ما بين القاع الاجتماعي المهمّش في التاريخ السوري، بكل أبعاده المادية والفكرية، والأرستقراطية المدينية العريقة التي انبثق منها صادق جلال العظم، ثمة رابط وحّد بين عالمين، رابط اتسم بالتمرّد على كل ما هو موروث من إرث بطريركي تسلطي وقروسطي، يغلّف الفضاء المجتمعي بصور شتى، تبدأ من لحظة الولادة، وتنسلّ من خلال العرف التقليدي في التربية التي تكرّس الخنوع، الضحالة، الإيمان الأعمى المخدر للعقل، والتسليم لأولي الأمر والنهي المتجسدين بقمة الهرم المجتمعي في السياسة والدين.
وكما تكرّس في لاوعي العظم ما يرمز إليه بيت العائلة العريق في الجسر الأبيض، من خلال ما عناه لوالدته من قمع وقهر وقيد، كذلك عاش في مناخ مدرسة "كمال أتاتورك" السياسية التي كان أبوه وعمه من أنصارها الفاعلين، حيث ساد جو من التسامح والانفتاح والليبرالية، وذلك لأن التديّن في الوسط الأرستقراطي، وحسب العظم، ينحو لأن يكون عملياً، لما تتطلبه موازين السلطة والقوة والعلاقة بينهما.
وعليه، لا بد أن يتسم بالمرونة للمحافظة على المصالح المتبادلة، وإن وجد تعصب فهو لتوكيد البطريركية المسيطرة، كما للجسر الرابط مع العامة عن طريق رجال الدين، لترسيخ السيادة والتسلّط ليس إلا، وهو على النقيض من التديّن الشعبي الذي يجد فيه ملاذه الأخير. وهذا ما غاب عن الدكتور صادق جلال العظم عند حديثه عن "العلوية السياسية" في سياق حديثه عن "الثورة السورية"، وهو ما يحتاج لبحث آخر مجاله ليس هنا.
صادق العظم مفكر إشكالي سجالي من الطراز الرفيع، صاحب عقلية نقدية وعلمية جدالية همّها تفكيك التابوات والولوج للأعماق المظلمة في الفكر والمجتمع الإنسانيين لاستجلاء مكوّناتهما ورفع الحصانة عنهما
النافذة التي أشرعها صادق
يمثل العظم الجيل الثالث من روّاد التنوير العربي، إلى جانب لويس عوض، الجابري، جمال حمدان، محمد أركون، مهدي عامل وحسين مروة... إلخ، هذا الجيل الذي أُثقل كاهله بأزمة وجودية بكل أبعادها الحضارية، عقب هزيمة حزيران 1967.
تعرفت عليه بداية عن طريق كتابه "نقد الفكر الديني"، الذي حسم موقفي في دراسة الفلسفة لاحقاً، ليس لأني وجدت فيه ملاذاً لهواجسي، أو مسوغاً لتمردي المبكر على المؤسسات كافة، بدءاً من الأسرية والتربوية والمجتمع والفقر، وحتى السلطة السياسية، وإن كان بشكل عفوي، وإنما لأني وجدت فيه، حينذاك، ذاتي، ما كنت أهجس به خلال صدامي اليومي مع البنى المؤسسة لتركيبة المجتمع السوري، والبيئة المجتمعية التي ولدت فيها.
عرفني على الدكتور صادق جلال العظم فيما بعد رفيق في "حزب العمل الشيوعي" في سهرة في المخيم. كان كواحد منّا، ليس ذاك الأكاديمي صاحب الطريقة والمنهج، ومن حوله مريدون وطلاب، وليس ذاك الأب الذي عليك الاستماع لنصائحه وتعليماته، وليس تلك الأيقونة التي عليك اللهج بحِكَمها التي لا يطالها النقد، وليس ذاك الذي يقدم لك اليقين في كل ما تتساءل عنه، وباختصار أيضاً، ليس ذاك الموسوعي، صاحب جراب الحاوي.
يمثل العظم الجيل الثالث من روّاد التنوير العربي، إلى جانب لويس عوض، والجابري، وجمال حمدان، ومحمد أركون، ومهدي عامل وحسين مروة...
كان مفكراً إشكالياً وسجالياً من الطراز الرفيع، وصاحب عقلية نقدية وعلمية جدالية، همّها تفكيك التابوات والولوج للأعماق المظلمة في الفكر والمجتمع الإنسانيين، لاستجلاء مكوّناتهما ورفع الحصانة عنهما. كان موضوعياً في نقده ورؤاه قدر الإمكان، حيث لا مكان للذات الباحثة عن المعنى والفعل في إسقاط تصورات مسبقة، حيادياً تجاه الظاهرة المجتمعية التي يحللها إلى حدّ ما، لأنه لا مجال للعواطف في تعرية الظواهر المجتمعية وتفكيكها، مشاكساً ومستفزاً ومبتكر أفكار، سواء للذات الباحثة والنهمة للحقيقة والمعرفة، أو للمستنقعة في مطلقاتها ويقينياتها على السواء.
كان "نكّاش دبابير" بالمصطلح العامي، فأينما وجد لا بدّ أن يحرّض "الأموات" على الخروج من القبور المصطنعة بمقاس الإيديولوجيات الشمولية آنذاك، والممهورة بخواتم القداسة والمحرّمات، ولا بد أن يُثوّر المستنقعات أو يصيبها بالاضطراب أو الهيجان، حيث لا مكان للسكون في عالم الحركة والتغير الدائمين.
الإشكالي المحرض
لم يتدرع العظم برداء الأكاديمي التقليدي، بل ارتقى بمفهومه وانتقل من فضاء الأكاديمي إلى الفضاءات الأخرى منذ الستينيات، عقب عودته من الولايات المتحدة الأمريكية، وتعيينه كمدرس مساعد في الجامعة الأمريكية ببيروت، وبدت المدينة والجامعة أكثر تألقاً وتوهجاً وحيوية، سواء في محاضراته العامة التي كان يقدمها في النادي الثقافي العربي، من بينها محاضرتان نشرتا فيما بعد في كتابه "نقد الفكر الديني"، وهما "الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني" و"مأساة إبليس"، وتوّجهما بمراجعة نقدية لمؤتمر أقامه شارل مالك في الجامعة الأمريكية، تحت عنوان: "الله والإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر"، ونشرها في جريدة النهار في شباط/فبراير 1967، تحت عنوان: "الله والإنسان في الجامعة الأمريكية"، و"القشة التي قصمت ظهر البعير" كانت بنشر كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، والذي كتبه في حرم الجامعة الأمريكية،.
فصدر قرار الجامعة بإعفائه من مهامه وعمله في الجامعة، وإثر ذلك قامت تظاهرات طلابية، أدّت لتعطيل التدريس ثلاثة أيام في كليات الجامعة كلها، بما فيها كلية الطب، وهذا يعتبر سابقة في حينه، كما أنه يعبر عن مدى التصاق الأستاذ الجامعي بالطلاب، ومدى قربه من فضاءاتهم بشكل خاص، وليس الأكاديمي فحسب.
محاضرات العظم التي كان يقدمها في النادي الثقافي العربي، ومراجعته النقدية لمؤتمر شارل مالك في الجامعة الأمريكية بعنوان: "الله والإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر"، ونشره لكتاب "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، أدّت إلى إعفائه من مهامه في الجامعة الأميركية
بين دمشق وبيروت
هذا المشهد لن نشهده في جامعة دمشق، ليس لأن الدكتور العظم لم يخترق فضاءات الطلاب، يغوص في تجاربهم ويكون جزءاً منها، أو لأنه ترك مسافة أمان بين الأستاذ والطلاب، أو أبقى جدار الهيبة الأكاديمية حائطاً فاصلاً، أو مصطبة مرتفعة ومسورة، وإنما لأن فضائي المدينتين مختلفان ببساطة.
لكل من المدينتين بصمتها الخاصة التي لا تمحى في حياة ومسيرة وفكر صادق جلال العظم، وإن اعتبر نفسه دمشقياً شامياً بامتياز، إلا أن الفترة الزمنية التي عاش فيها في بيروت أكبر من تلك التي عاشها في دمشق. إضافة إلى أن المرحلة ما بين الخمسينيات وبداية السبعينيات، كانت مرحلة انتقالية استثنائية، من حيث الظرف الحضاري والسياسي للمنطقة، بدءاً من النزوع للتخلص من الإرث الاستعماري وذيوله المشرّشة في القاع الاجتماعي والسياسي، إلى صعود المدّ القومي والفكر الراديكالي والمقاومة الفلسطينية التي طغى فضاؤها على ما عداه، بغض النظر عن سياقاته وتأثيراتها على الشارع العربي وأنظمته.
كما كان لهزيمة 1967 وقعها المزلزل على كافة المستويات المجتمعية، من سياسية واقتصادية وفكرية وإيديولوجية، حيث تعرّت وتساقطت شعارات البطولة الدونكيشوتية والشعبوية، واتجه اهتمام صادق جلال العظم، كالعديد من المثقفين في تلك المرحلة، كسعد الله ونوس "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، ونزار قباني "هوامش على دفتر النكسة"... إلخ، إلى نزع ورقة التوت الأخيرة عن نظام عربي منخور حتى القاع، وتجلى ذلك في كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، ومن ثم انتقاله للعمل ضمن أطر المقاومة الفلسطينية، حيث ساهم في مركز الأبحاث التابع لها في بيروت، مع مجموعة من المثقفين، حاولوا فيها كسر جدار الوهم والغموض الذي بنته الأنظمة وإيديولوجياتها عن إسرائيل، والقيام بحركة تنويرية هدفت لمعرفة الأسباب الحقيقية الواقعية التي أدت للهزيمة.
في منتصف 1968، درّس صادق العظم في الجامعة الأردنية لعدة أشهر، كانت كافية بالنسبة للسلطات الأردنية لوضعه على لائحة الممنوعين من دخول البلد، وترحيله على طائرة مسافرة إلى بيروت
إذ إن السياسات الرسمية العربية اتسمت بحالة مرضية نكوصية تجاه إسرائيل، من خلال منع وتحريم أي مقاربة أو دراسة أو ذكر لكل ما يتعلق بهذا الكيان، والتي استمرت إرهاصاتها حتى ما بعد التسعينيات. مرحلة طغت عليها هموم الهزيمة والمقاومة الفلسطينية وحرب الاستنزاف، أمضاها صادق في التنقل ما بين بيروت وعمّان ودمشق، حيث كان النشاط السياسي والفكري مهيمناً، راهناً جلّ طاقاته للمقاومة الفلسطينية، شأنه شأن العديد من المثقفين، وإن رافقه عمل أكاديمي خجول.
ففي منتصف 1968، درّس في الجامعة الأردنية لعدة أشهر، كانت كافية بالنسبة للسلطات الأردنية لوضعه على لائحة الممنوعين من دخول البلد، بعد ترحيله على طائرة مسافرة إلى بيروت. وفي نهاية العام 1969، انفجرت إشكالية كتابه "نقد الفكر الديني"، على خلفية تناوله وطرحه للعديد من القضايا المحرّم تناولها أو وضعها على بساط البحث، سواء بما يتعلق بالمؤسسة الدينية أو السياسية بالتحديد، وخلخلة ما هو سائد في الفضاء الاجتماعي العام الذي يهيمن عليه السياسي والديني بآن معاً.
هذا من جانب، ومن جانب آخر صدمة الهزيمة العسكرية لثلاثة جيوش عربية أمام الجيش الإسرائيلي، الذي أسقط الأقنعة التي تتستر بها المؤسسات السلطوية، من دينية وسياسية ومدنية، وحتى قضائية. وإثر ذلك، طلب مفتي الجمهورية اللبنانية بإحالة المؤلف والناشر والكتاب إلى المحاكم، كما طالب بتوقيف العظم، وليسجل مفارقة غير مسبوقة في تاريخ لبنان وسورية، وإن كانت مألوفة في السياق الحضاري العربي الإسلامي، حيث فرّ من لبنان إلى سورية، ومن ثم سلم نفسه للسلطات اللبنانية، بعد مفاوضات معها بشأن الكتاب، وأُوقف أسبوعاً على ذمة التحقيق.
في أواخر السبعينيات صدر له كتابان في بيروت وهما: "سياسة كارتر ومنظرو الحقبة السعودية" و"زيارة السادات وبؤس السلام العادل"، ومُنع الكتابان في سورية، ولفتا أنظار السلطات إليه، ما أدى لاعتكافه في بيته في بيروت، على الرغم من أنه كان يدرّس وقتها في كلية الآداب في جامعة دمشق.
في أواخر السبعينيات صدر له كتابان في بيروت هما: "سياسة كارتر ومنظرو الحقبة السعودية" و"زيارة السادات وبؤس السلام العادل"، ومُنع الكتابان في سورية، ولفتا أنظار السلطات إليه، ما أدى لاعتكافه في منزله في بيروت
وفي منتصف تسعينيات القرن الماضي، وبمبادرة من عميد كلية الآداب، حامد خليل، وصادق جلال العظم، رئيس قسم الفلسفة بجامعة دمشق، أقيمت فعاليات الأسبوع الثقافي في الجامعة، والذي بدا حينها حدثاً استثنائياً على أكثر من صعيد، في العاصمة دمشق المستنقعة بفعل الطوق الأمني في فضائها العام، والتي أُرهقت، على مدار عقدين من الزمن، بالعديد من حملات الاعتقال التي طالت نشطاء العمل السياسي والفكري حينذاك، ورواد الأسبوع الذين فاقوا كل التوقعات، ومن كل الشرائح الاجتماعية المتعطشة للحرية الفكرية.
طلاب ومثقفون وسياسيون أفرج عنهم النظام منذ بداية التسعينيات، والذين وجدوا في طروحات صادق العظم وكتبه المتنفس والنافذة المشرعة لفضاء جديد من الحرية طالما حلموا به، بعد حرمان مديد. ليجدوا في تلك الأسابيع نبضاً جديداً لم يستطع النظام تحمله لأكثر من خمس سنوات، ليعفي إثرها حامد خليل وصادق جلال العظم من عمليهما في الجامعة، ويكون ذلك بمثابة الرصاصة القاتلة للأسبوع الثقافي، ولكن ليس دون بذرة ستنمو في ربيع دمشق بعد عدة أعوام، والتي وأدها نظام العهد الجديد في المهد، مستنداً لإرث عريق في القمع وإسكات الصوت الآخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...