من دون سابق إنذار، فوجئ موظفو سلسلة أولاد رجب التجارية بمدينة دمياط الجديدة (أقصى شمال مصر) بتخييرهم بين العمل بسلسلة أخرى في مدينتي شرم الشيخ أو الغردقة (إلى الجنوب الشرقي) أو الإمضاء على استقالة جماعية، على حد قول حسام الشهاوي مدير الأغذية فرع أولاد رجب بمدينة دمياط الجديدة الذي يروي التفاصيل لرصيف22 قائلاً حينما توجهنا للعمل يوم الخميس الموافق 3 مارس (أذار) الماضي، فوجئت بالباب الرئيسي للفرع مغلقاً، ومدير آخر يفتح الباب الجانبي،ورد على سؤالنا عما يحدث بأن ‘الفرع دا هيتقفل’ سألناه: ‘فجأة كده؟ طيب العمالة هتروح فين؟’، وكان الرد أنه سيجري توزيعنا على فرعي شرم الشيخ والغردقة حال قبلنا ذلك، ومن لا يوافق يقدم استقالته".
رفض العاملون قرار الشركة لما سيكون له من آثار مالية واجتماعية تفرقهم عن عائلاتهم وتفرض عليهم تكاليف إضافية لن تتحملها رواتبهم، خاصة مع الانتقال للعيش من مدينة صغيرة رخيصة نسبياً إلى مدن سياحية ترتفع فيها تكاليف المعيشة. حرر العمال محضراً رسمياً قيد برقم 745 إداري دمياط الجديدة لسنة 2022، ولا يزالون ينتظرون حلاً لمشكلاتهم في وقت يتكرر فيه إغلاق الفروع وتسريح العاملين في فروع مختلفة سلسلة المتاجر الكبرى في أنحاء متفرقة من البلاد، في مشهد متكرر واجهه عاملون على اختلاف مستوياتهم الوظيفية في العديد من الشركات العاملة في مصر خلال الأشهر الأخيرة.
في أعقاب اتخاذ قرارات اقتصادية معلنة، وأخرى غير معلنة، ارتفعت صيحات المستوردين وأصحاب المصانع التي تعتمد على خامات وأدوات إنتاج مستوردة من توقف العمل والمبيعات، وأعلن بعضهم اضطراره إلى الاستغناء عن العمالة غير المنتظمة كخطوة أولى بعد إغلاق فروع وإلغاء ورديات عمل
ما لا يُقال
تشهد مصر منذ شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي تناقصاً تدريجيا في دخلها من العملة الصعبة، في وقت يستمر فيه ارتفاع تكاليف المعيشة نتيجة ارتفاع التضخم وتكلفة الخدمات الأساسية، مقابل ثبات أو تراجع الأجور.
في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية، اضطرت السلطات في شهر مارس/ آذار إلى الاعتراف أخيراً بالأزمة، تزامناً مع تلقي الاقتصاد المصري ضربة قوية في بدايات شهر فبراير/ شباط، بينما كانت أزمة الحرب الروسية الاوكرانية تلوح في الأجواء، إذ بدأت الأموال الساخنة التي تعتمد عليها الحكومة المصرية في تمويل خزانتها بالعملات الأجنبية في الهروب نحو أسواق أكثر استقراراً. فاتخذت الحكومة في مارس/ آذار قرارات تتصل بالسياسة المالية، قيدت بموجبها الاستيراد من الخارج للحفاظ على الدولارات الشحيحة الباقية.
خبير اقتصادي: لجنة السياسات المالية تعمل بمعزل عن وجود برنامج اقتصادي متكامل، وقراراتها استجابة لأزمة كانت جذورها موجودة في الاقتصاد المصري منذ عقود، وتفاقمت نتيجة السياسات الحكومية، والعمال يدفعون الثمن
كان من أثر ذلك أن ارتفعت صيحات المستوردين وأصحاب المصانع التي تعتمد على خامات وأدوات إنتاج مستوردة من توقف العمل والمبيعات، وأعلن بعضهم اضطراره إلى الاستغناء عن العمالة غير المنتظمة كخطوة أولى بعد إغلاق فروع وإلغاء ورديات عمل. ومن بين أكبر الشركات التي لجأت إلى تسريح العمالة من دون أداء مستحقاتهم في كثير من الأحوال وإغلاق فروع البيع والاستغناء عمن فيها، كان توكيل الهواتف الصينية الأعلى مبيعاً في مصر "أوبو" الذي علت شكاوى العاملين فيه من صرفهم عن عملهم في وقت يصعب فيه الحصول على فرص عمل بديلة، في وقت بات التوكيل فيه يعجز عن استيراد الهواتف وملحقاتها، وفي ظل مخاوف حول مستقبل مبيعات أجهزة الهواتف المحمولة في مصر في ظل تراجع القدرات الشرائية لدى المواطنين.
وبينما بدأ أثر التباطؤ الاقتصادي في الظهور في القاهرة وغيرها من المدن الكبرى خلال الفترة من فبراير/ شباط إلى مايو/ أيار، كانت الأزمة حاضرة مبكراً في المدن التي تعتمد على التصنيع وما يرتبط به من استيراد الخامات من الخارج، إذ أدى ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الجنيه في 2016، واستمرار تراجع القوى الشرائية للمواطنين ما يعني تراجع المبيعات إلى تأثر العديد من الأنشطة والعاملين فيها خاصة في المجالات التي تعتمد على خامات مستوردة، كصناعة الأخشاب والزيوت وما يرتبط بها، إذ تستورد مصر ما لا يقل عن 60% من خامات الإنتاج من الخارج، وفقاً للخبير الاقتصادي شريف الدمرداش، مما أدى لتعطل البعض نتيجة تراجع حجم المبيعات.
على الرغم من أن الإحصاءات الرسمية تؤكد تراجع معدلات البطالة خلال الربع الأول لعام 2022، لتدور حول 7.2%، إلا أن واقع السوق وما سجلته تقارير دار الخدمات النقابية والعمالية، يشهد بأن القطاع الخاص، حيث يعمل نحو 80% من قوة العمل في مصر، توسع في الاستغناء عن العمالة
وعلى الرغم من أن البيانات الحكومية الصادرة عن وكالة الإحصاء الرسمية، تؤكد تراجع معدلات البطالة خلال الربع الأول لعام 2022، لتدور حول 7.2% انخفاضاً من 7.4% في الربع السابق عليه، إلا أن واقع السوق وما سجلته تقارير دار الخدمات النقابية والعمالية، يشهد بأن القطاع الخاص، حيث يعمل نحو 80% من قوة العمل في مصر، توسع في الاستغناء عن العمالة، خاصة مع ضعف تطبيق قوانين العمل التي تدع 75% من قوة العمل في القطاع الخاص من دون عقود تضمن حقوقهم، بحسب دراسة "العمل اللائق" التي أعدها منتدى سياسات للحلول البديلة بالتعاون مع منظمة العمل الدولية في 2021.
زيادة أسعار الخامات
يقول خليفة هاشم عبد الهادى عضو مجلس إدارة شعبة الأحذية والمصنوعات الجلدية بالغرفة التجارية بالقاهرة لرصيف22، أن أسعار الخامات زادت بنسبة تصل إلى 50%، فيما زاد سعر المنتج النهائي على المستهلك بنسبة تتراوح من 25% إلى 30% عقب الزيادة الأخيرة المعلنة في سعر صرف الدولار عقب عيد الفطر مباشرة.
ويقدر حجم الخامات المستوردة المستخدمة في صناعة الأحذية بنسبة تتراوح من 80 إلى 85% حيث يتم استيرادها من الصين.
و يضيف عبد الهادي قائلاً: "كان للقرارات الأخيرة تأثير بالغ على الإنتاج وحجم المبيعات الذي تراجع بنسبة تتراوح من 50% لـ60%، حيث توقفت أغلب المصانع، وهذا أدى إلى صرف غير المتعاقدين أولاً، وجرى الاستغناء عن 50% من العمالة على الأقل". ويقدر عبدالهادي عدد العاملين في قطاع تصنيع وبيع الأحذية بنحو 5 ملايين عامل.
محمد الزيني رئيس الغرفة التجارية بمحافظة دمياط، والعضو السابق في مجلس النواب، يقول لرصيف22 إن أسعار الخامات المستخدمة في تصنيع الأثاث – الذي تشتهر به محافظة دمياط- زادت بنسبة 20% مؤخراً، منوهاً: "وهي النسبة الرسمية، لكن الواقع يشهد بزيادات أكبر على أرض الواقع" ما تسبب في اتساع رقعة توقف الورش والمصانع عن العمل، وصرف العاملين فيها، خاصة مع تراجع المبيعات بما يزيد على 25% نظراً لتراجع القوى الشرائية للمواطنين.
قرارات خاطئة
الخبير الاقتصادي الدكتور شريف الدمرداش، يرى أن القرارات التي اتخذتها لجنة السياسات المالية بالبنك المركزي المصري في مارس/ آذار الماضي، التفتت إلى السيطرة على انفلات سعر صرف الدولار مقابل الجنيه في السوق السوداء والحفاظ على الحصيلة الدولارية بهدف تغطية الاحتياجات الاستراتيجية من دون سياسات اقتصادية موازية تضمن بقاء حركة السوق والحفاظ على العمالة، وهو ما يدعو – حسبما يراه الدمرداش- إلى النظر إليها باعتبارها قرارات "قصيرة النظر".
الدمرداش: "أي قرار يؤثر على استيراد مكونات أو قطع الغيار أو مستلزمات إنتاج محلي يعد جريمة"
يقول الدمرداش لرصيف22 "القرارات الاقتصادية كان لها تأثير سلبي الصناعة المحلية. أي قرار يؤثر على استيراد مكونات أو قطع الغيار أو مستلزمات إنتاج محلي يعد جريمة".
ويتفق الدمرداش مع ما ذهب إليه كثير من الخبراء الاقتصاديين المستقلون في أن الخلاص من الأزمة الهيكلية للاقتصاد المصري تعتمد على التوسع في الإنتاج وخاصة القائم على التصنيع، ويعلق "أي عائق يواجه صناعة وطنية، يؤثر تباعاً على العمالة الوطنية. والتأثير على أي نشاط بالتقليص أو الإغلاق سيؤدى لزيادة مشكلة البطالة نتيجة تخفيض حجم العمالة الناجم عن ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج أو غلق المنشأة". ويتفق الخبير الاقتصادي مع الطرح الذاهب إلى أن استمرار السياسات الحالية التي تعلي من السياسات المالية الانكماشية فوق المصالح والإجراءات الاقتصادية الهادفة إلى توسيع التشغيل والإنتاج، ينتج قنبلة اقتصادية واجتماعية تنتظر الانفجار.
ويختلف معه الخبير الاقتصادي رشاد عبده، أستاذ الاقتصاد والاستثمار والتمويل الدولي. الذي يرى أن القرارات الاقتصادية المتخذة لم تسهم في إضافة وقود جديد لنيران البطالة في مصر.
يقول عبده لرصيف22 "لا يوجد علاقة مباشرة ما بين الأزمة الاقتصادية الحالية والدولار من جانب، واستيراد خامات التصنيع وما يتصل بها من تسريح العمالة من جانب آخر. ولكن أثرت الحرب الروسية الأوكرانية على العملة في العالم كله، كما تراجعت السياحة القادمة لمصر خاصة وأن 34% من السياح القادمين يأتون من روسيا وأوكرانيا وبالتالي تناقصت العملة الأجنبية لدينا، كما زادت أسعار القمح بصورة كبير خاصة وأن طرفي الحرب ينتجوا 31% من إنتاج العالم منه، كما زادت أسعار العديد من المواد الغذائية وهو ما أدى لتضخم ليس في مصر وحدها بل مختلف دول العالم وعلى رأسها أمريكا".
وأضاف عبده قائلا الأزمة العالمية أدت لتناقص رصيد مصر من الدولار، وباتت تأخذ من رصيدها القديم لتنفق. متابعاً: "كل هذا أثر على البطالة بصورة غير مباشرة وبخاصة العمالة غير الموسمية بالقطاع الخاص".
لكن الإحصاءات الرسمية لا تتفق كثيراً مع هذا الطرح إذ أن توسع الدولة في تقليص التصنيع لصالح الاستثمار في التشييد والبناء، أدى بحسب وكالة الإحصاء الرسمية إلى خفض عدد المنشآت التي تنتمي للقطاع العام وقطاع الأعمال العام وتعمل في مجال الصناعات التحويلية من 538 منشأة كانت تعمل في العام 2003، إلى 288 منشأة عام 2017، وهو ما أدى لتراجع عدد العاملين في تلك المنشآت من 364.1 إلى 222.8 ألف عامل. في وقت تمضي فيه الدولة نحو مزيد من التصفية وبيع أراضي المصانع لصالح بناء "الكومباوندات".
أهلاً بالبطالة
أعلن هشام توفيق، وزير قطاع الأعمال العام، في 23 مايو/ أيار المنقضي، عن بدء إجراءات تصفية شركة جديدة من شركات القطاع، في مواصلة لسياسة الدولة التخلص من ممتلكات الخزانة العامة، في وقت تتوسع فيه هيئات ذات طبيعة أمنية في استثماراتها المنافسة للقطاع الخاص.
أحمد الصاوي 57 عاماً عضو مجلس الإدارة المنتخب لمصانع الحديد والصلب بحلوان، التي جرت تصفيتها وطرح أراضيها للبيع لصالح الإنشاءات العقارية، يقول لرصيف22 إن "الجهة المعنية" الممثلة في الحكومة المصرية ووزارة قطاع الأعمال العام دفعت لبعض العمال مستحقاتهم، "لكن قرار التصفية وقع كالصاعقة على رؤوس العمال"، متابعاً "هناك شباب أفنوا عشر السنين في هذا المصنع ولن يجدوا مكان آخر يوظفهم وهم أرباب أسر، حيث أن قرار تصفية شركة الحديد والصلب وأسمنت حلوان نتج عنه تسريح العمالة بنظام المعاش المبكر، ودفع مكافآت مالية لهم، مع الإبقاء على 770 عامل. وتراوحت التعويضات ما بين 225 ألف جنيه و450 ألف كلا حسب خدمته، ومن قضى أكثر من 20 عام في الخدمة سيحصل على معاشه بعد بلوغ سن الستين طبقاً للقانون".
وأقام الصاوي ممثلاً عن العمال، دعوى قضائية ضد وزير قطاع الأعمال العام أمام محكمة القضاء الإداري ببطلان قرار التصفية واعتباره كأن لم يكن، حيث تم إحالة الدعوى لهيئة مفوضى الدولة، مطالبا بإعادة النظر في القرار وتشغيل شركة الحديد والصلب المصرية، حرصاً على كيان الصناعة ومقدرات الدولة واستغلال الثروة المعدنية بالواحات البحرية في مصر.
في الوقت، تقدم عمال مصنع الزيوت والصابون في غمرة، التابع لشركة القاهرة للزيوت والصابون بشكوى جماعية ضد إدارة المصنع بدعوى إجبارهم على الاستقالة بعد تصفية 3 فروع، في القناطر والبدرشين وغمرة. بموجب قانون العمل الساري، تختلف مستحقات العامل المفصول أو الذي أنهي تعاقده عن حقوق العامل المستقيل ‘ذ تقل الامتيازات المالية للأخير. ويعني قرار الشركة إجبارهم على الاستقالة أنها تنوي أن تمنع عنهم استحقاقاتهم في التعويض والمعاش.
ووفقا لأحد العاملين بالإدارة العامة، وافق على الحديث لرصيف22 شريطة عدم ذكر اسمه، فإن الشركة أجبرت العاملين في مصنع غمرة – عددهم 140- على توقيع استقالاتهم، لتمنحهم تعويض الحد الأدنى عن سنوات العمل من دون استحقاقاتهم القانونية عن إنهاء التعاقدات نتيجة التصفية. ثم أعلنت الشركة التصفية بدعوى الخسارة حيث قام العاملين بتقديم شكوى لوزارة القوى العاملة وتم نقل مجموعة من العاملين بفرع غمرة للعياط، وعلى مدار السنوات الماضية تم تصفية 3 فروع أعوام 2007 /2015/2021 للشركة. والآن لا يجد العاملون فرص عمل جديدة في ظل نفاذ ما تلقوه من الشركة من مستحقات زهيدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...