يبدو سؤال الهوية في تونس محسوماً وواضحاً وبديهياً في بعديه الديني واللغوي، بالرغم من أن الهوية أشمل منهما وأوسع. ولكنه بقدر هذه البداهة التي تُجذّر أغلبية الشعب التونسي في الإسلام واللغة العربية، ما زال يثير الجدل من حين إلى آخر، وخصوصاً إذا أقدمت البلاد على تغيير ما، أو أعلنت، حتى ظاهرياً، انتقالها إلى "مرحلة جديدة" كما فعل الرئيس قيس سعيّد، في الـ25 من تموز/ يوليو 2021، لمّا جمّد مجلس نواب الشعب، ودخل في مرحلة انتقالية معلناً ضرورة كتابة دستور جديد يحل محل دستور 2014.
أسلوب الترضيات
وإذا كان دستور 1959 قد وجد حلاً "توفيقياً" بين النزعة التقليدية المحافظة ممثلةً في مؤسسة الزيتونة، والنزعة الحداثية العلمانية الساعية إلى فصل الدين عن الدولة، باقتراح صيغة ذكرت أن "تونس دولة حرة مستقلة الإسلام دينها والعربية لغتها..."، للخروج من مأزق الهوية، إلا أن هذا الفصل ظل عائقاً أمام تغيير كثير من القوانين التي حافظت على مرجعيتها الإسلامية، كما اشترط هذا الدستور أن يكون المرشح للرئاسة مسلماً وأن يؤدي قسماً مستنداً إلى الإسلام كمرجع.
وأثارت التيارات الإسلاموية في تونس هذه المسألة بعد الثورة مباشرةً، خلال كتابة الدستور الجديد، وطالبت قواعدها في مظاهرات عديدة بضرورة اعتماد الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع في الدستور، ولقيت معارضةً شديدةً من المجتمع المدني وبعض الأحزاب المعارضة التي وقفت ضد هذا المقترح ورفضته رفضاً قاطعاً، فكان اللجوء إلى "التوفيق" و"الترضيات" مجدداً للتهدئة وإخماد الصدامات التي انتهت إلى إراقة الدماء بسقوط شهيدين هما شكري بلعيد ومحمد البراهمي، على أيدي إرهابيين إسلامويين. تكفي فقط المقارنة بين الفصل الأول الذي يؤكد أن تونس دينها الإسلام في الفصل السادس الذي يضمن حرية الضمير لنتبين أسلوب الترضيات والتوفيق بين الموقف العلماني المدني والموقف الديني المتشدد.
دستور الجمهورية الجديدة علماني؟
قبل أيام، أعلن العميد الصادق بلعيد، أن الدستور الذي سيقدّمه للرئيس قيس سعيّد بوصفه رئيساً للجنة الاستشارية لإعداد مقترح دستور جديد، لن يتضمن تنصيصاً على دين الدولة. وقال بلعيد في تصريح للتلفزيون الرسمي الأربعاء 8 حزيران/ يونيو: "ليست هناك دولة لها دين، هناك شعب له أديان". وأضاف أن "الدولة كيان معنوي وهياكل تقنية، لا روح لها ولا دين، والقول إن تونس دينها الإسلام لا معنى له".
وقد أشار الرئيس بدوره في مناسبة سابقة إلى أن الدولة ليس لها دين. فاشتعل الجدل مجدداً وتباينت المواقف بين من يرى ذلك استئصالاً للدين من الحياة، وبين من ينتصر لهذا الموقف عادّاً إياه قفزةً في اتجاه حداثة حقيقية، وبين من يراها مجرد مزايدة على التيارات الإسلاموية المحافظة من أجل أهداف سياسية.
قال الصادق بلعيد في تصريح للتلفزيون الرسمي "ليست هناك دولة لها دين، هناك شعب له أديان". وأضاف أن "الدولة كيان معنوي وهياكل تقنية، لا روح لها ولا دين، والقول إن تونس دينها الإسلام لا معنى له"
وفي حديث سابق لوكالة الأنباء الفرنسية، ذكر بلعيد، أن الغاية من عدم التنصيص على الإسلام في الفصل الأول من الدستور الجديد، محاولة التصدي للأحزاب السياسية التي تتخذ من الدين وسيلةً للعمل السياسي في إشارة إلى حزب حركة النهضة.
وتركّز النقاش خصوصاً على مسألة التوجه بتونس أكثر نحو أفق علماني، ما دام الفصل الأول سيكون خالياً من التنصيص على الإسلام ديناً للدولة وفق تقدير البعض. غير أن الباحث التونسي الأستاذ نادر الحمامي، يقلل من هذه الفرضية، إذ يقول لرصيف22: "ما أن صرّح السيّد العميد صادق بلعيد، المكلّف برئاسة اللجنة الاستشاريّة لصياغة التصوّرات حول الدستور التونسي المقبل لوكالة أنباء فرنسيّة بتغيير الفصل الأوّل من الدستور الحالي الموروث عن دستور 1959 بصيغته الحرفيّة، في ما يتعلّق بعبارة "والإسلام دينها" حتّى فُتح النقاش الإعلامي على وجه الخصوص حول علاقة الدين بالدولة. وحسب متابعتي رأيت أنّ النقاشات تتحدّث عن العلمانيّة مثلاً، أو أصول وضع "دين الدولة" في الدستور... إلى غير ذلك. ولكن في تقديري فإنّ أغلب النقاشات لم تأخذ في عين الاعتبار مسائل أساسيّةً أهمّها موقف رئيس الجمهوريّة من هذه المسألة منذ سنوات وقبل أن يتولّى الرئاسة، وكذلك موقف العميد الصادق بلعيد، ثمّ تحديداً مفهوم العلمانيّة نفسه وتبعات نزع صفة "الإسلام" عن "الدولة" في المستوى الإجرائي والقانوني والاجتماعي".
الشعب التونسي مسلم أم إسلامي؟
واستدل الأستاذ الحمامي، على ذلك بالعودة إلى تصريحات ومحاضرات سابقة للرئيس التونسي كانت قد راجت إعلامياً في حملته الانتخابية. يقول: "في رأيي الأمر محسوم تماماً بالنسبة إلى رئيس الجمهوريّة. وقد ذكره بوضوح تامّ في درسه الافتتاحي في أيلول/ سبتمبر 2018، في كلّية العلوم القانونيّة والسياسيّة والاجتماعيّة في تونس، والذي انطلق فيه من مدخل لغويّ نحويّ حول مسألة الضمير في التركيب الإضافي ‘دينها’، الذي لا يعود على الدولة بل على ما سمّاه وقتها ‘الأمّة’، وهو أمر يتوافق مع محاضر جلسات المجلس القومي التأسيسي الذي أصدر دستور 59، والأمّة عنده هي ‘الشعب التونسي’، فالدولة في هذا المنظور ليست دينيّةً ولا يمكن أن يكون لها دين".
"لا تتعلّق رؤية سعيّد لعلاقة الدين بالدولة بفكر علمانيّ، بل بكون أنّ الشعب التونسي مسلم، لا إسلامي، وهو تمييز عبّر عنه أيضاً في حديثه مع إمام جامع الزيتونة"
ويذكّر الحمامي بمناسبة ثانية يبني عليها موقفه من الجدل الدائر حالياً حول حذف الإسلام من الفصل الأول، وهو خطاب شهير ألقاه بمناسبة عيد المرأة في 13 آب/ أغسطس 2020، معلقاً على مسألة المساواة بين المرأة والرجل في الميراث والتخلي عن قاعدة "للذكر مثل حظ الأنثيين" التي يرفضها سعيّد بدعوى أنها محسومة في النص القرآني الذي لا يقبل التأويل، ثم إنها تدخل في خصوصيات المرأة والرجل في بيتهما الذي لا يمكن أن تطاله القوانين والدساتير على حد تعبيره. يقول الحمامي: "كما أنّه معنى كرّره رئيس الجمهورية في مناسبة أخرى هي عيد المرأة التونسيّة سنة 2020، إذ ذكر ذلك صراحةً في خطابه في المناسبة، ليستدرك في الخطاب نفسه ويقول: "ولكن للبيوت حرمات تأباها الدساتير والقوانين"، وإنّ الرجل والمرأة في بيتهما هما زوجان و"ليسا مواطنين"، فلا أحد، حسب عبارة الرئيس، يدخل بيته فيقول "السلام عليكم أيّها المواطنون".
ويضيف الأستاذ الحمامي أن الأمر "لا يتعلّق بالنسبة إليه بفكر علمانيّ، بل بكون أنّ الشعب التونسي مسلم، لا إسلامي، وهو تمييز عبّر عنه أيضاً في حديثه مع إمام جامع الزيتونة، ولكنّه لا يصل إلى القطع مع التصوّر المحافظ في مستوى العلاقات الاجتماعية، والقيم وغيرها، فنبقى في دائرة الصراع بين الإسلام السياسي الذي يرى أن ‘الإسلام دين ودنيا/ دولة’، والتوجّه المحافظ الذي يرى أنّ الدين لا يمثّل مشكلةً لأنّ ‘الشعب مسلم’".
الإسلام دينها... ما مرجع ضمير الغائب؟
يثير ضمير الغائب الوارد في صيغة الفصل الأول من دستور 1959، الذي حافظ عليه دستور 2014، المذكور أعلاه، إشكالية مرجع ضمير الغائب المفرد المؤنث المسبوق بعبارتين يمكن أن تكون إحداهما مرجعه وهما: "تونس" و"دولة"، وهي إشكالية في التأويل تقفز ثلاثةً وستين عاماً لتعود مجدداً إلى الواجهة.
أما بالنسبة إلى سعيّد، فتبدو المسألة محسومةً في ذهنه وواضحةً، إذ سبق أن قال خلال تسليم جائزة في مسابقة في حفظ القرآن من خلال فيديو منشور على الصفحة الرسمية للرئاسة التونسية: "الإسلام هو دين الأمة وليس دين الدولة، ونحن لا نصلي أو نصوم بناءً على الفصل الأول من الدستور، وإنما بأمر من الله". وأضاف سعيّد، أنّ "الدولة ذاتٌ معنوية مثل الشركات، فما معنى أن يكون لها دين؟"، مشيراً إلى أنّ "العلاقة مع الله وليست مع من يدّعي أنه الجهة الوحيدة المخوّلة لعبادة الله"، في إشارة إلى معارضيه من الإسلامويين.
إذاً، يبدو الفصل واضحاً في ذهن سعيّد، بين الدولة والأمة، كما يؤكد ذلك الأستاذ الحمامي: "وبناءً على ذلك فإنّني أقدّر أنّ التحوير الذي قد يطرأ على الفصل الأوّل من الدستور سيوضّح فقط مسألة الضمير وعلى من يعود فيصبح غير قابل للتأويل ويتّخذ صيغةً من قبيل ‘وشعبها مسلم’. ومثل هذه الصيغة لا تعطي سلاحاً للإسلام السياسي يرمي به الرئيس بتخلّيه عن الإسلام، ولكن في الآن نفسه لا يغيّر الكثير من الأشياء الجوهريّة في المستوى الدستوري من قبيل شرط الإسلام للترشّح إلى الرئاسة، ولا كذلك في مستوى علاقة الدولة بالشأن الديني، بل يمكن أن يجرّ الأمر إلى ضبط فصل دستوري بالقانون، ولن يغيّر شيئاً أيضاً في مستوى ما يُعدّ من الثوابت الدينية اجتماعيّاً كقضايا المساواة في الإرث وأحكام الأحوال الشخصيّة والحريّات الفرديّة".
التيارات الإسلاموية وتوظيف الدين
تعلن التيارات الإسلاموية، صراحةً أو ضمنياً، في أنشطتها السياسية والاجتماعية وفي بعض تصريحاتها، أنها تنطلق من خلفية إسلامية، وترفع لواء الدين وتذبّ عنه الأعداء والمناوئين للإسلام وكثيراً ما ترميهم بالكفر والإلحاد (يمكن العودة إلى كتاب مهم في مسألة التكفير للكاتب التونسي شكري المبخوت "تاريخ التكفير في تونس" بأجزائه الثلاثة)، لذلك فإن محاربة هذا التيار في فهم الدين وعدّ الإسلام "دِيناً ودُنيا"، هي مسألة قديمة ينضوي تحتها الأستاذ الصادق بلعيد نفسه، رئيس اللجنة الاستشارية التي كلّفها سعيّد، بالإعداد لمشروع دستور جديد للجمهورية الجديدة، غير أن مقاومة التيارات الإسلاموية لا تعني بالضرورة توجهاً علمانياً عند بلعيد. هذا تماماً ما يؤكده الحمامي، ليدعم موقفه من الجدل الحاصل بخصوص حقيقة التوجه العلماني للدستور المنتظر.
"إنّ ما صرّح به العميد الصادق بلعيد، لا يتعلّق مطلقاً بحذف ‘الإسلام’ من الدستور بل بعبارة ‘والإسلام دينها’، لما يحتمله من تأويل"
يقول: "إنّ ما صرّح به العميد الصادق بلعيد، لا يتعلّق مطلقاً بحذف ‘الإسلام’ من الدستور الأوّل بل بعبارة ‘والإسلام دينها’، لما يحتمله من تأويل، ذلك أنّ ‘الإسلام دين الدولة’، وهو أمر ينسجم تماماً مع ما أشرنا إليه من تمثّل رئيس الجمهوريّة للقضيّة، وكذلك لنظرته هو نفسه، إذ إن من قرأ مثلاً كتاب السيّد العميد ‘القرآن والتشريع’، وهو قديم بعدُ بشكل جيّد، سيتأكّد من ذلك، ومن يعرف تمييزه بين ما يسمّيه ‘الشريعة القرآنية’ و’الشريعة الإسلاميّة’، وهو تمييز متداول جدّاً في مدرسة كاملة توصف بـ’القرآنيّة’، ومن أعلامها محمّد الطالبي، سيفهم بشكل مباشر أنّ الأمر ليس قطعاً جذريّاً مع المسألة الدينيّة في الدستور، بل هو قطع مع تصوّرات الإسلام السياسي من دون الوصول إلى تغيير العلاقات المألوفة اجتماعيّاً في مجتمع تقليديّ من دون الوصول إلى المحافظة".
وينتهي الحمامي إلى التقليل من شأن الجدل الدائر حالياً، قائلاً: "كلّ هذا يجعلني لا أتصوّر مطلقاً أنّنا نسير بهذه التصوّرات إلى علمانيّة أو غيرها، فالعلمانيّة ليست قضيّةً شكليّةً، أو عدم تضمين الدين في الدساتير، فهي منهج في التفكير تبنى عليها القوانين والعلاقات الاجتماعيّة والحقوق الفرديّة، وهو ما لن يحصل في المدى المنظور. ثمّ إنّ العلمانيّة لا تتعلّق بفصل الديني عن السياسي فحسب، وإنّما أيضاً بفصل كلّ المجالات عن الدين وجعل المجال الديني مثل بقيّة المجالات الأخرى".
المسألة الدينية و"قميص عثمان"
إذاً، ما زال الدين "قميص عثمان" الذي يعلن كل طرف الدفاع عنه وتوظيفه في حملته الانتخابية بشكل صريح ومباشر أو ضمني خفي، تُتَبادل حوله التهم إما بمعاداته أو بالمتاجرة به، فالرئيس الذي يتهم خصومه بأنهم يتاجرون بالدين ليس بريئاً من هذه التهمة، فقد استغل خلال فترة حكمة الكثير من المناسبات الدينية للترويج لصورته، بل إنه ظهر أكثر من مرة في مساجد متعددة يؤدي صلاة الجمعة أو إحدى الصلوات الخمس، ويحرص على توثيق ذلك بالصور أو بالفيديو وينشر ذلك على صفحة رئاسة الجمهورية، وإذا كان يتهم خصومه بأنهم "تكفيريون"، فإنه أيضاً ليس بريئاً من هذه التهمة، إذ يصرح في أكثر من مرة بأنهم "بلا دين". وتالياً فإن المسألة العلمانية في تونس ليست نابعةً من إرادة في علمنة الدولة والحياة السياسية، بل من رغبة في المزايدة وتحقيق النقاط على حساب الخصوم، لأن التوجه العلماني يحتاج أولاً إلى أرضية فكرية يتربى عليها المجتمع ومؤسساته ومناهجه التعليمية من رياض الأطفال إلى الجامعات، لا مجرد شعارات تعتمد المغالطة والتلفيق كما حصل منذ لحظة الاستقلال إلى اليوم، ويبدو أن هذا اليوم الذي ينتظره المجادلون الآن يحتاج إلى حسم من طرف إرادة قوية للخروج من دائرة التوفيق والتلفيق الذي دام أكثر من سبعين عاماً والعدّاد لم يتوقف بعد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...