على بعد كيلومترات قليلة من قرية البرشا التي يسكنها المعلم يعقوب، أطلال مدينة تل العمارنة، عاصمة التوحيد المصرية التي بناها أمنجتب الرابع "إخناتون" لمارس عبادته بعيداً عن نفوذ كهنة آمون في طيبة (الأقصر) التي حكم منها أبوه. وفي تل العمارنة بقايا كراسي مرحاض قديمة، صنعها المصريون من حجر الكلس Limestone داخل حجرة جدرانها مغطاة بصفائح من البرونز، وبها حفرة صرف ذات غطاء معدني مربوط بسلسلة. تلك الحجرة سجلت كواحد من أقدم المراحيض في التاريخ، دلالة على أن المصريين كانوا من أقدم الشعوب التي صممت نظاماً للصرف الصحي.
المشروع الذي أطلقته الحكومة من شأنه إنهاء عصر "البيارات" أو "الطرنشات" كما يطلق عليها المصريون، بعدما ظل يثبت كفاءته آلاف السنين، بيد أنه خلف الكثير من الآثار السلبية، أخطرها تلوث المياه الجوفية بمخلفات الصرف الصحي في أغلب القرى
النظام القديم الموروث لا يزال قائماً في كثير من القرى المصرية التي لم تصلح بعد خدمات الصرف الصحي العامة التي تنشئها وتديرها الدولة، ولا تزال "بيارات الصرف الصحي" التي تتلقى الصرف من ابيوت عبر ماسير صرف نحاسية قائمة، وإن لاح في الأفق ما ينبئ عن نهاية قديمة لذلك النظام ومعه المهن المرتبطة به، ومنها مهنة المعلم يعقوب.
حرفة المعلم يعقوب
في يوليو/ تموز من العام 2021، أعلن رسمياً عن إطلاق مبادرة حياة كريمة، بعد شهور طويلة من بدء العمل الفعلي في عدد من القرى في صعيد ودلتا مصر. تقدم المبادرة خدمات عامة للقرى المحرومة والقرى الاكثر فقراً، ومن الخدمات المقدمة، ضم تلك القرى إلى الشبكة القومية للصرف الصحي، خاصة في إطار خطة الدولة لاستخدام مياه الصرف الصحي المعالجة في الزراعة.
المشروع الذي أطلقته الحكومة من شأنه إنهاء عصر "البيارات" أو "الطرنشات" كما يطلق عليها المصريون، بعدما ظل يثبت كفاءته آلاف السنين، بيد أنه خلف الكثير من الآثار السلبية، أخطرها تلوث المياه الجوفية بمخلفات الصرف الصحي في أغلب القرى.
أجيال عديدة عملت فيها أسرة يعقوب في هذه المهنة. يعتقد يعقوب أن عائلته توارثت هذه المهنة منذ تعلمها جده الأكبر في مصر القديمة، وربما يكون هذا الجد هو أحد من بنوا نظام الصرف الصحي لعاصمة الملك إخناتون
لا يعرف يعقوب فايز عدد البيارات التي حفرها هو وأشقاؤه طوال عمره الذي تخطى الأربعين. فعائلته هي الوحيدة التي لا تزال تمتهن حفر البيارات والرشاحات في قرية البرشا بمحافظة المنيا، بصعيد مصر. أجيال عديدة عملت فيها أسرة يعقوب في هذه المهنة. يعتقد يعقوب أن عائلته توارثت هذه المهنة منذ تعلمها جده الأكبر في مصر القديمة، وربما يكون هذا الجد هو أحد من بنوا نظام الصرف الصحي لعاصمة الملك إخناتون.
في كل صباح يحمل معوله وفأسه وأدواته هو وباقي أفراد العائلة، وينطلقون لحفر البيارات العملاقة في كل قرى ونجوع مركز "ملَّوي" العديدة، كل بيت دخله له حكاية معه. تناول غداءه في مئات البيوت أثناء عمله فيها. يفكر يعقوب في عدد بيارات الصرف التي حفرها ثم يستسلم معلناُ أنها "كتير قوي" ويصعب عليه إحصاؤها. الآن بات عليه أن يبحث عن حرفة جديدة بعدما بدأت القرى تنضم واحدة بعد الأخرى إلى شبكة الصرف الصحي التي تنشئها الدولة، معلنة بداية عصر جديد.
يقول يعقوب لرصيف22: "رغم نهاية زمن مهنة أجدادي، أنا سعيد بدخول الصرف الصحي للقرية، لأنه أحسن من البيارات والرشاحات مهما كان حجمها. لن تكون هناك مشكلة كبيرة في العمل، فسننتقل للعمل في أعمال الحفر للمباني والأساسات وغيرها، وربما تكون هذه البيارة التي أعمل بها هي الأخيرة في القرية".
بيارة أخيرة
من داخل حفرة على عمق ثلاثة أمتار، وقطرها متران، خارج منزل مبنيّ حديثاً، يدوس يعقوب التربة بقدمه بقوة، ويقول بصوت عالٍ "قربنا يا رجالة، خلاص الميه طِلعِت". لا بد من ظهور المياه الجوفية حتى يتوقف الرجال عن الحفر، وفور ظهور المياه الجوفية، أنزل أحدهم "شيكارة ملح" بواسطة حبل معلق في بكرة عملاقة. يقول الرجل والشيكارة تتأرجح نزولاً: "في الأرض الزراعية لازم نحط في البيارة ملح علشان يفتح مسام الأرض". ويشارك عامل أخر في الحديث الدائر ويعلق: " في الأرض الرملية بنتعب لغاية ما نوصل للمياه الجوفية، لكن في الأرض الزراعية مترين تلاتة والميه تطلع".
يحاول يعقوب شرح الفارق بين "البيارة" و"التحليل" و"الرشاح"، فالأولى يعبر إليها الماء والسوائل لتجري مع المياه الجوفية، بينما "التحليل" يكون بجوار البيارة، ويساعد في إطالة عمرها الافتراضي، فهو عبارة عن حفرة متران في مترين يتم عملها لحجز الرواسب بها ويمكن تنظيفها كل فترة بسيارة يطلق عليها "سيارة الكَسح"، فيما يكون "الرشاح" بجوار الترع والمجاري لصرف المياه مباشرة لها.
تدمير المياه الجوفية
أمر أخر انقرض في القرية بسبب عدم وجود شبكة صرف صحي، والاعتماد على البيارات البدائية لصرف فضلات البشر، حسب كلام يعقوب، الذي ينادونه هنا "أبو يوسف"، إذ اختفت "طلمبات المياه" في بيوت وشوارع القرية، وأغلب القرى المصرية كذلك، بسبب تلوث المياه الجوفية بمياه الصرف والفضلات. وقد كانت طلمبات المياه اليدوية تخرج المياه الجوفية النظيفة التي يعتمد عليها أهالي القرى في الشرب والطبخ والاستحمام، بينما كان يتم غسل الملابس والحصر على ضفاف الترع، حتى أواخر القرن الماضي، قبل مد القرى بمواسير مياه نظيفة ومحطات تحلية حديثة طوال العقدين الماضيين.
ويشير أبو يوسف إلى أن الطلمبات اختفت من القرية ولم تعد موجودة سوى في الحقول قرب النيل، ويقول: "حتى البهايم دلوقتي ما ترضاش تشرب من مية الطلبمات اللي في البلد".
تسممت المياه الجوفية تماماً بسبب كثرة البيارات في كل بيت وشارع بالقرية، لا سيما مع تزايد عدد السكان طوال السنوات الماضية، من دون أن تلتفت الدولة على اختلاف نظم الحكم طوال العقود السابقة إلى أهمية مد شبكات الصرف الصحي الحديثة من أجل الصحة العامة والحفاظ على مخزون المياه الجوفية.
ويعتقد أبو يوسف أن البنية التحتية للقرى في العقود السابقة "كانت لا تحتمل شبكة الصرف الحديث"، ويقول: "كل البيوت كانت من الطوب اللبن وكانت قديمة، وبعضها كان بدون كهرباء أو مياه، دلوقتي كل البيوت بالحديد المسلح وحديثة والكهرباء والمياه في كل بيت، وبقت القرية تتحمل الحفر في الشوارع وعمل شبكة صرف وغاز طبيعي كمان، وده ها يفيد البلد والأهالي".
انتهت أعمال الحفر في البيارة، وقام العمال بتسويرها من الداخل بالطوب الأحمر والأسمنت، لحماية جدرانها من التآكل بفعل مياه الصرف والفضلات التي ستمتلئ بها البيارة على مدار أجيال قادمة، لكن ثمة أمراً يقلق أحد العمال حول مشروع الصرف الصحي في القرية، هو العم نصار، العامل باليومية، البالغ عمره 55 عاماً، لديه مخاوف نابعة من خبرته الكبيرة في المهنة. يقول: "أنا اشتغلت في حفر الصرف اللي داير في البلد، ولاحظت أن المواسير البلاستيك اللي ها تمشي في الشوارع قطرها صغير عن المواسير المصنوعة من الزهر، اللي كانت بتستخدم في المدن لغاية وقت قريب". يتخوف عم نصار، ومن يتبنون مثله هذه النظرية، من انسداد مواسير الصرف الضيقة (قطرها 25 سم) وعدم تحملها مخلفات القرية، ما يعرضها للطفح والانفجار كل فترة، وهو الأمر الذي لا يحدث في حالة البيارات، فكل ما عليك فعله هو الاتصال بسيارة متخصصة لشفط البيارة من الفضلات لتعود فارغة من جديد. هنا يتدخل أبو يوسف ليفسر بخبرته وفارق مستوى المعرفة بالأساليب الحديثة في شبكات الصرف، التي تختلف عن عصر المواسير الزهر الضخمة، يقول: "المواسير الزهر كان بها عيب خطير فهي تتأثر بالأملاح ومياه الصرف وتتحلل مع الزمن، لكن المواسير الجديدة من البلاستيك القوي الذي يتحمل سنوات أكثر، بخلاف ماكينات الشفط التي تعمل في محطات الصرف الفرعية والرئيسية لسحب المخلفات والمياه، وتمنع انسداد المواسير، إذا حافظ الأهالي على التعليمات بعدم القاء المخلفات وغيرها".
في انتظار "حياة كريمة"
يعلق أحدهم، وهو عامل ينادونه أبو سيد رغم عدم زواجه أو إنجابه أطفالاً: "لازم يبقى فيه توعية للأهالي علشان نعرف نحافظ على الصرف نضيف، علشان الناس هنا غلابة والموضوع جديد عليهم، وممكن يرموا أي حاجة في الحمامات زي ما بيعملوا في البيارات". من ناحية أخرى يشكو أبو سيد من تباطؤ تنفيذ المشروع في قرية البرشا، ومعاناة الأهالي من انقطاع المياه يومياً طوال النهار، بخلاف الأخطاء التي يقع فيها عمال الحفر غير المتخصصين، الذين يكسرون مواسير المياه أثناء الحفر، فتغرق الشوارع في المياه، وبدلاً من الانتهاء من حفر شارع في اليوم، يستغرق الأمر عدة أيام، كذلك لا يتم المراجعة على الشوارع بعد الانتهاء من مد المواسير وردمها، وتترك الشوارع غير مستوية، وبها الكثير من الحفر، لا سيما أن الشوارع في أغلب قرى مصر ترابية حتى الآن. رغم كل ذلك يتفق الجميع على تحمل هذه المعاناة ليدخلوا عصر "الحياة الكريمة" والحصول على الحقوق الأساسية للعيش الآدمي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم