في أيار/ مايو من العام 2020، بدأ اللبنانيون يسمعون عبارات من قبيل "بيع أصول الدولة"، و"الصندوق السيادي"، بعد طرحها من قبل المستفيد الأكبر منها حكماً؛ جمعية المصارف التي تريد استرداد ديونها من الدولة، ولو على حساب دائنيها، أي المودعين، وإزاحة مسؤولية الانهيار الاقتصادي عن عاتقها.
في عملية بسيطة لفهم اللعبة المصرفية، اقترحت المصارف، بغير وجه حق أو قانون، إنشاء صندوق سيادي يضم أصول الدولة وممتلكاتها تعود عائداته إليها 100%، في الدرجة الأولى، لاسترجاع كافة الأموال التي سلّفتها للدولة، في عملية إفلاس ممنهجة للبنان وشعبه، فالأصول هي كافة المرافق العامة والخاصة والتراخيص والامتيازات التي تملكها الدولة-الشعب.
وبحسب دراسة بعنوان "خصخصة الأصول اللبنانية العامة-لا يوجد حل سحري للأزمة"، صادرة عن معهد عصام فارس عام 2021، فإن أصول الدولة تتوزع على أربعة قطاعات رئيسية هي:
- مشاريع مملوكة من الدولة، وتضم: شركة طيران الشرق الأوسط، وكازينو لبنان وشركة الريجي.
- المواصلات والبنى التحتية، ويضمان المطارات والمرافئ البحرية.
- العقارات، وتشمل الأراضي والمباني المشيّدة.
- المرافق العامة وتضم شركة أوجيرو، وشركتي الاتصالات الخلوية MIC1 وMIC2، ومؤسسة كهرباء لبنان ومؤسسات المياه.
وفي حال تمّ بيع هذه الأصول إلى صندوق استثماري، فيعني ذلك سحق قدرة هذه الدولة على استيراد الأساسيات التي تعتمد عليها من الخارج. كذلك، تظهر إشكاليات عدة ترافق فكرة الصندوق السيادي، أبرزها: من يضمن للمودعين أن المصارف التي "حبست" ودائعهم ستعيدها إليهم في حال استردّت ديونها؟ هل تكفي أصول الدولة كاملةً أساساً لسدّ العجز المتفاقم والذي تضاعف في السنوات الثلاث الأخيرة؟ من هي الجهة التي ستتولى إدارة الصندوق؟ وما مدى أمانتها أمام مواطنين فقدوا أدنى مقومات الثقة بدولتهم وساستها؟
في أيار/ مايو من العام 2020، بدأ اللبنانيون يسمعون عبارات من قبيل "بيع أصول الدولة"، و"الصندوق السيادي"، بعد طرحها من قبل المستفيد الأكبر منها حكماً؛ جمعية المصارف
أين بدأت؟
رأس الهرم في لبنان، رئيس الجمهورية ميشال عون، باشر في الثامن عشر من شهر تموز/ يوليو عام 2020، بالترويج لمبادرة رئاسية عملية لإطلاق "الصندوق السيادي لإدارة أصول الدولة، وتحسين إيراداتها وتفعيل الحوكَمة فيها ورفع قيمتها السوقية". يومها، لم يتم تحديد الأصول التي سيتضمنها الصندوق، لكن تم تعيين أعضاء اللجنة التي ستتولى دراسة المشروع وعلى رأسها النائب ميشال ضاهر والوزير السابق منصور بطيش.
وقد ظهر في العام الحالي 2022 في لبنان، وقبيل الانتخابات النيابية التي جرت في 15 أيار/ مايو الماضي، تمسّك التيار الوطني الحر بفكرة الصندوق السيادي، ومعه فرقة من الأحزاب التي وضعته ضمن برنامجها الانتخابي، كحزب الكتائب اللبنانية، وفي حين كان الصوت المعارض لهذا "الحل" الاقتصادي عام 2020، خافتاً، بات اليوم أعلى بدخول ثلّة من دعاة التغيير إلى المجلس النيابي، ممن وعدوا الناس بالقتال لأجل حقوقهم.
اليوم، وبعد مرور سنتين على طرح الصندوق السيادي، وفي ظل الحديث عنه بوتيرة مضاعفة كأن بيع أصول الدولة هو الحل السحري الذي سينتشل البلد من خرابه بالنسبة إلى من يتبنونه، ربما لا يزال الكثير من اللبنانيين غير مدركين لمعنى هذا الأمر وتبعاته عليهم.
خطة للمصارف
يشرح الصحافي المتخصص في الشأن الاقتصادي، جاد غصن، لرصيف22، الخطة المتداولة بين الطاقم السياسي الحاكم في لبنان، ويقول: "الصندوق السيادي الذي يتكلمون عنه يطرح ضم كافة المؤسسات العامة والخاصة التابعة للدولة في صندوق واحد والتصرف بالعائدات، أي منحها للمصارف لتسد الدولة ديونها لها، ومن ثم سد المصارف ديون المودعين وفق قولهم".
بمعنى أوضح، "اشترطت المصارف على الدولة ردّ ديونها لها، كي تعيد للمودعين أموالهم، علماً أن المودع علاقته التعاقدية مع المصرف، وليست مع الدولة على الإطلاق، كما أن تحميل الناس نتيجة الاستثمار الخطأ للمصارف، بين مصرف لبنان والدولة وتكبدهم كل هذه الخسائر، ليس منصفاً"، ويضيف غصن: "المصارف خسرت أموالها وترفض الاعتراف بالإفلاس والعمل على هذا الأساس".
أملاك الدولة تعود للدولة، وتالياً للشعب اللبناني. من هنا يطرح المحلل الاقتصادي سامي نادر، معضلة أنه "لا يجوز بيع أصول الدولة لإنقاذ المودعين كما يدّعون، فهذه الأصول حق وملك لكل اللبنانيين وليس للمودعين فحسب".
تشترط المصارف على الدولة ردّ ديونها لها، كي تعيد للمودعين أموالهم، علماً أن المودع علاقته التعاقدية مع المصرف، وليست مع الدولة على الإطلاق، كما أن تحميل الناس نتيجة الاستثمار الخطأ للمصارف، بين مصرف لبنان والدولة وتكبدهم كل هذه الخسائر، ليس منصفاً
ويطرح "الشراكة بين القطاعين العام والخاص من خلال تأجير بعض أصول الدولة وتسليم إدارتها للقطاع الخاص بعد أن أظهرت فشلها الإداري، وتالياً تفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص بهدف إعادة جدولة الدين واسترداد الودائع. أما التوزيع العادل للخسائر المصرفية، فيكون من خلال تحميل الأغنياء من المودعين، الذين استفادوا لسنوات من هندسات مصرف لبنان المالية وضاعفوا فوائدهم، الجزء الأكبر مع تحييد صغار المودعين".
ثمن المغامرات
يواجه اللبناني اليوم خطراً مضاعفاً لجهة خسارة ودائعه وجنى عمره نهائياً، في ظل اشتراط المصارف على الدولة دفع ديونها أولاً، وخطراً آخر يتمثل في فقدان كل الممتلكات العامة في حال خاطرت السلطة وصدّقت على بيع الأصول، هذه السلطة التي كانت قد مدّدت لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ولسياسته المالية، باستثناء أصوات ووجوه تغييرية تعوّل فئة من الناس على بعضها، ومن بين هؤلاء النائب إبراهيم منيمنة.
يقول منيمنة لرصيف22: "أنا ضد بيع أصول الدولة والصندوق السيادي. على المصارف وأصحابها أن يتحملوا مسؤولية مغامراتهم السابقة، ثم يجب رفع السرية المصرفية لكشف من استفادوا من الهندسات المالية"، مشيراً إلى أن "محاولة ربط أموال المودعين بالدولة وديونها هي مقاربة تخدم فئةً معيّنةً وليس الشعب".
يذهب منيمنة إلى التلويح بالعودة إلى الشارع، الذي أوصله إلى مجلس النواب، ويقول: "في حال الانقضاض على ودائع الناس، الكلمة للناس". وعن الحلول الممكنة في وجه مشروع بيع أصول الدولة، يقول: "سندفع باتجاه مصالح الناس من خلال تقديم مشاريع قوانين لمراعاة حقوقهم ونعمل على خطة التعافي الاقتصادي. كل كتلة نيابية مسؤولة أمام الشعب عمّا ستصوت وتختار".
حجة المؤيدين
من جهته، يروي النائب بلال عبد الله، لرصيف22، موقف اللقاء الديمقراطي الذي يرأسه النائب تيمور جنبلاط، نجل الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، من بيع أصول الدولة، ويقول: "نحن مع الصندوق السيادي ضمن خطة التعافي الاقتصادي الشاملة التي تضم السياسة الضريبية والكهرباء وغيرهما، لكننا معه للتأجير أو الاستثمار، وضد بيع أصول الدولة على الإطلاق".
يقول بعض نواب التغيير إنه في حال الانقضاض على ودائع الناس، الكلمة للناس، ويعدون بالعمل من أجل تقديم مشاريع قوانين لمراعاة حقوقهم والعمل أيضاً على خطة التعافي الاقتصادي
ويرى عبد الله وحزبه (التقدمي الاشتراكي)، في الصندوق السيادي "فرصةً لاستثمار مؤسسات الدولة ضمن صندوق واحد والتصرف بعائدات هذا الصندوق لرد ودائع الناس ودعم الاقتصاد الوطني. حتى الآن الصندوق السيادي هو الحل الوحيد إلا إذا ظهر حل من إحدى الدول المانحة أو من صندوق النقد الدولي".
عضو تكتل لبنان القوي (التيار الوطني الحر)، أسعد درغام، سمّى الصندوق السيادي "بالصندوق الائتماني"، في آخر تصريح صحافي له في الخامس من حزيران/ يونيو 2022، معلناً عن تأييده وانتظار طرحه من قبل الحكومة.
وكان الصندوق السيادي من ضمن أهم ثلاثة محاور طرحها رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، عند إعلانه عن اللوائح الانتخابية في نيسان/ أبريل الماضي، إذ فنّده في النقطة الثانية من حديثه؛ "تحرير لبنان مالياً واقتصادياً وتحرير ودائع اللبنانيين: خطّة تعافي مالي وصندوق سيادي لإدارة أصول الدولة. وقدّمنا اقتراحات قوانين ماليّة عدة".
كذلك الأمر بالنسبة إلى الكتائب اللبنانية التي رفعت لواء الصندوق السيادي في حملتها الانتخابية، فيما تؤيد القوات اللبنانية إدارة أصول الدولة من خلال مؤسسةٍ مستقلة، أو أكثر، لتعزيز الإنتاجية والقيمة وإشراك القطاع الخاص عبر الاستثمار فيها واستخدام هذه الاستثمارات في مقاربة التعافي.
بحسب القانون اللبناني رقم 42 الصادر عام 1986، "بصورة استثنائية وخلافاً لأي نص، يُمنع منعاً مطلقاً التصرّف بالموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان أو لحسابه، إلّا بنص تشريعي يصدر عن مجلس النواب"
احتياطي الذهب
جزء أساسي من أصول الدولة هو احتياطي الذهب الذي يخزَّن بعضه في مصرف لبنان، وغالبيته في الولايات المتحدة الأمريكية. وبالرغم من أن لبنان يصنَّف في المرتبة 20 عالمياً، والمرتبة الثانية عربياً بعد السعودية، بامتلاكه احتياطي ذهب، إلا أنه فعلياً يتحكم بقرابة 17 ملياراً من الذهب فحسب، موجودة في مصرف لبنان.
وبحسب القانون اللبناني رقم 42 الصادر عام 1986، "بصورة استثنائية وخلافاً لأي نص، يُمنع منعاً مطلقاً التصرّف بالموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان أو لحسابه، مهما كانت طبيعة هذا التصرف وماهيته، سواء أكان بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إلّا بنص تشريعي يصدر عن مجلس النواب".
يفصّل غصن بالأرقام عملية بيع أصول الدولة إن تمّت: "17 ملياراً من احتياطي الذهب، زائد 17 ملياراً مجموع أصول الدولة وفق دراسة أجراها معهد عصام فارس، بالإضافة إلى عشرة مليارات دولار تحدث عنها حاكم مصرف لبنان، يصبح المجموع 44 مليار دولار مقابل نحو 105 مليارات دولار دين للمصارف في ذمّة الدولة. هم يحاولون سداد جزء من دين المصارف مقابل إفلاس الدولة من كل ما تملك، ومن قدرتها على شراء الفيول والدواء والأساسيات كافة".
يحتاج بت أي قرار في استخدام بعض أصول الدولة، بيعاً أو تأجيراً، إلى موافقة مجلس النواب الذي عقد جلسته الأولى لانتخاب رئيسه ونائبه وأمناء السر، وجاؤوا وفق التشكيلة التالية: نبيه بري رئيساً للمرة السابعة، الياس أبو صعب نائباً للرئيس، وآلان عون وهادي أبو الحسن أمينَي السر، على أن تكون الجلسات المقبلة للبدء بمناقشة مشاريع القوانين ومحاولات انتشال البلاد من بعض الأزمات.
في الجلسات النيابية هذه، سيكرَّم كل نائب أو يهان أمام من انتخبوه بمقدار ميله إلى حقوقهم، لا إلى ما تريده المصارف. ومن اليوم حتى أقل من سنة، سيتحول الانهيار الاقتصادي الذي يعيشه لبنان إلى ارتطام كبير بسبب نفاد احتياطي الدولار المستخدم لتأمين الحاجات الأساسية، وفق تعبير سامي نادر، ما يستوجب عجلةً نيابيةً وحكوميةً سريعةً لإنقاذ ما تبقّى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...