شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
اقتصاد الحرب في اليمن... شعب فقير ومليارات الدولارات في جيوب النافذين

اقتصاد الحرب في اليمن... شعب فقير ومليارات الدولارات في جيوب النافذين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الثلاثاء 31 مايو 202212:05 م

خلف قضبان حديدية، وقف مذهولاً من الصدمة، لا يدري هل ما يعيشه واقع، أم حلم، أم خيال ذكريات من وحي تقاريره الصحافية التي كان يعدّها أو يحررها طوال 40 عاماً، وغطى من خلالها قضايا وحالات إنسانيةً عدّة. أخرجه من ذهوله صوت قاضي المحكمة وهو يقول: "يُسجن المتهم محمد عبد العزيز الحمادي حتى يقوم بسداد الديون المتراكمة عليه من الإيجارات المتأخرة لمالك المنزل الذي يسكنه، وحتى يقوم بترميمه وإخلائه".

الحمادي عمل صحافياً لأكثر من 40 عاماً في صحف حكومية عدة، آخرها صحيفة 26 سبتمبر الحكومية، والتي عمل فيها نائباً لرئيس التحرير قبل أن يُفصَل من عمله، بعد أن سيطر الحوثيون عليها. على مدى سبعة أعوام، لم يستلم راتبه الشهري. ونظراً لمرضه وكبر سنّه، لم يعد في استطاعته ممارسة أعمال أخرى، ما جعله يعيش ظروفاً اقتصاديةً صعبةً جداً، في ظل ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية الجنوني.

أحمد السعدي (70 عاماً)، هو الآخر لم يتبادر إلى ذهنه أن سوء حاله سيصل يوماً إلى هذه الدرجة التي لم يعد فيها قادراً على تحمل تكاليف ما يكفيه وزوجته من أكل وشرب. كان يعوّل على راتبه التقاعدي عند خروجه من العمل في وزارة الكهرباء التي قضى فيها ما يقارب الخمسة عقود، قبل أن يُحال إلى التقاعد نهاية عام 2014. لكنه تفاجأ بتوقف هذا الراتب بعد سنتين من تقاعده: "لم أستلم راتبي التقاعدي كاملاً إلا في السنتين الأوليين من فترة تقاعدي، بعدها لم أستلم إلى اليوم إلا نصف راتبي مرتين أو ثلاث مرات، على الأغلب"، يقول لرصيف22.

قبل طلوع الشمس، يغادر أحمد منزله حاملاً كيساً كبيراً، بادئاً رحلة معاناته اليومية في تعبئته بالقوارير البلاستيكية المستخدمة. يذهب متكئاً على عصاه ويجوب الشوارع بحثاً عنها، وغالباً ما يجدها في صناديق القمامة وأكياسها. وبعد عناءٍ طويل، ومع غروب الشمس، يتمكن من تعبئة كيس واحد، كبير الحجم، لكن قيمته لا تتعدى الألف ريال (أقل من دولارين). بالكاد يكفيه هذا المبلغ ليشتري وجبة طعام واحدة.

يعيش أحمد وحيداً مع زوجته في منزل صغير سقفه من الصفيح. "بلغت من الكبر عتياً، ولا يوجد لدي أبناء يُعيلونني. صرفت كل مدخراتي ولم يعد في مقدوري العمل، وراتبي التقاعدي لم يعد له أي وجود"؛ هكذا لخص أحمد حالته التي يعيشها منذ ما يقارب الست سنوات.

محمد وأحمد ليسا استثناءً. كثيرون من كبار السن المتقاعدين الذين كانت رواتبهم التقاعدية مصدر دخلهم الوحيد، أصبحوا حالياً يعانون بشدة للحصول على أبسط الحاجات اليومية الضرورية، بعد توقف هذه الرواتب كلياً في المحافظات التي يسيطر عليها الحوثيون، وجزئياً في المحافظات الأخرى مطلع عام 2017. فوفقاً لـ"الهيئة العامة للتأمينات والمعاشات"، يزيد عدد المتقاعدين في اليمن عن 124 ألفاً، 41% منهم من دون معاشات منذ آذار/ مارس 2017.

لم يكن المتقاعدون المتضررين الوحيدين. أسر يمنية كثيرة، خصوصاً تلك التي تنتمي إلى الفئات الأشد ضعفاً، فَقَدت مصدر دخلها الأساسي، بعد توقف دفع الإعانات النقدية الشهرية التي كان يقدّمها صندوق الضمان الاجتماعي، والتي كان يستفيد منها نحو 1.5 مليون أسرة من الأسر الأشد فقراً في اليمن.

نهب الأموال العامة

في الوقت الذي انقطعت فيه رواتب هؤلاء المتقاعدين والفئات الأخرى الأشد ضعفاً، إلى جانب انقطاع رواتب نحو مليون ومئتي ألف موظف مسجلين رسمياً في اليمن، لم يستلم أغلبهم رواتبهم الشهرية منذ سنوات، وفي الوقت الذي يشهد فيه اليمن ارتفاعاً جنونياً في أسعار المشتقات النفطية والمواد الغذائية والأدوية والخدمات الأساسية، وكل شيء تقريباً تضاعفت أسعاره أكثر من مرتين، تنتشر عمليات غسيل الأموال غير المشروعة التي تُنهَب من الإيرادات العامة للدولة، من ضرائب وزكاة ورسوم جمركية وغيرها من الإيرادات التي كان من المفترض أن ترفد خزينة الدولة بالأموال (مليارات الريالات)، والتي تُصرف منها الرواتب الشهرية، بدلاً من غسلها لصالح أطراف الصراع على حساب المواطن اليمني.

"تمكّن الحوثيون من خلال السيطرة على كيانات مدرّة للدخل مملوكة للدولة وتحصيل الضرائب المفروضة على الشركات، من جمع بلايين الريالات اليمنية. وتُقدَّر الأموال التي حصلوا عليها بما يقارب 1.8 مليار دولار أمريكي خلال عام 2019"

تتفاوت نسبة المشاركة في هذه الأعمال، إلا أن أطراف الصراع الدائر اليوم في اليمن منخرطة كلها في عمليات غسل الأموال غير المشروعة، بدءاً من جماعة أنصار الله الحوثيين. فبحسب تقرير فريق خبراء مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المعني باليمن، الصادر في كانون الثاني/ يناير 2021، "تمكّن الحوثيون من خلال السيطرة على كيانات مدرّة للدخل مملوكة للدولة وتحصيل الضرائب المفروضة على الشركات، من جمع بلايين الريالات اليمنية. وتُقدَّر الأموال التي حصل عليها الحوثيون، عن طريق القنوات والآليات العديدة التي أنشئت، بما يقارب 1،039 ترليون ريال يمني (ما يعادل 1.8 بليون دولار أمريكي)، خلال عام 2019 فحسب. هذا المبلغ كان موجهاً أصلاً لملء خزينة الدولة ودفع الرواتب وتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين". وبحسب التقرير، "حوّل الحوثيون هذا المبلغ لتمويل عملياتهم العسكرية".

في الطرف الآخر، تُتهم الحكومة الشرعية وبنكها المركزي وعدد من مسؤوليها وشركات خاصة متعاملة معها، بارتكاب عمليات فساد وغسل للأموال عند استخدام الوديعة السعودية في عملية وصفها التقرير بـ"المنظمة"، أثّرت على إمكانية حصول اليمنيين على الإمدادات الغذائية الكافية.

ففي كانون الثاني/ يناير 2018، أودعت السعودية مليارَي دولار، ووفرت هذه الوديعة الدولارات اللازمة لتمويل شراء السلع الأساسية من أجل تعزيز الأمن الغذائي، وتثبيت الأسعار المحلية. وفقاً للتقرير، خرق البنك المركزي اليمني (التابع للحكومة الشرعية)، قواعده الخاصة بصرف العملات الأجنبية، وتلاعب بسوق الصرف الأجنبي، وغسل جزءاً كبيراً من الوديعة السعودية في إطار خطة محبكة لغسل الأموال. فقد حوّل البنك ما يقارب من 1.3 مليار دولار من الأموال العامة، بصورة غير قانونية، إلى شركات خاصة استفادت منها لمصلحتها الشخصية على حساب المواطنين اليمنيين".

بعد تعرضه لضغوط كبيرة من الحكومة الشرعية والشركات الخاصة، لاحقاً، تراجع الفريق في تقريره الأخير الصادر في كانون الثاني/ يناير من هذا العام، عن اتهام الحكومة الشرعية والشركات الخاصة المتعاونة معها، مبرراً ذلك بعدم وجود أدلة دامغة.

تمويل الحرب من قوت اليمنيين

يقول رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي مصطفى نصر، إن حجم الأموال غير المشروعة التي غُسلت خلال فترة الحرب في اليمن يتجاوز 30 مليار دولار، وفق إحصائيات غير رسمية، وهو رقم يعادل موازنة اليمن لثلاث سنوات في الظروف الطبيعية.

ويضيف نصر لرصيف22، أن تقريراً صدر مؤخراً عن المركز خلص إلى أن الحرب ساهمت في توسيع عملية تدوير الأموال غير المشروعة وخلقت منافذ خاصةً في إطار غير شرعي وغير قانوني، نظراً لازدهار العديد من الأنشطة المشبوهة في مثل هذه الأوضاع، خصوصاً مع تعدد أطراف الحرب وفصائلها، وانتشارها، إذ تُفتح خطوط داخلية وخارجية مالية ومصرفية وتجارية تنتهي عند مافيا تجارة الأسلحة التي تنشط في بيئة الحروب والصراعات، والتي تُعدّ مرتعاً خصباً لنمو تجارتها كما هو حاصل في اليمن.

"تُتهم الحكومة الشرعية وبنكها المركزي وعدد من مسؤوليها وشركات خاصة متعاملة معها، بارتكاب عمليات فساد وغسل للأموال عند استخدام الوديعة السعودية في عملية وُصفت بـ‘المنظمة’، أثّرت على إمكانية حصول اليمنيين على الإمدادات الغذائية الكافية"

كثيرة هي مصادر الأموال غير المشروعة في اليمن، منها ما يُنهَب من الإيرادات العامة للدولة من الضرائب والرسوم الجمركية، وإيرادات الاتصالات وغيرها، وأخرى من المصادرات الجماعية والفردية المنظمة لأموال الخصوم وممتلكاتهم، ومن الدعم الخارجي العيني والنقدي وإيرادات الأسواق السوداء، مثل سوق الصرف وسوق المشتقات النفطية، وأيضاً من التبرعات والإعانات والهبات والرسوم والإتاوات غير القانونية، ومن فرض مسميات أخرى كالمجهود الحربي والحماية.

وفقاً لتقرير فريق الخبراء الذي نُشر في 27 كانون الثاني/ يناير 2017، فإن أفراداً وشبكات مدرجةً أسماؤهم على قائمة الجزاءات يسيطرون على الأموال غير المشروعة ويستخدمونها لتمويل أنشطتهم، وهذه الأموال تُجمع من خلال مصادرة أموال الكيانات والأفراد المعارضين، وأصولهم، وتلقّي التمويل من مصادر عبر الحدود، والانخراط في تجارة السوق السوداء وفرض رسوم غير قانونية على استيراد الوقود وعلى أنشطة أخرى، والتهريب والتزوير والإتجار بالمخدرات والمؤثرات العقلية والأوراق النقدية والتحف والآثار، وتحصيل الزكاة والإيرادات غير الضريبية، وتحصيل الإيرادات الضريبية والرسوم الجمركية.

وبحسب تقرير آخر لفريق الخبراء، تُستخدم المتحصلات المالية الناتجة من غسل الأموال "لتمويل العمليات العسكرية التي تهدد السلام والأمن والاستقرار في اليمن، وهو ما يساهم في إطالة أمد الحرب".

القطاع المصرفي وشركات الصيرفة

كثيرة هي الشواهد التي تدل على وجود عمليات غسيل أموال في اليمن، والتي تتم بأساليب وأشكال عدة تتدرج من البساطة إلى التعقيد، بحسب ظروف العملية وطبيعتها، ومنها تهريب الأموال إلى الخارج، واستبدال العملات، والتي تُعدّ أهم وسيلة يلجأ إليها غاسلو الأموال في اليمن، حيث يتم تغيير الأموال غير المشروعة من عملة الريال إلى عملات أجنبية إما لتصغير حجمها وتسهيل عملية حملها، أو للبدء بأنشطة التخفي من خلال شراء أصول خارجية وتصرفات عينية، وذلك بشراء أشياء مادية كالذهب والمجوهرات والعقارات.

يذكر وحيد الفودعي، وهو باحث ومحلل اقتصادي يمني، أنه ومع استمرار الحرب الدائرة في اليمن، وسيطرة الأفراد والجماعات المتصارعة على موارد الدولة المختلفة وأموال الخصوم السياسيين، كانت شبكات تحويل الأموال وشركات الصيرفة ومحالّها من أهـم الملاذات الآمنة لغسل هذه الأموال التي انتشرت وتزايدت أعدادها وفروعها بشكل مخيف بتصاريح رسمية وغير رسمية، كما سُمح لها بتجاوز القوانين واللوائح المنظمة، وذلك بفتح حسابات واستقبال ودائع العملاء، وأصبح سوق الصيرفة بيئةً مشجعةً للاستثمار، سواء الاستثمار الحقيقي لأموال مشروعة أم لغسل أموال غير مشروعة وتمويل الحرب.

ويلفت إلى أنه رافق ذلك انعدام الثقة بالريال اليمني، نتيجة الصدمات والتذبذبات التي تعرّض لها، فازداد الطلب على النقد الأجنبي لأغراض أهمها تبديل الأموال غير المشروعة، ما شجع عمليات المضاربة بالعملة. وبالتوازي مع ذلك، ازداد عدد شبكات الحوالات المالية بشكل أكبر، وأصبحت هي الأخرى أحد أهم الملاذات الخصبة لغسيل الأموال وإحدى أدوات المضاربة بالعملة.

ويشير الفودعي، إلى أن التحالف العربي بقيادة السعودية ساهم في خلق حالة من الانتعاش لشركات التحويلات المالية، من خلال تقديم الدعم المباشر لأطراف الحرب، وتسليم الأموال نقداً أو عبر شركات صيرفة، وعدم تقديمه عبر القنوات الرسمية.

"حجم الأموال غير المشروعة التي غُسلت خلال فترة الحرب في اليمن يتجاوز 30 مليار دولار، وفق إحصائيات غير رسمية، وهو رقم يعادل موازنة اليمن لثلاث سنوات في الظروف الطبيعية"

عبد السلام الأثوري، خبير اقتصادي يمني، يقول إن "الدورة الاقتصادية للعملة تراجعت أكثر من 80% عما كانت عليه قبل الحرب، وهذا ما جعل الفاقد ونسبةً كبيرةً من الـ20% المتبقية تتحول إلى كتلة نقدية قائمة على المضاربات". ويذكر الأثوري لرصيف22، أن الاقتصاد الرسمي انهار وتحول إلى اقتصاد قائم على الفوضى والتداخلات الكبيرة مع جماعات العنف والمليشيات المختلفة التي أصبحت تسيطر فعلياً على غالبية النقد المعروض حالياً في السوق.

وبحسب الأثوري، فإن هذا الأمر كان السبب الرئيس في عمليات المضاربة وتهريب الأموال وتحويلها إلى حسابات خارجية لبعض الأفراد والجماعات المرتبطة بأطراف الصراع، عبر شركات الصيرفة التي أسستها هذه الأطراف والتي انتشرت بشكل كبير في اليمن، وأصبحت تهيمن على الاقتصاد النقدي في السوق نتيجة ضعف السيادة القانونية لمؤسسات الدولة الرسمية، أو انعدامها. ونتيجةً لذلك، أصبحت السوق خاضعةً لهيمنة المليشيات التابعة لأطراف الصراع المختلفة، وسيطرتها، وتستخدمها لغسل أموالها غير المشروعة.

التمويل الأجنبي والمساعدات الإنسانية

يتلقى أطراف النزاع، وخصوصاً المليشيات المسلحة، الدعم والتمويل من دول عدة في المنطقة. فبالرغم من قرارات مجلس الأمن التي توجب على الدول الأعضاء عدم إتاحة مواطنيها أو أي أفراد أو كيانات داخل أراضيها، أي أموال أو أصول مالية أو موارد اقتصادية للجهات أو الأفراد أو الكيانات المدرجة في قوائم الحظر، إلا أن الواقع يشير إلى عدم التزام بعض الدول بهذه القرارات.

يشير تقرير فريق الخبراء إلى وجود شحنات وقود مصدّرة إلى اليمن من إيران، تُحصَّل عائداتها لصالح أفراد مدرجين في قائمة العقوبات التي أصدرها مجلس الأمن، بعد بيع الوقود في السوق السوداء في المناطق الواقعة تحت سـيطرة الحوثيين. ويشير التقرير إلى أن فصائل أخرى بعضها غير منضوٍ تحت الحكومة الشرعية، مثل القوات العسكرية والأمنية التابعة للمجلس الانتقالي، وقوات حراس الجمهورية في الساحل الغربي، تتلقى دعماً مالياً خارجياً لتمويل أنشطتها الحربية في اليمن.

لم تسلم حتى المساعدات الإنسانية من استغلالها وتحويلها إلى أداة لغسل الأموال غير المشروعة. وفقاً لفريق الخبراء، فإنه "يُحتمل أن تكون المساعدات الإنسانية العينية والنقدية أحد أهم مصادر الأموال غير المشروعة المراد غسلها، فبالرغم من أن التحويلات النقدية للمنظمات الإنسانية تُقدَّم من خلال المصارف اليمنية ومراسليها، لكن ذلك يتم خارج نطاق إشراف البنك المركزي اليمني".

ويشير التقرير إلى بعض المؤشرات التي تثير الشك في الاستيلاء على المساعدات الإنسانية أو توجيهها إلى المجهود الحربي، مثل اقتراحات الحوثيين التي تدعو إلى الاستعاضة عن توزيع السلع الإنسانية العينية بالنقدية، بالإضافة إلى إنشائهم جهةً مستقلةً خارج مؤسسات الدولة، هي "المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية"، لإدارة هذه المنح بطريقة مباشرة بعيداً عن الرقابة والمساءلة.

أمين الحميدي، أستاذ الاقتصاد النقدي المشارك، يقول إن الأموال التي دخلت إلى اليمن عن طريق منظمات الإغاثة منذ بداية الحرب وحتى العام 2021، تُقدَّر بنحو 20 مليار دولار.

ويقول لرصيف22، إن هذه الأموال كان من المفترض أن تدخل عبر البنك المركزي وتودَع في حساباته، ومن ثم تُستبدل بالريال اليمني. لكن المنظمات العاملة في اليمن رفضت هذا الأمر، وذهبت إلى بيع هذه الأموال في السوق السوداء للعملات. ويشير إلى أن أغلب هذه الأموال لم تُصرف على الإغاثة، وأن ما صُرف منها على أرض الواقع لم يتجاوز الـ20%، بينما نحو 80% منها غُسلت، سواءً عبر تحويلها إلى الخارج أو عن طريق مضاربات العملة في الداخل بواسطة أفراد يتبعون لها.

المشتقات النفطية

قبل اندلاع الحرب عام 2015، كانت شركة النفط اليمنية، التابعة للدولة، هي المسؤولة عن استيراد المشتقات النفطية، وكانت تمنح عدداً محدوداً من الشركات الخاصة تراخيص لاستيراد الوقود، لكن بعد أن سيطر الحوثيون على السلطة قاموا بإصدار تراخيص استيراد لشركات عدة.

وفقاً لفريق الخبراء المعني باليمن، فإنه "في الفترة من أيلول/ سبتمبر 2016، وحتى تشرين الأول/ أكتوبر 2018، قامت 52 شركةً بدور وكلاء بيع في معاملات استيراد الوقود". من ضمن هذه الشركات، شركة "يمن لايف" (Yemen Life)، التي يملكها محمد عبد السلام (عبد السلام صلاح فليتة)، الناطق الرسمي باسم الحوثيين، وشركة "أويل برايمر" (Oil Primer)، التي يملكها دغسان محمد دغسان، وشركة "بلاك غولد" (Black Gold)، التي يملكها علي قرشا، فضلاً عن شركتين إضافيتين، هما شركة "ويلرز" (Wheelers)، التي تعمل كواجهة لشركة "أويل بريمير"، وشركة "بلد الخيرات" (Balad al khairat)، التي تعمل بصفتها وكيلة بيع لشركة "بلاك غولد". ووجد الفريق أن الشركتين ترتبطان بدغسان وأنهما واجهة تمثل المصالح التجارية نفسها، وأن لهما صلات بالحوثيين.

ويُعَدّ استيراد المنتجات النفطية وتوزيعها، من المصادر الرئيسية لإيرادات الحوثيين. فبعد أن أنهى الحوثيون احتكار شركة النفط اليمنية التي كانت تستورد أغلب المنتجات النفطية وتعمل على توزيعها، قاموا بالسيطرة على هذا القطاع باستخدام موزعين في السوق السوداء يخضعون لسيطرتهم.

ويشير تقرير فريق الخبراء إلى أن إيرادات الحوثيين من بيع المنتجات النفطية في السوق السوداء، خلال الفترة من أيار/ مايو 2016، وحتى تموز/ يوليو 2017، وصلت إلى أكثر من 1.27 مليار دولار.

قطاع العقارات

يُعدّ القطاع العقاري من أهم الملاذات التقليدية الآمنة التي يقصدها غاسلو الأموال ومموّلو الحروب والإرهاب، لإخفاء الأموال غير المشروعة وغسلها. وبالرغم من الحالة الاقتصادية المتدهورة جداً التي يعيشها أغلب اليمنيين، إلا أنه في سنوات الحرب الأخيرة، وللمفارقة، شهدت الكثير من المدن اليمنية حركةً نشطةً في قطاع العقارات والبناء، خصوصاً العاصمة اليمنية صنعاء التي يسيطر عليها الحوثيون، والتي تشهد توسعاً في عمليات البناء على أطرافها في الاتجاهين الجنوبي والشرقي. أما وسطها فيشهد انتشاراً كبيراً للمباني والأبراج الجديدة، التي تحوي عشرات الشقق، وللمراكز التجارية الضخمة في كل مناطقها بالتوازي مع أعمال هدم المباني الصغيرة والقديمة.

يحدث هذا وسط ارتفاع كبير في أسعار العقارات والأراضي، إذ وصل سعر "اللبنة" (وحدة قياس محلية تساوي 4.4 أمتار مربعة)، في وسط صنعاء، إلى نحو 25 مليون ريال (ما يقارب 42،000 دولار)، بينما في الأطراف تجاوزت الـ15 مليون ريال (نحو 22،000 دولار)، للّبنة الواحدة.

نهب أموال الخصوم السياسيين وممتلكاتهم

تُمثل أموال الخصوم السياسيين وممتلكاتهم، والتي يتم نهبها ومصادرتها، أحد المصادر المهمة التي تغذي عمليات غسيل الأموال في اليمن. فخلال سنوات الحرب، تطورت الآليات والإجراءات التي تستخدمها أطراف الصراع، لا سيما سلطة الأمر الواقع في صنعاء، لنهب الأموال العامة والمصادرة الجماعية والفردية لأموال الخصوم السياسيين، بدءاً بالطرق التقليدية المعتمدة على القوة القسرية، وانتهاءً بالعمليات المنظمة التي تتم عبر شبكات واسعة، تشمل القضاء والبنك المركزي والأمن والمخابرات وجهات أخرى تأتمر بأمر "الحارس القضائي" التابع للحوثيين، كما هو الحال في صنعاء.

وبحسب تقرير فريق الخبراء، تتم عمليات النهب هذه وفق آلية محكمة تجمع بين مؤسسات الدولة وأجهزتها المختصة، مثل البنك المركزي والنيابة والمحكمة الجزائية المتخصصة ونيابة الأموال العامة ومحكمتها وجهاز الأمن والمخابرات، ويتم تنسيق عمليات النهب ومصادرة الأموال حتى تصل في النهاية إلى أيادي متنفذين لاستخدامها إما في تمويل العمليات الحربية أو في إنشاء شركات تجارية وتكوين اقتصاد موازٍ أو تهريبها إلى خارج البلاد.

وفي صنعاء، تستخدم أيضاً المحاكم الجنائية المختصة صلاحيتها ومركزها لإضافة الشرعية والصفة القانونية على نهب الأصول والممتلكات الخاصة بمعارضي الحوثيين، والاستيلاء عليها لتمويل العمليات الحربية.

ويشير الأثوري، إلى أن "مفهوم غسل الأموال في اليمن، تغير خلال سنوات الحرب الأخيرة، وتحول إلى عملية نهب للأموال العامة على المكشوف، وليس عن طريق عمليات الإخفاء كما قبل الحرب في ظل وجود الدولة ومؤسستها الرقابية المختلفة".

وفيما تستمر معاناة الحمادي والسعدي ومعهما ملايين اليمنيين، يحتل اليمن المرتبة (174) من (180) في مؤشر مدركات الفساد لعام 2021، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية. ويحتل مرتبةً متدنيةً على مؤشر مكافحة غسيل الأموال لعام 2020 لمعهد بازل، في دليلين على الفساد الكبير الذي يعاني منه البلد، وعلى وجود مخاطر عالية لغسيل الأموال وتمويل الإرهاب والحروب الأهلية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image