هم "أصحاب الفكر الحر"، أو هم "من تجرؤوا على التفكير"، وعلى "المجاهرة بعدم الإيمان بكل الديانات والوساطات بين الرب والإنسان"؛ هذا تعريف اللا دينيين الذي يختاره حاتم الإمام، رئيس جمعية المفكرين الأحرار، التي تُعدّ الأولى من نوعها في العالم العربي، والتي تدافع عن الأقليات الدينية.
يؤكد الإمام أنّ اللا دينيين في تونس يفوق عددهم الآلاف، لافتاً إلى أنّ عدد الملحدين الذين يعدّهم لا دينيين، لا يجرؤون على المجاهرة بفكرهم كاملاً. وإذا كان عددهم المعلَن لم يتجاوز 80 شخصاً خلال الفترة التي سبقت سنة 2011، فقد خرجوا إلى العلن بعد الثورة معترفين بفكرهم وتوجههم.
لا دينيون في مجتمع مسلم
يُعدّ الإسلام الدّين الرسمي في تونس، وغالبية أفراد المجتمع مسلمون، مع أقلية من اليهود والمسيحيين والبهائيين وربما بعض البوذيين. برزت مؤخراً أقلية جديدة خرجت عن مفهوم الدين والمعتقد واختارت العيش تحت مسمّى "اللا دينيين" أو الملحدين، وأغلبهم يعيشون في سرية تامة من دون البوح بأفكارهم، لكن بعضهم بدأوا يحثون الخطى نحو إنهاء زمن السرّية.
هؤلاء الذين يرون أنفسهم يسعون إلى كسر جدار الصمت، والخروج في تحدٍّ للمجتمع والشتائم والسب وحتى الإقصاء، في محاولة للتأقلم في وسط اجتماعي مصغّر، انضموا إلى "حركة المفكرين الأحرار" التي حصلت على الترخيص القانوني أواخر سنة 2016، وهي تنشط حالياً في العلن ويبلغ عدد أعضائها نحو 400 شخص.
محمد بن رجب الجندوبي، كاتب وباحث في الإسلاميات، وإمام صلاة تراويح سابقاً، يقول لرصيف22: "منذ صغري كنت مثابراً على الصلاة، وملازماً لمجالس الشيوخ. كنت مغرماً بسماع أشرطة الشيخ كشك وحديثه عن عذاب القبر وجهنم التي أعدها الله لحرق البشر". ويضيف: "كنت شاباً ملتزماً لا أصافح زميلاتي في المعهد وكثيراً ما أدعوهن لارتداء الحجاب".
يؤكد محمد أنّه كان أصغر إمام في تونس سنة 2007، وكان يؤم الناس في صلاة التراويح والناس يأتون أفواجاً للصلاة خلفه. كان ذلك في مسجد الرحمة في شواط في محافظة منوبة (شمال البلاد)، مشدّداً على أنّه كان يختم القرآن مرةً كلّ أسبوع وأنّه يشعر بالرغم من ذلك بالتقصير تجاه الدين والله.
يتابع: "رحلة الشك انطلقت قبل أن أؤُم الناس، وتحديداً عندما كنت أقف عند بعض الآيات وأبحث في تفاسيرها وأسباب نزولها، لأصطدم بما ترويه كتب التراث من فظاعات يجب أن يبتلعها عقلي أمام قاعدة تقديم النقل على العقل".
محمد يضيف أيضاً: "السبب الرئيسي لإعراضي عن القرآن كنص مقدس هي القصة التي وردت في سورة الكهف حول الغلام الذي قتله الخضر، "وجد غلاماً فقتله". وتروي التفاسير أنّ الخضر أمره الله أن يفلق رأس طفل عمره خمس سنوات لأنّه كان سيرهق أبويه، وهنا تساءلت: لماذا لم يأمره الله بأخذه معه وتربيته حتى يكون من الصالحين؟ بعد تلك القصة اصطدمت بقصة زواج الرسول من عائشة وعمرها ست سنوات، وهو في الخمسين من عمره. هذا أمر لا يقبله عقل ولا منطق، ومع ذلك تصرّ المؤسسة الفقهية على ضرورة القبول به من دون سؤال أو شك".
رحلة الشك انطلقت عندما كنت أقف عند بعض الآيات وأبحث في تفاسيرها وأسباب نزولها، لأصطدم بما ترويه كتب التراث من فظاعات يجب أن يبتلعها عقلي أمام قاعدة تقديم النقل على العقل
محدث رصيف22، يقول إنّ هاتين القصتين "جعلتاني أشك في مصداقية الرسالة المحمدية وبدأت أتعمق أكثر في البحث حتى صادفت كتاباً للمفكر السعودي عبد الله القصيمي، وأنا في سن الـ18 سنةً، عنوانه 'هذه هي الأغلال'. هذا الكتاب أخرجني من الظلمات إلى النور بحسب تعبيره".
تحمّس محمد في بدايات شكّه كثيراً للفكرة، ونشط على مواقع التواصل الاجتماعي، وكوّن صفحات على فيسبوك تجاوز عدد متابعيها المئتي ألف، موجهةً إلى الدول المغاربية ككل (تونس، والجزائر، وليبيا، والمغرب وموريتانيا)، فتعمّد شخصان من ليبيا وتونس في الساعات الأخيرة من الليل ضربه أمام منزله بزجاجة على رأسه، وطعنه بسكين في ظهره، في محاولة لتخويفه وربما لقتله، بحسب تأكيده.
"لا ديني" ولا أستطيع البوح
أما عماد (اسم مستعار)، فهو لا ديني، لكنه يفضّل عدم الإفصاح عن ذلك في الحياة العامة. يقول لرصيف22، إنّ جلّ أفراد عائلته لم يتقبّلوه بينهم، بل نعتونه بالكافر أو حتى "الزنديق"، حتى أنّهم يخافون منه لأنّه لا يؤمن بالدين ولا بالرب، ولا شيء يمنعه من القتل مثلاً، أو السرقة، أو الاغتصاب، أو زنا المحارم، طالما أنّه لا يؤمن بما جاء في القرآن.
بدايات خروج عماد من الدين الإسلامي منذ سن السابعة عشر، كانت عبر أسئلة غريبة. كان يتساءل مثلاً: "هل يُعقل أن يأمر الربّ بالقصاص وهو الذي أمر بالتسامح؟ هل ممكن أن يشرّع للذبح وهو الذي شرّع للسلام؟ أو هل يمكن أن يأمر بضرب الزوجة والإحسان إليها في آن واحد معاً؟ لماذا الإسلام بعيد عن العلم إلى هذه الدرجة...؟".
بهذه الأسئلة، يؤكد عماد أنّه اكتشف الكثير بحسب تقديره، ووجد أنّ "الربّ لا يحتاج إلى وساطة مع عبده، ولا إلى دين لكي يثبت وجوده، أو ينشر القيم الإنسانية، بل أنّ الرب أرقى من فكرة الحساب والعقاب"، واكتشف أيضاً أنّ الإنسان عبد فكره، حتى أنّه كلّما قال إنّه لا يؤمن بالأديان التي تقيّد البشر، نُبذ وشُتم، ووُصف بأبشع النعوت.
يضيف أنّه لم يخرج عن الدين لمجرّد الرغبة في التخلص من أي ضوابط أو قواعد تحدّد سلوكه، فهو كما يقول لا يحتاج إلى دين يمنعه من السرقة أو الكذب أو القتل أو أي فعل لا إنساني، بل هو ملتزم بالإنسانية التي تحدّد تصرفاته مع المجتمع ومع عائلته وكل المحيطين به.
ربيع (31 عاماً)، اختار نشر اسمه من دون لقب، حتى لا يواجه إشكالاً مع عائلة خطيبته المتدينة، وهو وُلد في عائلة مسلمة، وحفظ القرآن واعتاد على سماعه عبر الإذاعات والقنوات. يقول لرصيف22، إنّه لم يختَر دينه بل تبعه بالفطرة نظراً لانتمائه إلى عائلة مسلمة.
منذ أن بلغ سنّ العشرين، غيّر فضوله في شأن "الشُّهُب" وتقييد الشياطين في رمضان تفكيره، وببحثه عن قيود الشياطين في رمضان، اكتشف ما لم يكن يتوقع من تناقضات في الدين ومعلومات بعيدةً عن واقعه الذي يعيش فيه، ووجد أنّ "الإسلام وكل الأديان الأخرى مجرّد خرافة وصناعة بشرية لا ذنب للرب فيها"، ومسلمات وإيمان أعمى توارثته الأجيال على حد قوله.
ساخراً، يعتقد ربيع أنّ الحديث عن صلاة استسقاء تجلب المطر في ظل التغيرات المناخية والدراسات الجيولوجية، أو الاعتقاد بأنّ الاقتصاد متدهور والفقر منتشر لأنّ النساء "يتبرّجن" ويخرجن بلباس "فاضح"، هي أمور مضحكة، ولا علاقة لها بالعلم.
على العكس، ربيع منسجم مع عائلته التي احترمت تفكيره وقناعاته، وهو يحترم كل طقوسهم الدينية، بما في ذلك طقوس رمضان والأعياد الدينية. يقول أيضاً إنّه منسجم مع المجتمع، لأنّه غير مندفع ولا يقلل من شأن دينه، ولا رسوله، حتى أنّه لا يجاهر بأنّه لا ديني تجنباً للتصادم مع محيطه.
محاولات لإثبات الوجود
هذا ويحاول اللا دينيون في تونس نشر فكرهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي أتاحت لهم مساحةً واسعةً للنقاش وتناول مسائل الدين الذي كان مسألةً يستحيل طرحها في وسائل الإعلام التقليدية، فيما تأسست صفحات تضم اللا دينيين من الدول العربية لتبادل أفكارهم ونقد الديانات على لأنّ الدين بالنسبة إليهم"مجرّد أفكار وأيديولوجيات".
هذا ويؤكد كاتب عام "جمعية إنارة"، لرصيف22، أنّ هناك سبع صفحات ناشطة على موقع فيسبوك تهتم باللا دينية، ويتفاعل فيها عدد كبير من اللا دينيين.
يحاول اللا دينيون في تونس نشر فكرهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي أتاحت لهم مساحةً واسعةً للنقاش وتناول مسائل الدين الذي كان مسألةً يستحيل طرحها في وسائل الإعلام التقليدية
ولفت إلى أنّ هناك جمعيتين في تونس تهتمان بهذا الفكر، هما جمعية المفكرين الأحرار، التي انخرط فيها نحو 30 عضواً، فيما يتجاوز عدد روادها أكثر من 100 شخص من دون عدّ من يمتنعون عن التصريح بتبنيهم فكر اللا دينية، فضلاً عن جمعية إنارة التي تكونت في أواخر 2018، ويبلغ عدد المنخرطن فيها 84 عضواً، فيما يتجاوز عدد روادها 1،050 شخصاً.
كاتب عام جمعية إنارة، يكشف أيضاً لرصيف22، أنّهم أجروا دراسةً حديثةً في شباط/ فبراير 2022، خلصت إلى نتائج تقريبية، تفيد بوجود أكثر من 150 ألف تونسي لا ديني، وذلك من خلال التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي، وكل شخص يدلي بعدد الأشخاص الذين يعرفهم في محيطه ممن لا يؤمنون بالديانات السماوية.
وكان ناشطون قد أطلقوا تظاهرةً رقميةً في شباط/فبراير 2022، في إطار مبادرة جديدة أعلنوا عنها يوم 22 شباط/ فبراير الذي عدّوه "يوماً عالمياً للا دينيين الناطقين بالعربية"، وشارك فيها الآلاف من رواد مواقع التواصل الاجتماعي.
ويُعرِّف مؤسسو "تجمع اللا دينيين الناطقين بالعربية" بأنفسهم على أنهم مجموعة ترغب في غدٍ "لا نضطر فيه إلى إخفاء قناعاتنا الفكرية في العالم العربي". وأطلق هؤلاء تجمعهم بدايةً عبر تطبيق كلوب هاوس، قبل أن يؤسسوا موقعاً إلكترونياً أعلنوا عبره موعد التظاهرة الافتراضية. وعلى الراغب في المشاركة أن يعتمد على رابط للدخول إلى الموقع الإلكتروني.
تونس الثالثة عربياً
لا توجد إحصائيات رسمية أو دقيقة لأعداد "اللا دينيين" في العالم العربي، لكن الأرقام تقول إنّ الإلحاد في العالم العربي والإسلامي في حالة صعود، إذ كشف تقرير أصدره مرصد الفتاوى التكفيرية التابع لدار الإفتاء المصرية في العام 2014، وبالاعتماد على مؤشر الإلحاد في كل دول العالم، الذي أعدّه مركز "ريد سي" التابع لمعهد "غلوبال"، أنه جرى تصنيف مصر الأولى عربياً ، وبعدها المغرب، ثم تونس.
وسجلت بقية الدول العربية أرقاماً متباينةً، إذ أعلن التقرير عن وجود 242 ملحداً في العراق، و178 في السعودية، و170 في الأردن، وفي المقابل انخفض العدد في ليبيا التي يوجد فيها 34 ملحداً، و70 في السودان، و56 في سوريا، و32 في اليمن. لكن هذه الأرقام تظل محل تساؤل، إذ إنها لا تعكس واقع ظاهرة عدم التدين في المجتمعات العربية.
خلص التقرير إلى أن تزايد ظاهرة الإلحاد بين الشباب في الدول الإسلامية راجع في الأساس إلى "تشويه الجماعات الإرهابية التكفيرية لصورة الإسلام من خلال تطبيق مفهوم خطأ للإسلام، وتقديم العنف والقتل وانتهاك حقوق الإنسان على أنها من تعاليم الإسلام".
ويتداول اللا دينيون العرب على مواقع التواصل الاجتماعي، قولاً مفاده أنّ "الإسلام انتشر بالسيف وسينتهي بالفيس"، في إشارة إلى فيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى التي أتاحت مساحةً واسعةً من الحرية للحديث عن الشأن الديني، كانت مستحيلةً في عصر وسائل الإعلام التقليدية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...