع طارق بالحاج محمد، العمل على أنه من أكثر الأنشطة التي تحقق إنسانية الإنسان "وبه نفيد غيرنا ونستفيد بتحقيق احتياجاتنا المادية ونكوّن علاقات اجتماعية"، يقول لرصيف22.
لا توجد في تونس إحصاءات أو دراسات رسمية عن مستوى ثقافة العمل في الإدارة العمومية، لذلك "لا يمكن التعميم بصفة مطلقة ولكن يمكن عدّ أن الضمير المهني يكاد يكون غائباً أو ضعيفاً خاصةً في القطاع العمومي مع تفاوت حضوره من شخص إلى آخر ومن جيل إلى آخر"، يؤكد.
ويعزو بالحاج محمد، غياب الضمير المهني في الإدارة التونسية العمومية إلى "وجود إرث ثقافي ونفسي واجتماعي مضاد لثقافة العمل وممجّد لقيم التواكل والقدرية والصدفة ويتجلى ذلك من خلال الأمثال الشعبية التونسية المعادية للعمل مثل "إلي خدموا ماتوا" إذا لقيت زهو وطرب لا تبدلو لا بشقاء ولا بتعب" وغيرها، يضيف.
كما يرجعها إلى سلوكيات العديد من موظفي الإدارات العمومية التي هي "جزء من الإرث الثقافي والاجتماعي التونسي" كالتأخر في الذهاب إلى مقرات العمل ومغادرتها قبل انتهاء الدوام بالإضافة إلى تفشي ظاهرة "التسويف والتأجيل" في الإدارة العمومية في الجملة الشهيرة "أرجع غدوة" وتوصيف الموظف المتفاني "بالمحراث" من باب التندر به والسخرية منه عوض تكريمه وتشجيعه.
مجال للصراع والتوتر
عن مناخ العمل في الواقع التونسي يرى الباحث في علم الاجتماع، أن "العمل يخلق في المؤسسة نوعاً من الانتماء والتواصل والتفاعل يرقى إلى الزمالة والفريق وحتى حدود الصداقة، غير أن فضاء العمل يتحول في تونس -وهذا السائد- إلى مجال للصراع والتوتر والخصومة".
وبحسب طارق بالحاج محمد، فقد تحول العمل عند نسبة مهمة من التونسيين إلى "شر لا بد منه يأتونه مضطرين ومتذمرين ما ينجم عنه إهدار منظم من قبل الموظف للوقت وبذل أقل مجهود وتحول الوقت الإداري إلى نوع من الاعتقال الإداري يولي موضوع الحضور أهميةً وأولويةً أكبر من مردود الموظف العمومي.
كما يسود مناخ العمل في تونس غياب معايير الإنصاف والعدالة في إسناد الترقيات والتشجيع للموظفين العموميين، "فتتم مكافأة المتزلف على حساب الكفء ما يتسبب في مشاعر الظلم والحزن وعدم الفائدة من التفاني والاجتهاد في العمل لدى المتميزين"، يضيف.
وأشار إلى غياب لغة الحوار والتواصل الحقيقي بين الأجيال والرتب الوظيفية المختلفة داخل المؤسسة العمومية الواحدة وإلى استمرار اعتماد بعض المسؤولين على طرق "بالية" في التسيير من ذلك خلق أجواء متوترة بين الزملاء داخل الإدارة لتسهيل عملية السيطرة عليهم.
يلخص الباحث في علم الاجتماع طارق بالحاج محمد، علاقة التونسي بالعمل بأنها "ملتبسة ومهتزة وقائمة على التواكل وضعف الإنتاجية"، مشدداً على أن الأسباب تتعلق أساساً بعوامل ثقافية تحارب قيمة العمل وبمناخ محبط تقل فيه مساحات الثقة وتسود فيه عوامل نفسية لها صلة بأمراض الناس النفسية التي يحاولون إسقاطها على مجال العمل لتحويله إلى فضاء لتصفية الحسابات الشخصية والنفسية"، يختم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...