في مقالي السابق في رصيف22، ذهبتُ إلى الحديث عن الدور الذي لعبته سجالات صادق جلال العظم مع آخرين، في خلخلة الكثير من الوعي السابق بالقضايا لدى جيلنا، وفي تحريك الأجواء الفكرية والنقاشات التي لم تكن راكدة آنئذٍ كما هي راكدة اليوم، وهذه مفارقة تستدعي النقاش.
فاندلاع الثورة السورية رافقتْهُ طاقة تحرّر كبيرة على مستوى "النشاط السياسي"، وعلى صعيد اللغة والصورة والقراءات والكتابات الجديدة التي كانت ممنوعة أو ممتنعة، قبل عام 2011، وتستمر حتى اليوم بصيغ وأشكال مختلفة. لكنّ مسار تلك الكتابات، ومع بعض التعميم الذي لا يلغي استثناءات هنا وهناك، كان ولا يزال هو نفسه منذ لحظة عام 2011 وحتى إلى ما بعد تراجع الثورة ثم هزيمتها.
في البداية، كانت هناك محفّزات للكتابة عن المستقبل المنشود الذي حلمنا به كسوريين منضويين في صفوف تلك الثورة. أما بعد تحوُّل الصراع تلك التحولات الرهيبة، وتحوُّل سوريا إلى بلد بلا أفق منظور وبلا إمكانية للتنبؤ بمآلاته، إلا باستخدام التنجيم وقراءة الكف والأبراج، وعلى رأسها "برج الأسد"، فإنه من المستغرب أن يتكرّس اليقين وأن تثابر الكتابات السورية في أغلبها على إعطاء أجوبة "قطْعية"، تصدر عن "قطْعيّين" يفترض أنهم مشتغلون بالعمل السياسي وما يصاحبه من ديناميكيات، أو بالثقافة وما يتفرع عنها من فضاءات رحبة مضادة لليقين.
فإذا كتبَ "القَطْعيّون" اليوم عن مستقبل سوريا، "فاجأونا" بأن الحل هو "الديمقراطية"، وإذا قدّموا ورقة عن التخلف الاجتماعي، قالوا إن الحل هو بتحرير المرأة ومساواتها مع الرجل ونبذ العصبيات. وإن كتب أحدهم حول تصوره لمستقبل سوريا، أنبأَنا أن "العلمانية هي الحل"، وبأن "سوريا ليبرالية حداثية ستكون مستقبلنا بعد التغيير السياسي". وعندما نسأل، من باب الفضول وحب المعرفة وحسن النية، عن كيفية تحقيق الديمقراطية، يأتينا الجواب بأنه يتم عبر"تلاحم قوى الشعب"، وهو تلاحمٌ يمكن بلوغه، بلا شك، من خلال "رص الصفوف وتوحيد الكلمة وإعلاء راية الحرية"، من دون أن ننسى ضرورة "الترفّع عن الانقسامات والخلافات وكل ما يؤثر على وحدة الشعب السوري العظيم من أجل بلوغ الغد المنشود والمشرق لسوريا، مهد الحضارات والأبجدية".
"يتميز" هذا النوع من الكتابات بـ "ميزتين" رئيسيتين:
الأولى، أنه يقدم حلولاً وخلاصات وأفكاراً هي ذاتها الأفكار التي نحملها، كسوريين كُثر، عَلمانيين، على علاقة طيبة بالغرب وبـإرث التنوير الاوروبي غير الخطّي بطبيعة الحال، وديمقراطيين، أقلُّه كما نقول عن أنفسنا. والثانية، أن هذا التقاطع في الأفكار يبقى ضعيف القيمة، لأنه لا يتيح توافقات "كتابية" وسياسية ومعرفية بين القَطْعيين وغير القَطْعيين في التفكير والكتابة والعمل المشترك، رغم علمانية وحداثية وديمقراطية كليهما.
نريد أن نجمع "المجد" من أطرافه، لذا نحاول أن نكون "بتاع كلّه": الماضي والحاضر، القديم والحديث، التقليدي والعصري، متجاهلين أن الحديث، في تجارب الشعوب المتقدمة، لم يتكون إلا على أشلاء القديم، وأن المستقبل جُبل في عملية تناقضية مع الماضي الوسطوي، وأن العصري تبلور مع مطاردة التقليدي
الكتابة القطعية إذ تُؤدْلج سوريا
الكتابة القطعية كتابة "لا تاريخية"، تنطلق من أفكار تراها عابرة لكل زمان ومكان، وهي بهذا تشبه الدين، مع فارق أن أفكار القَطْعيين، في حالتنا هذه، هي أفكار وفلسفات وقيم وسياسات قامت عليها تجارب بلدان كثيرة ونجحت، خصوصاً في الغرب. إلا أن هذا النجاح هو الذي يضع القطعيين ونصوصهم في خانة "اللاتاريخية". فمن دون قراءة عوامل نشوء النهضة الأوربية والثورة الصناعية والفلسفات السياسية التي صاغت العالم الغربي في القرنين الأخيرين، يتم ترديد كلمات كـ "العلمانية" و"الليبرالية" و"الاشتراكية الديمقراطية" و"الحداثة" و"علم الاجتماع السياسي" بشكل دائم، واستعراضي أحياناً، دون البحث في الأسباب والمناخات التي كانت معيقة لتأصيل تلك القيم وتبيئتها في المجتمعات العربية، وهي بالدرجة الأولى سياسية طبعاً ذات علاقة بالأنظمة، وبالنظام السوري في حالتنا، لكنها أيضاً ثقافية ودينية واجتماعية تنهل من أزمنة سابقة.
كتبَ "القَطْعيّون" اليوم عن مستقبل سوريا، "فاجأونا" بأن الحل هو "الديمقراطية"، وإذا قدّموا ورقة عن التخلف الاجتماعي، قالوا إن الحل هو بتحرير المرأة ومساواتها مع الرجل ونبذ العصبيات. وإن كتب أحدهم حول تصوره لمستقبل سوريا، أنبأَنا أن "العلمانية هي الحل"، وبأن "سوريا ليبرالية حداثية ستكون مستقبلنا بعد التغيير السياسي"
وفيما خصّ الأزمنة السابقة، فإنه كثيراً ما يتم استحضار الخمسينيات السورية وبعض الستينيات، للحنين إلى "زمن وعصر ذهبي" عاشته البلاد، وهي مرحلة كانت غنية فعلاً بـ "الاحتمالات التي دكّتها الانقلابات العسكرية"، على حد تعبير حازم صاغية. وهو حنين مفهوم بعد كل ما شهدته سوريا وما كابده أُناسها، ولكنه يفتقد إلى الحُجج عندما تتم الكتابة عنه بصفته أفقاً للبلاد، بعيداً عن التحولات التي عاشتها، ومع التعامي عن صراعات طائفية وإثنية ودينية يبدو أنها هي التي سترسم شكل سوريا القادمة، يراها القطعيون بسيطة، وعابرة، إلى جانب القفز عن واقع يقول بضعف وتدنّي احتمالات استمرار الكيان السوري على ذات الشكل الذي كانه.
لقد كانت سوريا في بعض سنوات الخمسينيات مكاناً تتواجه فيها، ديمقراطياً وبرلمانياً، تيارات إيديولوجية بامتياز، شيوعية وقومية عربية وإسلامية بشكل رئيس، وهذا يبقى صحّياً ومطلوباً كائناً ما كان الرأي بتلك الإيديولوجيات، إلا أن هذه الأخيرة شكّلت منذ تلك الفترة وعي جيل كامل ثم وعي أجيال لاحقة حتى اليوم، وازدادت صلابة لدى قطاعات واسعة من المثقفين والسياسيين، على رغم التحولات التي شهدها العالم.
صحيح أن التركيز في الكتابات السورية منذ التسعينيات وحتى اليوم بات تركيزاً على سوريا، وهذا ضروري، لكنه جعل من البلد معطى مقدساً، يستلهم الإيديولوجيات الميتة والعابرة للحدود لدى التفكير بالبلد وبمصيره، وحدةً وطنيةً وشعباً واحداً وروابط ونقاءً لا تعكّره الشوائب. ولهذا بالضبط، أي انطلاقاً من عدم الاعتراف بالكارثة وتجاهلها لصالح اليوتوبيا، تحوّلَ التفكير بسوريا إلى تفكير إيديولوجي، وتحولت سوريا نفسها إلى إيديولوجيا!
في ستينيات القرن الماضي، كتب مثقف سوري بارز هو ياسين الحافظ، عمّا أسماه بـ "الوعي المطابق"، وهو وعي "يؤدي الارتطام بصخرة الواقع في ظل غيابه إلى قفزة من الرومانسية الثورية إلى الواقعية المحافظة الاستسلامية". وفي السياق عينه، يتابع صاحب كتاب الهزيمة والإيديولوجية المهزومة (1991) حديثه عن هذا النمط في التفكير بالقول إننا "نريد أن نجمع "المجد" من أطرافه، لذا نحاول أن نكون "بتاع كلّه": الماضي والحاضر، القديم والحديث، التقليدي والعصري، متجاهلين أن الحديث، في تجارب الشعوب المتقدمة، لم يتكون إلا على أشلاء القديم، وأن المستقبل جُبل في عملية تناقضية مع الماضي الوسطوي، وأن العصري تبلور مع مطاردة التقليدي".
قد يكون هذا التوصيف الذي كتبه الحافظ قبل نصف قرن من الزمن، ملائماً كثيراً لوصف كتابات سورية لم تغادر الماضي الذي مات فعلاً، وتحاول إحياءَه بتلفيق ثقافي أساساً، ثم سياسي. فالعالَم السوري القديم قد زُلزل وانهار، ومعه سوريا وخمسينياتها وستينياتها وبعض الاحتمالات التي كانت قائمة في سبعينياتها، لكنّ الكتابات القطعية تبقى كتابات مضادة للزلازل، يعجز أمامها مقياس ريختر بالمقدار الذي تعجز فيه، هي نفسها، عن قياس حجم ما حصل وعن محاولة تفسيره والبحث فيه، خشية أن يتداعى عالمها التوراتي الذي لا تزال تنهل منه.
أمثال صادق العظم وجورج طرابيشي كانوا كتاباً نقديين، غير قَطْعيين، متقدمين بما كتبوه في سياقهم التاريخي قبل عقود، على نصوص مُملّة تفيض علينا اليوم من هنا وهناك.. نصوص كُتبت بعد ثورة غيرت كل شيء تقريباً، إلا أنها لم تغير النظام الحاكم، لسوء طالعنا جميعاً
السلَفية السِّجالية"
لم يأت الاستشهاد أعلاه بياسين الحافظ من فراغ. إنه استشهاد يركز على وعي مطابق يغيب اليوم عن كتابات وتنظيرات وثقافة عدد من المنظّرين للحالة السورية. وهو يحمل دلالة على تقدم بعض الكتابات السورية قبل عقود على الكثير مما يُكتب ويفكّر فيه اليوم، ويجعل من التطور المعرفي مرهوناً بالنص المكتوب وبأدوات التفكير والتحليل، كما هو الحال مع نص الحافظ، لا بالعمر أو الزمن الذي كتب فيه، ولا بـ "دور الشباب والمهندسين والأطباء والصيادلة والعمال وصغار الكسبة والجمعيات الحرَفية" على ما يتم الترويج اليوم وبكثرة، وهذا يعيدنا إلى صادق العظم نفسه.
فالسجالات التي خاضها العظم وجورج طرابيشي وغيرهم مع آخرين، كانت قرينة على أهمية الأفكار القابلة للاشتباك معها والمثيرة للنقد والنقاش والجدل، على عكس كثير مما يكتب اليوم من نصوص تجعل التاريخَ خطياً، والتطور حتمية، والديمقراطية والعلمانية والليبرالية و... أفقاً أكيداً، بحيث تغلَق أبواب السجال والاختلاف مع النص القطعي، الحديدي، والموصَد من كافة جوانبه.
لهذا كله، ولغيره أيضاً، لا يخفي كاتب هذه السطور غرَقَه الحالي وإعجابه بما يقترح تسميته بـ "السلفية السجالية"، حيث القراءة اليومية لجدالات ومناظرات ولكتب مؤسِّسة كتبت قبل عقدين أو ثلاثة أو أربعة. وهي السلفية الوحيدة التي قد تكون مقبولة، من وجهة النظر الشخصية، في الفضاء الثقافي العربي والسوري، ومن دون أن تبخس قدر كتابات معلِّمة وجديدة وواعدة تكتب وتنشر اليوم في سوريا والعالم العربي، ما تزال في بداية طريقها وفي بداية محاولتها إعلان القطيعة مع النص القطعي.
فالعظم وطرابيشي مروا بالماركسية، وكانوا إيديولوجيين في فترات من حياتهم بشكل أو بآخر، كما أن ياسين الحافظ كان ممن حاولوا خلق مصالحة أو توافق بين الفكر القومي العربي والماركسية غير السوفييتية، وهذا ما لن يصمد اليوم بطبيعة الحال.
لكنهم كانوا كتاباً نقديين، غير قَطْعيين، متقدمين بما كتبوه في سياقهم التاريخي قبل عقود، على نصوص مُملّة تفيض علينا اليوم من هنا وهناك... نصوص كُتبت بعد ثورة غيرت كل شيء تقريباً، إلا أنها لم تغير النظام الحاكم، لسوء طالعنا جميعاً، كما لم تغير في الكتابة القطعية الغارقة في اليقين وفي الكسل المعرفي، ولا يبدو أنها ستفعل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون