شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
إن لم يجد خصماً اخترَعَه... صادق جلال العظم

إن لم يجد خصماً اخترَعَه... صادق جلال العظم "مساجلاً" مصطفى طلاس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 29 مايو 202211:20 ص

يأخذ كثيرون من الكتاب والمثقفين العرب على أستاذنا الراحل صادق جلال العظم، غرَقَهُ في الكتابة السجالية، وحيازة هذه الأخيرة لمساحات ليست قليلة من مؤلفاته، وخصوصاً المؤلفات التي تضمنت الاشتباكات الفكرية للعظم مع خصوم له في الضفاف المقابلة، وأحياناً مع "أصدقاء لدودين" قد يقاسمونه ويشاركونه عدداً من قناعاته.

ولعل أول ما يتبادر إلى الأذهان لدى ذكر سجالات العظم الكثيرة، كتابا "ذهنية التحريم" و"ما بعد ذهنية التحريم"، حيث الدفاع الأصيل عن حق سلمان رشدي في الكتابة والحياة، والسجالات مع أدونيس وهادي العلوي وعلي حرب  وآخرين كُثُر، وقبل ذلك، اشتباكه الفكري والمنهجي وسجاله مع إدوارد سعيد في "الاستشراق والاستشراق معكوساً"، والذي جرّ عليه عدداً من الاتهامات كالَها له عميد المكارثيين العرب ومؤلف كتاب "الاستشراق": سِفر الممانعة العربية ومرجعها الرئيس.

دوافع السجال ومسبباته المفترَضَة

ذاك أن صادق العظم كما يلاحظ أحد نقاده "لا يستطيع ممارسة فعل الكتابة، إجمالاً، إلا في مواجهة خصم، وهذا إلى حد أنه إذا لم يجد خصماً اخترَعَه". وهو قول قد لا يجانب الحقيقة فعلاً، لكن ربما حوّله العظم نفسه إلى "ميزة" كما يقول، مثلاً، في حوار أجراه معه ماهر الشريف:

"نعم. حين أكتب وأفكر وأحلل وأناقش وأطرح الآراء والأحكام، أحتاج إلى من أحاوره وأنتقده وأتناقض معه أحياناً وأتفق معه أحياناً أخرى، جزئياً أو كلياً، كما أفضل الانطلاق مما طرحه غيري حول مسألة من المسائل، وأن آخذ بعين الاعتبار، سلباً أو إيجاباً، ما توصل إليه الآخرون من نتائج قد أستند إليها وأختلف معها. ولا أرى في هذا كله إلا ميزة عالية ومتقدمة، لأني أعي جيداً أني لا أعمل في الفراغ ولا أتصرف عموماً وكأنني أنطلق من نقطة الصفر".

انطلاقاً من كلامه أعلاه ومن كتاباته، يبدو العظم كاتباً سجالياً ومساجلاً، ليس لرغبة منه دائمة أو لنزوع مجّانيّ  إلى السجال، بل ربما انطلاقاً من ضرورة كون الكتابة، وخصوصاً الكتابة العربية، كتابة يفترض بها أن تشتبك مع نص أو حالة أو فكرة أو نظام سياسي واجتماعي، بحكم تراكم الكوارث والقضايا والمسائل التي تنهل من اليقين والمقدس، ومن التبسيط والسذاجة في طرح الحلول. فالخمسينيات والستينيات التي كانت تحفل بالإنشاء الكلامي، وهو ما تشهد عليه مقولة ميشيل عفلق من كونه كتب وألّف عدداً من الكتب من بنات أفكاره ومن دون أن يحتاج إلى قراءة كتاب واحد، تستمر حتى اليوم، وبما يجعل تلك العقود، في بعض الأحيان، صنو العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، من حيث آليات وأنماط التفكير والاستنتاج الرائجة اليوم، ومن حيث أدوات الكتابة والذهاب سريعاً إلى تقديم حلول.

صادق العظم "ليس مجرد هاوٍ للجدال والسجال ولممارسة التقاليب النقدية. فمؤلف ذهنية التحريم لا يضع في الكفة الأخرى للميزان سوى حياته"

غير أن الستينيات نفسها شهدت مواجهة صادق العظم لمؤسسات مكرسة، دينية وسياسية واجتماعية وثقافية، من خلال كتابه- الصدمة "نقد الفكر الديني"، والذي أوصله وناشر الكتاب إلى المحكمة، في بيئة كانت تستقل من التفكير والتجرّؤ على المحرمات، وخصوصاً تابو الدين. كما أن صادق، في العقدين الأولين من الألفية الثالثة، كان المثقف المساند لتجربة "ربيع دمشق" بين عامي 2000 و 2001، والمنحاز إلى الثورة ضد بشار الأسد منذ عام 2011 وحتى رحيله. وهو، وعلى رغم الاختلاف مع بعض أفكاره بعد الثورة، كان دائماً يثير النقاش بما يكتبه وما يقوله حول مسائل سورية وعربية كثيرة.

وفيما خص السجال أيضاً والدوافع إليه، يرى أستاذ راحل آخر هو جورج طرابيشي، أن صادق العظم "ليس مجرد هاوٍ للجدال والسجال ولممارسة التقاليب النقدية. فمؤلف ذهنية التحريم لا يضع في الكفة الأخرى للميزان سوى حياته". لقد خلقَ من خلال ممارسته النقد، ونقد النقد، ونقد نقد النقد، قضية من الوزن الثقيل. فمنذ صدور كتاب "ذهنية التحريم"، والكلام هنا لطرابيشي، "تحولت الآيات الشيطانية من قضية عالمية إلى قضية عربية أيضاً... وحسبنا تدليلاً على ما نقول الإشارة إلى أن عدد النصوص المنشورة في (ما بعد ذهنية التحريم) والتي راوحت مواقف أصحابها بين الدفاع والنقد، بل النقض، قد بلغ 23 نصاً.. وقد أفلح ص. ج. العظم في أن يستجر إلى السجال ناطقين بلسان أبرز التيارات الفكرية والأيديولوجية في الساحة الثقافية العربية، وبخاصة منها التيار القومي والماركسي والليبرالي والإسلامي. وليس من قبيل المصادفة، من وجهة النظر هذه، أن يكون في عداد جملة الردود المنشورة نص لمحمد الموسوي، الكاتب في مجلة (العهد) التابعة لحزب الله، ونص للعماد مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري في حينه".

السجال مع مصطفى طلاس

كان السجال مع طلاس مختلفاً بدرجة كبيرة عن سجالات أخرى مع العظم، على ما نرى، لسبيين:

تحولت الآيات الشيطانية من قضية عالمية إلى قضية عربية أيضاً بسبب العظم... وحسبنا تدليلاً على ما نقول الإشارة إلى أن عدد النصوص المنشورة في (ما بعد ذهنية التحريم) والتي راوحت مواقف أصحابها بين الدفاع والنقد، بل النقض، قد بلغ 23 نصاً

الأول، لأن وزير دفاع حافظ وبشار الأسد استطاع كتابة نص يساجل فيه مثقفاً بمستوى العظم. فلا نظام الأسد ولا عسكره ولا ضباطه ولا جيشه العربي السوري ولا "مؤسساته" الثقافية قادرة على التنطح الفكري لقامة مثل العظم، اللهم إلا من خلال التخوين والاتهامات البعثية الرائجة، أو الأذية الجسدية كـ "سجال" أقصى كما حصل مع كثيرين. والثاني، معطوفاً على الأول، أن نص طلاس، إن كان طلاس هو من كتبه فعلاً، لم يغادر اللغة البعثية والمحتوى الذي وصل إلى حد إنكار وجود شخصيات مكرسة ووازنة في التاريخ العربي، واعتبارها شخصيات من وحي خيال الزنادقة.

فطلاس يهاجم أدونيس مفترضاً أن دوراً يهودياً قد أوكل إليه ليكتب ما كتب، ويهاجم نجيب محفوظ معتبراً إياه جزءاً من مؤامرة. ويكتب مخاطباً العظم: "وكيف يتأتى القول بأن علينا أن نجعل من العبث حجة لإزهاق الحق؟ هذا، ولعلك إن عدتَ بشيء من التنقيب والتحقيق في كل هذا الذي نقلت من سخرية بالإسلام أو القرآن، ولعلمك أنها فصول من الكلام الحاقد حيكت من قبل زنادقة في الظلام، ثم ألصقت بأبطال وهميين لا وجود لهم". (ما بعد ذهنية التحريم. طبعة دار المدى. ص 349). وهو يضع شروطاً لحرية الكتابة والإبداع على سلمان رشدي بالقول: "ليس لك يا أخ جلال أن تجهل أمراً بديهياً يعرفه سائر المثقفين، وهو أن من حق الفن الروائي عندما يدخل في حقل الأحداث والتاريخ الواقعي أو تراجم الرجال، أن يتخيل وينسج من الأحلام صوراً شاخصة أو متحركة، على أن يسير ذلك مع تيار الواقع لا عكسه...". (ما بعد ذهنية التحريم. ص 338).

أخيراً، يختم وزير دفاع الأسد نصه بكلمة لباسكال يقول فيها: "الناس ثلاث فئات: فئة بحثت عن الحق فعرفته فاستمسكت به، وفئة جادة في البحث عنه، وفئة لم تعرفه ولا هي جادة في البحث عنه. فهذه الفئة ثقل وعالة على الإنسانية كلها" متمنياً على من يسميه بـ "الأخ جلال" أن لا يكون عالة على الإنسانية ولا يتطوح في الضباب.

طبعاً، وكالعادة، كتب العظم نقداً للنقد، وساجَل طلاس وردّ عليه في نص طويل حمل عنوان "سرير بروكروستوس". وبروكروستوس هو أحد أبطال الأسطورة اليونانية القديمة، كان يحكم على طول أجسام الناس وفق معيار واحد هو طول سريره الحديدي، وكان أيضاً يعيد تفصيل هؤلاء قسراً بما يتناسب مع حجم السرير، "فيقطع الفائض في الطول عند اللزوم ويشد ويمطّ قصار القامة إلى أن تتلاءم أحجامهم مع السرير إياه".

فالعظم، كما يوضح في نصه المذكور سابقاً، كان يحيل القارئ إلى الطبري مثلاً، ليرد طلاس بإخراج الطبري من الساحة كلياً، مختزلاً إياه إلى كاتب "عرف بولعه بالتجميع وبالأخبار الغريبة ولا سيما بالدسّات اليهودية التي تبناها الجهلة وشجع الحكام عليها من جهة أخرى، وبالروايات الضعيفة وبالأكاذيب".  وإذا فتش العظم في مرويات التراث التي لها علاقة بـ "الآيات الشيطانية"، "ردّ طلاس باستبعاد هذه المرويات كلها بعد إدراجها في خانة الأكاذيب المخترعة والحكايات التافهة، بالإضافة إلى نعتها بـالإفك". وإذا استدعى أعمال ابن الكلبي والواقدي، رد الضابط السوري بإدراج هذه الأعمال وأصحابها في "قائمة المخربين السوداء"، مستنتجاً انه "ما دامت إسرائيل والصهيونية قائمتين فإنهما واجدتان، دون شك، عشرات سلمان رشدي كما أوجدتا من قبل الواقدي وكعب الأحبار".

إن سرير بروكروستوس في حالة وزير الدفاع الراحل هو نظرية المؤامرة الصهيونية حيناً، وتقديس التراث كما يكتبه سدنة وفقهاء معاداة الحرية والفلسفة والتفكير، أحياناً أخرى، في خلطة غريبة قد تجمع مادتي "التربية القومية الاشتراكية" و"التربية الإسلامية" اللتين كانتا تدرّسان في مدارس حزب البعث العربي الاشتراكي، وتُطمْئِنان البشر المطيعين والمنصاعين إلى التعاليم والتعليمات إلى بلوغهم الجنة الأرضية (الوحدة العربية الشاملة) والجنّة السماوية (الفردوس الأعلى)، على عكس نار جهنم التي سيقيم فيها، مخلّداً بالطبع، كل من العظم ورشدي وكاتب هذه السطور ومليارات آخرون معنا من البشر.

يختم العظم نصه السجالي مع طلاس بالقول: "لن أكتم العماد بأني أحسده على الطمأنينة الذهنية والنفسية والروحية الكاملة والعميقة، والتي تشع من كل سطر من سطور مقاله، إلى أنه قابض على الحق تماماً، متيقن، دون أدنى ريب، من كل ما يميز الحق عن الباطل في هذا العالم. متأكد، دون أي تردد، من ماهية المقدس وماهية عكسه. أحسده لأنه ليس باستطاعتي الادّعاء، بأي مقدار من الأمانة والصدق مع النفس، بأني أملك مثل هذه الطمأنينة العقلية والعاطفية والروحية، إذ أني لم أتصالح مع نفسي ومع مجتمعي ومع هذا العالم إلى هذا الحد بعد".

والحال، وعلى سبيل الخاتمة، أن كاتب هذا المقال لا يملك بدوره إلا أن يحسد صادق جلال العظم على قدرته وعلى صبره وتحمله مشقة السجال مع طلاس ومع نص مثل نصـ"ـه"،  لكنه في الوقت عينه لا يملك إلا أن يشعر بالامتنان له على تكبده عناء هذا السجال وسجالات أخرى كثيرة، كانت وما تزال شارحة لأنماط ومدارس في التفكير والكتابة، ولتيارات محافظة وكسولة ازدادت رسوخاً وكسلاً وتخلفاً، على رغم الزلازل والبراكين التي انفجرت في تلك المنطقة منذ عقود وخصوصاً في عقد الثورات العربية الأخير، ولهذا العقد ولثقافته وللمحافَظَة والسلفية الفكرية فيه، كما لغياب السجالات والجدالات المثمرة خلاله، حديث آخر يطول...

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard