خلافاً لعدد من الدول العربية حيث تعتبر مسألة الأقليات من المسائل الإشكالية لما قد تفرزه من توترات اجتماعية وطائفية، لا تطرح المسألة بتلك الحدة في تونس. فالأقليات التونسية تتفاوت في ما بينها من حيث الحجم والتاريخ كما تختلف من حيث الدور الذي تلعبه داخل النسيج المجتمعي على كل الأصعدة.
اليهود أقدم الأقليات في تونس
يهود تونسيون في كنيس الغريبة في جربة (أ ف ب)
يقدر عدد اليهود التونسيين حالياً بثلاثة آلاف نسمة. وتقطن أغلبيتهم في جزيرة جربة جنوب شرق البلاد في حين تتوزع البقية على مدن أخرى مثل تونس العاصمة وصفاقس وجرجيس وقابس. ويتحدر يهود تونس من مجموعتين، الأولى هي "التونس" التي يقال إنها قدمت إلى البلاد منذ تدمير هيكل سليمان الأول، والثانية هي يهود "الغرانة" ذوي الأصول اللاتينية الذين حلوا بتونس منذ القرن السادس عشر بعد طردهم من أوروبا فأقاموا في البلاد رافضين التزاوج مع الطوائف الأخرى بما فيها يهود التونس.
وجربة التي تضم العدد الأكبر من أبناء الطائفة اليهودية فيها ثلاث مدارس تلمودية تعلم الأطفال تاريخ اليهود واليهودية واللغة العبرية. وبرغم هجرة العديد من أبناء الطائفة في القرن العشرين إلى إسرائيل، فضل عدد كبير منهم البقاء حفاظاً على ممتلكاتهم وهم الذين عرفوا بمساهمتهم الكبيرة في الحياة الاقتصادية والتجارية للبلاد.
يعمل غالبية يهود تونس في ميادين التجارة، خصوصاً تجارة المصاغ. ويكاد سوق الذهب في جزيرة جربة أن يكون حكراً عليهم إذ ما يناهز الخمسين محلاً يعمل فيها تجار يهود عرفوا بقدرتهم على إنجاز أعمالهم بحرفية عالية واكتسبوا ثقة الزبائن. وقد تأثر التونسيون عامةً بثقافة اليهود الاقتصادية فأخذوا عنهم الكثير من أسرار البيع والشراء والادخار والتحكم في السوق. ولذلك عرف عند التونسيين أن "الجرابة"، سكان جربة، و"الصفاقسية"، سكان صفاقس، هم أكثر أهل تونس دهاء وتفوقاً في ميادين التجارة بفضل الخبرات التي اكتسبوها من علاقاتهم باليهود.
وليهود تونس أعيادهم وطقوسهم التي يتمسكون بها ويحافظون عليها، فلا يكاد يمر شهر دون أن يقيموا احتفالاً ما. فهم يحتفلون بعيد رأس السنة (دروش العام) وعيد الغفران (كيدور) وعيد الصمت (العشايش) وحذوكان (القنديل) وعيد الفصح وغيرها من المناسبات التي يمتنعون فيها عن العمل فلا يبيعون ولا يشترون ويصومون عن الأطعمة في أغلب هذه الأعياد. كما يحتفلون ببعض الأعياد ذات الصلة بأصناف من الطعام مثل عيد التمر وعيد الدجاج وعيد الفطير.
ويبقى "الحج" إلى معبد الغريبة في فصل الربيع، عيد الأعياد عند يهود تونس. يؤدون خلاله مناسكهم الدينية خلال أيام ويختتمونها بليلة الحج الكبيرة وهي عبارة عن حفل فني بهيج يتعرف أثناءه اليهود بعضهم إلى بعض ويقومون بإعلان الخطوبات والوصايا ويجمعون التبرعات لأبناء الطائفة المحتاجين. وأغلب الحجيج إلى كنيس الغريبة هم من اليهود العرب ذوي الأصول التونسية أو الليبية أو الجزائرية الذين يقيمون في أمريكا وأوروبا. وتتحدث الرواية اليهودية عن ارتباط نشأة كنيس الغريبة بامرأة قدمت إلى جربة وعاشت فيها بعفة وورع إلى أن ماتت في مكان تشييد الكنيس حيث ترقد أيضاً واحدة من أقدم نسخ التوراة حسب الرواية نفسها.
الطائفة الإباضية والبحث عن الهوية
إحدى مساجد الطائفة الإباضية في جربة التونسية
تغيب الإحصاءات الدقيقة عن عددهم في تونس، ويعيشون جنباً إلى جنب مع أقليات أخرى. وتعد جزيرة جربة الواقعة جنوب شرق البلاد أهم معاقل تلك الطائفة التي يعود تاريخها في تونس إلى سنة 766 مع تأسيس الدولة الرستمية على يد عبد الرحمن بن رستم والتي استمرت 130 سنة قبل أن يزيحها الفاطميون والعبيديون سنة 901.
لكن اندثار الدولة الرستمية لم ينه وجود الإباضيين في تونس إذ واصلت القبائل البربرية تمسكها بهذا الفكر إلى اليوم. وقد عاد الحديث عن هذه الأقلية ليطفو على السطح من جديد. فتشكلت جمعيات عدّة للمطالبة بإعادة الاعتبار لها كمذهب ولأتباعها على أنهم أقلية عرقية. إلا أن تأثير تلك الطائفة يختلف كل الاختلاف عن وزنها في الجزائر وليبيا مثلاً، فهي ذابت وانصهرت في المجتمع التونسي إلى حد بعيد نتيجة سياسات الدولة بعد الاستقلال التي تعاملت مع التونسي كمواطن بقطع النظر عن عرقه ولونه وعقيدته. ولذك ذهب الأستاذ عبد الحميد الأرقش إلى اعتبار الطائفة الإباضية من الأقليات "الصامتة" في تونس.
أما الدكتور فرحات الجعبيري الذي يعتبر من أعلام الإباضية في جربة ورموزها، فيرى أن جربة كلها تراث إباضي بآبارها ومساكنها ومساجدها. وقد أمكن لهذه الطائفة الحفاظ على كيانها ووجودها بفضل نظام داخلي لم يعرف عند سواها من الطوائف أو الأقليات وهو ما كان يعرف بنظام "العزابة" الذي أحدثه سنة 409 هـ الشيخ محمد بن أبي بكر القرسطاني وهو نظام كان يسهر على تسيير أمور الناس وقضاء حوائجهم حين تكون الدولة في حالة ضعف. ويعتبر الدكتور الجعبيري أن المساجد تمثل الجزء الأكبر من الإرث الإباضي في الجزيرة مثل جامع أبي مسور وجامع سالم وجامع زايد رغم أن عدداً منها صار خاوياً وتحوّل إلى مزارات للتبرك بالأولياء الصالحين.
كما تعتبر المكتبات من روافد التراث الإباضي في جزيرة جربة. ولعل أشهر تلك المكتبات المكتبة البارونية، التي تحولت إلى مكتبة الكترونية معاصرة يتعامل معها الباحثون من شتى الأصقاع، والمكتبة اليعقوبية إلى جانب مكتبات أخرى تختلف من حيث الحجم ومن حيث إمكانية النفاذ إليها مثل المكتبة البعطورية والمكتبة الجادوية.
المد الشيعي في تونس
رغم أن 85% من سكان البلاد يتبعون المذهب المالكي، وهو أحد المذاهب السنية الأربعة، فإن نسبة محدودة من التونسيين شيعة. والتشيع في تونس ظاهرة قديمة جديدة إذ تمتد جذوره إلى ما قبل الدولة الفاطمية وانتشار التشيع الفاطمي انطلاقاً من مدينة المهدية التونسية. وقد انتشر المذهب الجعفري حديثاً في تونس منذ خمسينيات القرن العشرين وسبعينياته وتحديداً بعد الرحلة الشهيرة للدكتور محمد التيجاني السماوي، أحد رموز التشيع التونسي، إلى العراق والتي زرعت بذور التشيع في تونس. واليوم يوجد في تونس الشيعة الإمامية وينتشرون في ولايات عدة من البلاد مثل قفصة وقابس وسوسة وتونس العاصمة والمهدية.
وتعتبر أوساط عدة أن تونس من الدول التي يشهد فيها المذهب الشيعي توسعاً ملحوظاً خاصة خلال السنوات الأخيرة ومع ذلك فإن هذه المسألة ما زالت غير مطروحة رسمياً وإعلامياً، باستثناء بعض الكتابات على شبكة الإنترنت. وهناك عدة تفسيرات لهذا الواقع بين قائل إن حرية المعتقد أمر يكفله دستور البلاد وإن الدولة لا تتدخل في معتقدات الناس ومذاهبهم، وبين من يرجع الأمر إلى طبيعة التونسيين المتسامحة وقدرتهم على التعايش رغم اختلاف معتقداتهم.
وبرغم غياب أرقام رسمية عن عدد الشيعة في تونس، فإن التيجاني السماوي يقدر عددهم بـ"مئات الآلاف" ويقول إنهم منتشرون في غالبية محافظات البلاد ويمارسون طقوسهم وشعائرهم دون أن يتعرض إليهم أحد بسوء. ويرى شيعة تونس أن مذهب آل البيت ليس غريباً عن البلاد وأن جذوره تعود إلى مئات السنوات.
وقد مرّ التشيع في البلاد بمراحل تاريخية أربع: المرحلة البربرية ومرحلة الدولة الفاطمية، ومرحلة تأسيس المهدية سنة 921، ومرحلة الستينيات وبداية السبعينيات التي شهدت دخول المذهب الجعفري إلى تونس وكان من أبرز رموزه الدكتور السماوي، وأما المرحلة الرابعة فكانت مرحلة الثمانينيات أي مباشرة بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران ويسميها عماد الدين الحمروني، رئيس جمعية أهل البيت الثقافية، مرحلة "التشيع الحديث".
كيف تتعايش الأقليات مع الأغلبية؟
طبيعة العلاقة بين الأقليات والأغلبية تعزز الانطباع الذي يحمله غالبية الناس عن تسامح التونسيين وقبولهم الآخر من دون أن يحجب ذلك بعض التصرفات التي تكون غالباً معزولة ولا ترقى إلى مستوى التحريض. يؤكد بنيامين خطاب، حاخام المعبد اليهودي الكبير في العاصمة تونس، أن كل شيء على ما يرام وان أعضاء الطائفة اليهودية ينعمون بحياة آمنة في تونس ولم يكن للأحداث الأخيرة تأثير على علاقتهم الطيبة بجيرانهم المسلمين وعلى ممارستهم لشعائرهم الدينية. الأمر نفسه يؤكده حاي كاموس، أحد يهود جربة الذي قال إنه لا يشعر بأي خوف أو قلق على سلامته أو سلامة عائلته.
أما الدكتور فرحات الجعيبيري وهو رمز من رموز الإباضية في جزيرة جربة فيؤكد أن الطائفة جزء لا يتجزأ من منظومة كاملة ومن الوطن، وبالتالي فهذه الطائفة لا تريد أن تكون منعزلة عن محيطها بل تريد أن تكون وسط المنظومة الوطنية وتتعامل مع الآخرين وتتعايش معهم دون صراع أو تعارض بين مختلف التيارات الموجودة. ومن الأدلة على هذا التعايش أن مساجد الإباضية أصبحت مفتوحة للجميع كما أن أبناء الإباضية يرتادون مساجد المالكية دون حرج أو تململ. وهو ما أكدته الأحداث الأخيرة حين عينت وزارة الشؤون الدينية في تونس أحد أتباع الطائفة الإباضية إماماً لمسجد ملاق في بلدة الروضة في جزيرة جربة بعد أن كان قد استولى عليه سلفيون وبالتالي حسمت الخلاف لمصلحة الإباضيين.
أما في ما يتعلق بموقف التونسيين من الشيعة ففيه أخذ ورد بين من يقبل بهم على مضض وبين من لا يرى ضيراً في التعايش معهم. فهذا الشيخ بشير بن حسن، الزعيم السلفي، يعتبر تونس سنية وليست رافضية ولا مكان لهذه الطائفة ويقول: "إما أن يتوبوا أو أن يذهبوا إلى إيران" معتبراً الشيعة من أخطر الفئات على أمن البلاد. في حين يرى الناشط الحقوقي عبد الرؤوف العيادي أن الشيعة التونسيين مواطنون أحرار ومن حقهم اعتناق المذهب الذي يريدون فذلك من حرية التدين. أما الناشط أحمد الكحلاوي فيذهب إلى القول "إن كان شيعة تونس في خدمة قضايا شعبهم فلا ضير وإن كانوا في خدمة سياسات وقوميات أخرى فهذا يطرح السؤال". أما مبارك بعداش الرمز الشيعي في منطقة الجنوب التونسي فيؤكد أن الطائفة تعيش في وئام مع السنة دون تسجيل ما من شأنه أن يعكر صفو العلاقة بين الطائفتين.
تعايش الأقليات مع الأغلبية يعزز مرة أخرى الفكرة التي يحملها الكثيرون عن تسامح التونسيين عموماً وقبولهم الاختلاف والتعايش مع ما يكتنف ذلك التعايش من قلاقل وتوترات ظرفية لا تؤثر إجمالاً على مناخ التسامح الذي يميز النسيج المجتمعي للبلاد. وربما يعود ذلك إلى أن الأغلبية هي أغلبية ساحقة لا تشعر بتهديد الأقليات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...