شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"فيه الخصم والحكم"... قطاع العدالة التونسي يضرب بعد عزل سعيّد لقضاة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأحد 5 يونيو 202206:28 م

في تحدّ للمؤسسة القضائية واستقلاليتها أقدم الرئيس التونسي قيس سعيد بعزل 57 قاضياً وقاضية بتهم مختلفة سردها في اجتماع وزاري في الأول من حزيران/يونيو. ذكر الرئيس أن القائمة تشمل قضاة ارتكبوا جرائم التزوير والارتشاء والفساد ومخالفة الإجراءات القانونية والإثراء غير المشروع. وأكّد أنه اتخذ هذه الخطوة بعد أن فشل المجلس الأعلى المؤقت للقضاء في إعفائهم.  لكن القضاة التونسيين أعلنوا غضبهم من قرارات سعيّد التي تمسّ بحسبهم باستقلالية السلطة القضائية وقرروا خوض إضراب لأسبوع للتعبير عن رفضهم للمس باستقلالية العدالة التونسية.

بداية معركة الرئيس مع القضاء

كان الرئيس قد أعلن أكثر من مرة أن الفساد ينخر القضاء وأن على النيابة العمومية أن تتحرك وفي أكثر من اجتماع برئيس المجلس الأعلى للقضاء طالب بضرورة التسريع في إجراءات محاسبة عدد من القضاة الذين يقول إنهم متورطون في جرائم عديدة.

لكن يبدو أن المجلس الأعلى للقضاء تمسّك بضرورة التقيّد بالإجراءات القانونية ليضمن حقوق المتهمين وحقهم في الدفاع عن أنفسهم وتمكينهم من المرور بكل درجات التقاضي حتى يصدر في شأنهم حكم نهائي. فاعتبر الرئيس هذه الخطوة خروجاً عن طاعته أو تواطؤاً مع الفساد، ففي 13 شباط/فبراير 2022، نشر مرسوم يقضي بحل المجلس الأعلى للقضاء واستبداله بمجلس جديد يدعى "المجلس الأعلى المؤقت للقضاء"، قام بنفسه بتشكيله دون أن يؤدي المجلس الجديد القرارات التي ينتظرها منه الرئيس، فأقدم على تنقيح المرسوم المحُدثِ للمجلس المؤقت وقام في 1 حزيران/يونيو الجاري بالمصادقة على تعديله وأضيفت إلى فصله العشرين الأحكام التالية: "لرئيس الجمهورية، في صورة التأكد أو المساس بالأمن العام أو بالمصلحة العليا للبلاد، وبناء على تقرير معلّل من الجهات المخولة، إصدار أمر رئاسي يقضي بإعفاء كل قاض تعلّق به ما من شأنه أن يمس من سمعة القضاء أو استقلاليته أو حسن سيره". وبذلك أحكم سعيّد قبضته نهائياً على السلطة القضائية وصارت سلطته عليها مطلقة، فأصدر مباشرة قائمة المعزولين الـ57.

ضمّت القائمة قضاة أثيرت ضدهم شبهات فساد جادّة وتعلّقت بهم قضايا متعددة مازال النظر فيها جارياً في المحاكم، غير أن اتهامات وجهت إلى الرئيس مباشرة تؤكّد أن أكثر من نصف القائمة تضمنت أسماء قضاة رفضوا الانصياع لرغبات الرئيس، ودافعوا عن استقلال القضاء وتمسكوا بحرية قرارهم، كما اتهموه أيضاً بتصفية الحسابات السياسية والظلم وتمريغ وجه مبدأ الفصل بين السلطات، بعد أن بات ممسكاً بالسلطة التنفيذية علاوة على السلطتين التشريعية والقضائية.

"قاض فاسد في مهمة بمجلس أوروبا!؟"

للاقتراب أكثر من المسألة التقى رصيف22 بالقاضي منجي بولعراس، وهو أحد المشمولين بقائمة العزل، رغم تأكيده أنّه لم تتعلق به أي شبهة ممّا ذكره الرئيس، ولا يعلم حتى سبب عزله. يقول: "بلغني الخبر من زميل أخبرني بأنّ الرّئيس قد عزل بعض القضاة وأنّ اسمي من ضمنهم وأنا في طريقي إلى العمل. فأنكرت ذلك، فليس هناك سبب واحد لعزلي، فليست لدي قضايا إرهاب لعدم الاختصاص، ومازلت إلى حد اللحظة دون أيّ فكرة عن سبب إعفائي. لم أستوعب الموقف إلى حد الآن. أنا الذي يعرف كلُّ زملائي ويشهدون بتضحياتي وبمسيرتي في العمل من أجل تحديث المنظومة القضائية على مدى سنوات".

أحكم سعيّد قبضته نهائياً على السلطة القضائية وصارت سلطته عليها مطلقة، فأصدر مباشرة قائمة المعزولين الـ57

يؤكد بولعراس أنه خلال 26 عاماً من العمل في القضاء انتقل أثناءها بين رتب مختلفة إلى أن صار وكيل جمهورية، لم تتعلق به أي تهمة أو حتى شبهة أو شكاية، وتنحصر حياته بين البيت والعمل، غير أن "الأغرب من هذا – يقول - أنني عُيّنتُ في مهمة لتمثيل تونس في الجلسة العامة للجرائم السيبرانية في بوخارست برومانيا من 15 إلى 18 حزيران/يونيو الجاري. استخرجوا جواز سفري الرسمي كمكلّف بمهمة، وملفّي الآن مودع لدى السّفارة لاستخراج تأشيرة السفر، وأنا مكلف أيضاً بالتواصل مع مجلس أوروبا للإعداد لمصادقة تونس على اتفاقية بودابست المتعلقة بالجرائم السيبرانية، وعضو فريق الخبراء المكلفين بإعداد مشروع الجرائم السيبرانية وتدريسها، وأنا رئيس اللجنة الفنية لتحديث المنظومة القضائية، فهناك منظومة جديدة نحن بصدد الاشتغال عليها الآن، فيها لجنة قيادة تترأسها وزيرة العدل ولجنة فنيّة أنا رئيسها، والوزيرة الحالية هي التي عينتني في شباط/فبراير الماضي في هذه المهمة. فهل يقع تعيين قاض فاسد كما يدّعون لتمثيل تونس في أوروبا؟!".

عزل دون حكم ودون أي حق

بالعودة إلى طريقة عزل القاضي حسب المعايير الدستورية والقانونية وحتى المعايير الدولية فإن العزل يمثل آخر مرحلة في الأفعال الخطيرة التي تستوجب ذلك العقاب بعد المرور بالمراحل الضرورية للتتبع التأديبي وضمان حقوق القاضي في الدفاع عن نفسه. وإن كانت هناك خطورة واضحة تمس من هيبة القضاء يتم إيقافه عن العمل إلى انتهاء مراحل التتبع. فعندما يُضبط مثلاً في حالة تلبس بارتكاب جريمة تمس بشرف المهنة، يحال أمره إلى وزير العدل الذي يفتح بحثاً في "تفقدية الوزارة"، ويحيله بدوره إلى المجلس الأعلى للقضاء الذي يجتمع في جلسة خاصة لرفع الحصانة عن القاضي للتمكن من متابعته قضائياً، وإن كانت الأفعال تستوجب قراراً تأديبياً فقط كأن تقدم ضدّه شكاوى من أجل إخلاله بواجباته المهنية يتم البحث بناءً عليها في تفقدية وزارة العدل ثم يحال على مجلس التأديب الذي يقرر العقوبة المناسبة ومنها العزل إذا كانت الأفعال المنسوبة إليه تستوجب تلك العقوبة، طبعاً مع توفير الضمانات الكاملة للدفاع عن نفسه.

أصدرت جمعية القضاة التونسيين بياناً  ندّدت فيه بالأمر الرئاسي القاضي بإعفاء القضاة الـ57، معتبرة ذلك "مذبحة قضائية" ذريعتها محاربة الفساد، ودعت إلى إضراب لأسبوع قابل للتمديد


هل يقع تعيين قاض فاسد كما يدّعون لتمثيل تونس في أوروبا؟!

أما ما حصل في عزل قائمة الـ57 فليس هناك حكم قضائي صادر ضد القضاة المعنيين أصلاً، كما يقول بولعراس، "كما وقع تغييب المجلس الأعلى للقضاء المؤقت الذي عينه الرئيس بنفسه. كلُّ ما حصل هو ادعاء بوجود تقارير أمنية الله أعلم بفحواها، وأكثر ما ذكر من أسباب مثل الرشوة والزنى وغيرها يمكن أن تكون تهماً، وقد ذُكرت في تصريح الرئيس بعض المصطلحات التي لا تنضوي تحت مصطلح "جريمة"، مثل ما ذكر من "تعطيل للملفات" التي تستوجب عقاباً تأديبياً لا عقاباً جزائياً. وبالتالي فقرار العزل غير مدروس ولا مطابق للقانون، وهو مجرد كلام يصلح للترويج السياسي الشعبويّ لا أكثر".

إحكام القبضة على القضاء

ضمّت القائمة عناصر متورطة فعلاً في تهم جديّة عديدة مثل التستر على الإرهاب والارتشاء وغيرها، ولكن هناك أيضاً من يشهد لهم الجميع بنظافة اليد ومقاومة الضغوطات السياسية وتشبثهم باستقلال القضاء وحسن تطبيق القانون في فترة ما قبل الـ25 تموز/يوليو 2021، أي في عهد الثلاثي الحاكم: "حركة النهضة" و"قلب تونس" و"ائتلاف الكرامة"، لكنهم تفاجؤوا بأن قائمة العزل قد ضمتهم إلى المشبوهين وتم عزلهم من مناصبهم القضائية.

قرار العزل غير مدروس ولا مطابق للقانون، وهو مجرد كلام يصلح للترويج السياسي الشعبويّ لا أكثر

هذا ما يقر به القاضي بولعراس الذي يؤكد أن "في قائمة الـ57 هناك عناصر متورطة فعلاً، ولكن حضورهم في القائمة كان للزينة فقط، وهناك عناصر أخرى لتصفية الحسابات أو لغايات أخرى غير واضحة ولا مفهومة. ذلك أن السيد رئيس الجمهورية أعلن نفسه في 25 يوليو رئيساً للنيابة العمومية في ظل غياب الحكومة حينها، ولكن المجلس الأعلى للقضاء رفض ذلك، باعتبار أن من له صلاحية الإذن بإجراء التتبعات وتقديم الملحوظات الكتابية إلى النيابة العمومية هو وزير العدل بالنصّ القانوني (الفصل 23 من مجلة الإجراءات الجزائية). لذلك كانت الرغبة واضحة في وضع اليد على النيابة العمومية من حينها. وقد استمعنا إليه في كثير من خطاباته يطالب النيابة العمومية بالتحرك التلقائي دون تحديد الأشخاص المعنيين بالتتبع ولا الجرائم المنسوبة إليهم أو إحالة ملفاتهم، ولو نظرنا إلى قائمة القضاة المعزولين فسنجد كثيراً من ممثلي النيابة العمومية في القائمة الذين يصل عددهم إلى أكثر من النصف. أما الذين أثيرت حولهم شبهات جدية فإن المجلس الأعلى للقضاء لم يعزلهم لأن الأبحاث مازالت جارية في حقهم، رغم أن بعض القضاة منهم قد أوقفوا عن العمل، في انتظار صدور أحكام باتّة في شأنهم. فكيف يبنى قرار عزل البقية بناء على تقارير أمنية كما يزعم الرئيس؟ هذا غير معقول".

رغم أن بعض القضاة منهم قد أوقفوا عن العمل، في انتظار صدور أحكام باتّة في شأنهم. فكيف يبنى قرار عزل البقية بناء على تقارير أمنية كما يزعم الرئيس؟ هذا غير معقول

إذا كان الهدف المعلن من طرف رئيس الجمهورية هو "مقاومة الفساد" في قطاع القضاء و"تحقيق العدل" و"المساواة بين جميع المواطنين" و"استرجاع أموال الشعب التونسي" كما يردد في خطاباته دوماً وهو مطلب يؤيده كافة أفراد الشعب ومنهم القضاة، فإن ذلك لم يعد ممكناً بعد صدور قائمة الإعفاءات الأخيرة، في هذا التوقيت ذلك أن الاستحواذ كلياً على السلطة القضائية لا يمكن أن يخلوَ من غايات سياسية، فالرئيس يواجه تحدياً خطراً يقول مراقبون وخبراء في القانون إنه ملزم إذا فشل فيه بالاستقالة من منصبه للعودة إلى ما قبل الـ25 من يوليو تموز 2021، وهو تحدي الاستفتاء المزمع تنظيمه في الـ25 من يوليو تموز القادم. فهل يريد الرئيس تشكيلة جديدة من القضاة يضمنون له النجاح في هذه الاستحقاقات القادمة ويكونون طيّعين وقادرين على تجاوز القوانين في سبيل الإرضاء؟

التاريخ يعيد نفسه

بالعودة إلى التاريخ القريب يبدو أن هناك عوداً على بدء بشكل من الأشكال إذ تقول الصحافية منية العرفاوي، التي تشتغل على ملف الفساد منذ أكثر من 10 سنوات، إن "عزل القضاة بطريقة مثيرة للجدل، ومن طرف السلطة التنفيذية هي مسألة تتكرر للمرة الثانية في تاريخ المسار الديمقراطي. ونذكر جيداً كيف عزل وزير العدل في زمن الترويكا نور الدين البحيري 82 قاضياً بالشبهة ودون تحقق مما نسب إليهم من اتهامات، في إطار عملية تطهير سياسي لجهاز القضاء وقتها. وبعد سنوات أنصفت المحكمة الإدارية هؤلاء القضاة وأعادتهم إلى وظائفهم بعد الطعن في قرار الإعفاء. لكن اليوم قرار العزل الذي اتخذه رئيس الجمهورية قيس سعيد بأمر رئاسي يختلف من حيث الشكل ومن حيث التبعات أيضاً، إذ اعتبر سعيد أنه منح فرصة للقضاة لإطلاق عملية إصلاح داخلي، ولكنهم لم يفعلوا وبرر بذلك تدخله كسلطة تنفيذية في الجهاز القضائي ونسف استقلاليته وكل مقومات التعديل الذاتي داخله".

وخلافاً لما رست عليه التقاليد والأعراف القانونية ومبادئ حقوق الإنسان التي يتمتع فيها ذو الشبهة بقرينة البراءة، لم يعد "المتهم بريئاً حتى تثبت إدانته"، بل العكس هو الصحيح وفق إجراءات الرئيس الذي حرم المعزولين من القضاة من حقهم في الدفاع عن أنفسهم والمرور بالمسار الطبيعي للتقاضي بدرجاته الثلاث (ابتدائي واستئنافي وتعقيبي).تضيف العرفاوي لرصيف22: "من حيث التبعات فإن الرئيس جرّد هؤلاء القضاة المعزولين من حق الطعن في انتظار استكمال التحقيق في ما نسب إليهم من جرائم خطيرة ذكرها رئيس الجمهورية بشكل علني واستناداً إلى تقارير من التفقدية العامة لوزارة العدل. لعل الزاوية التي حشر فيها قيس سعيد الجميع وجعل حتى ردود الفعل تبدو محتشمة، ولم تكن عاصفة كما كان متوقعاً، هو وجود الكثير من الأسماء في قائمة القضاة المعزولين ممن حامت حولهم شبهات جدّية وخطيرة في علاقة بالفساد المالي والأخلاقي. ولكن هذا أيضاً لا ينفي وجود أسماء اتفق الأغلبية أن دوافع عزلهم سياسية. وذلك ما يشبه تغليف الحق ببعض الباطل لأن نوايا الرئيس المعلنة لإصلاح القضاء لا تعني عدم وجود رغبة خفية في السيطرة على هذا الجهاز الحساس الذي خاض طوال تاريخه معركة مع كل الأنظمة المتعاقبة من أجل استقلالية حقيقية، ولكن كل مرة يحول الاختراق السياسي دون هذا الإصلاح".

وردّاً على المرسوم الرئاسي أصدرت جمعية القضاة التونسيين بياناً الخميس 2 حزيران/يونيو ندّدت فيه بالأمر الرئاسي القاضي بإعفاء القضاة الـ57، معتبرة ذلك "مذبحة قضائية" ذريعتها محاربة الفساد، ودعت إلى مجلس وطني طارئ انعقد اليوم السبت 4 يونيو حزيران اتخذ خطوات تصعيدية منها إقرار الإضراب في جميع المحاكم العدلية والإدارية والمالية لمدة أسبوع قابلة للتجديد بداية من يوم الإثنين 6 حزيران/يونيو 2022، مستثنية من ذلك القضايا الإرهابية المتأكدة والأذون بالدفن. كما دعا المجلس إلى عدم ترشح القضاة إلى الخطط والوظائف القضائية الشاغرة، وتنفيذ اعتصام مفتوح بكل مقرات الهياكل القضائية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image