ربما ليس مهماً نوع الحدث في إيران، إنما الحشود الغاضبة والمستاءة في أنحاء البلاد لا تفوت فرصة لإبراز رفضها واحتجاجها على سياسة طهران وإدارتها الداخلية. وفي المقابل ليس مهماً ربما الشعب برمته بالنسبة للنظام، فمهما كان نوع الاحتجاجات وحجمها وموقعها، ومهما كان نوع المواطن المحتج، متقاعداً كان أم معلماً أم سائقاً أم فقيراً لا يملك قوت يومه، فكلهم في رأي الدولة مشاغبون ومندسون يعملون لصالح الاستكبار العالمي، ولذلك يجب مطاردتهم وسجنهم وتعذيبهم ومحاكمتهم.
عند آخر حدث مروع بعد مرور أسبوع على احتجاجات غلاء الغذاء في عموم البلاد، احتج أهالي مدينة عبادان، جنوب غربي إيران، والمجاورة لمدينة الأهواز، على قصور الحكومة في التسريع بعملية إنقاذ المواطنين من تحت ركام البناية الضخمة التي انهارت قبل 6 أيام في هذه المدينة، أما الردّ فكان إطلاق الغاز المسيل للدموع والسبّ والشتم، وحتى إلقاء القبض على بعض المواطنين، وقطع الإنترنت في المدن العربية الواقعة جنوب غربي البلاد.
في منتصف يوم الاثنين، 23 أيار/مايو، انهار 40 بالمئة من بناية "متروبول" المكونة من 10 طوابق خلال تواجد الناس فيها، مما تتطلب تدخل قوات الإغاثة والدفاع المدني في أسرع وقت نظراً لاحتمالية وجود أحياء تحت الركام، ولكن مع التأخر والتباطؤ، تدخل المتطوعون من المواطنين للمساندة.
رشاوى وفساد إداري يقضي علی أرواح العشرات
ومنذ اللحظات الأولى وجه السكان أصابع الاتهام إلى صاحب البناية، الرجل المتنفذ والمتسلط على مفاصل المراكز الحكومية في عبادان، حسين عبد الباقي، فزاد الغضب المتراكم تجاه الرجل الذي كان الأهالي شاهدين على انتهاكاته وتصرفاته غير القانونية في اكتساب الثروة وتشييد المباني، مما يدل على تفشي الفساد الإداري داخل مفاصل الدولة.
أمام الغضب المتصاعد أعلنت السلطات عن مقتل صاحب البناية حسين عبد الباقي، مما أثار شكوك الأوساط المحلية، فبين من قال إنه سجين سيخضع للتحقيق ومن ادعى أنه أصبح ضحية کالبقية، بدت الهمسات والإشاعات تتعالى هنا وهناك عن تهريب الرجل إلى خارج البلاد بمساعدة الحكومة
في الساعات الأولى من انهيار المبنى هاجم المواطنون رئيس البلدية لتعاطيه الرشاوى من صاحب البناية التي انهارت على رؤوس المواطنين، ولم تمض إلا ساعات قليلة حتى أعلن المدعي العام في المدينة عن إلقاء القبض على عمدة المدينة وصاحب البناية وبدء التحقيق معهما.
الصحفي المحلي، سعيد حافظي، أعاد نشر مقطع فيديو له، كان قد بثه قبل عام من الحادث، وحذر فيه الجميع من انهيار المبنى، معلقاً: "كل من تقاضى الرشاوى من حسين عبدالباقي قد وقّع على وثيقة قتل الناس في برج متروبول التوأم".
في اليوم التالي للحادثة، وبينما كان سكان المدينة ينتظرون التسريع بعملية الإنقاذ، واجهوا عدم اكتراث الحكومة بالمهمة وإنقاذ حياة العالقين تحت الركام، إضافة إلى قصور الحكومة الجلي في تدشين هذه البناية، وبين هذا وذاك انهارت ثقة الشعب، وطغى غضبهم من الإهمال المتعمد في العاصمة طهران حول تهميش قضاياهم.
أمام الغضب المتصاعد أعلنت السلطات عن مقتل صاحب البناية حسين عبد الباقي، مما أثار شكوك الأوساط المحلية، فبين من قال إنه سجين سيخضع للتحقيق ومن ادعى أنه أصبح ضحية کالبقية، بدت الهمسات والإشاعات تتعالى هنا وهناك عن تهريب الرجل إلى خارج البلاد بمساعدة الحكومة.
الإعلام يكذب وأوامر تصدر بقطع التغطية الخبرية
ونظراً لانعدام الثقة بإعلام الحكومة، وخاصة مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التي سبق وروجت أخباراً مزيفة لصالح النظام، بات الشعب لا يصدق أخبارها مهما كانت. ومن الغريب أيضاً أن التلفزيون الإيراني بثّ في نفس اليوم لقاءً مع أحد الناجين من تحت الركام بعد 30 ساعة. وقد فضحت منصات التواصل الاجتماعي كذبة التلفزيون، وتبين في ما بعد أن الرجل كان ضمن طاقم الإسعاف، ولم يكن تحت الركام أصلاً، مما بدّل الشك باليقين عن هروب عبد الباقي إلى الخارج.
الباحث الاجتماعي عباس عبدي، اعتبر ما حدث دليلاً علی أن الإعلام الحكومي فقد مصداقيته لدی أوساط الشعب
وغرد أحد رواد منصات التواصل الاجتماعي: "شعرنا بالارتياح أن الرجل حيّ، لأن الشيء الوحيد الذي نحن متاكدون منه هو أنكم دائماً على خطأ".
رغم التغطية الخبرية الهشة، وعدم انعكاس مطالبات الشعب جميعها، أعلن رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الإيراني بيمان جبلّي، عن أوامر من السلطات العليا توعز بقطع التغطية الإعلامية، ما يعني أن النظام بات لا يتحمل أي صورة ولا نبأ لا يعکس عظمته وشموخه.
الباحث الاجتماعي عباس عبدي، وفي إشارة إلی مفارقات الإعلام الرسمي، اعتبر ما حدث دليلاً علی أن الإعلام الحكومي فقد مصداقيته لدی أوساط الشعب.
أما عملية الإنقاذ فلم تفلح في اليوم التالي للحادث بسبب أن عبادان لم تملك الأدوات والمعدات التقنية والحديثة والطاقم المهني لإدارة الأزمة رغم أنها مدينة نفطية تضم أكبر مصفاة للبترول وتمتلك حقولاً كبيرة وميناء ومنطقة تجارية حرة.
وراح ضحية الانهيار ما يزيد عن 30 مواطناً ونحو 37 جريحاً وسط تعلل الدولة في التعامل مع الحادث وعدم إعراب مسؤولي الدولة عن تعازيهم أو إعلان الحداد في البلاد، بل أكثر من ذلك هو إقامة أضخم حفل جماهيري لأغنية إيديولوجية بمشاركة 100 ألف شخص في طهران، مما زاد الطين بلة.
غضب عارم يعم عرب عبادان
وبات العبادانيّون أمام مفارقة عجيبة من تصرفات النظام بين حادث مشابه وقع في طهران وهو انهيار مبنی "بلاسكو" نهاية عام 2017، حيث سخرت الحكومة البلاد برمتها للبناية، رغم أن عدد وفيات الحادث كان أقل من برج متروبول عبادان. وقد عززت هذه المفارقات الغريبة في التعامل مع أبناء المدن قياساً مع سكان طهران، الشعورَ بالتهميش والعزلة والغربة لدى السكان العرب في مدينة عبادان. فطالما تحدث العرب في جنوب غربي إيران عن الحرمان والتهميش المتعمد من قبل النظام الإسلامي وسط نفي الحكومات المتعاقبة خلال العقود الأربعة الماضية، ولکن حادثة برج متروبول كشفت الكثير وجعلت ما يشعر به المواطنون العرب الإيرانيون محسوساً للجميع.
عملية الإنقاذ لم تفلح في اليوم التالي للحادث بسبب أن عبادان لم تملك الأدوات والمعدات التقنية والحديثة والطاقم المهني لإدارة الأزمة رغم أنها مدينة نفطية تضم أكبر مصفاة للبترول وتمتلك حقولاً كبيرة وميناء ومنطقة تجارية حرة
وبعد تسليط الضوء من قبل الإعلام المعارض خارج إيران وصحفيين وناشطين مستقلين داخل البلاد عبر صفحاتهم في منصات التواصل الاجتماعي، والإعلام الحرّ، وبعد مرور خمسة أيام على الحادث المروع، أبدى نجوم الفن والرياضة تعاطفهم مع الضحايا، كما عزى المرشد علي خامنئي أهالي عبادان، وطالب بمحاسبة جميع المقصرين، ولكن هذا الكمّ من تباطؤ الدولة والمشاهير للتضامن مع الضحايا أفقد الأمل لدى سكان المدينة بشعور المواطنة.
وعن التعاطف الواسع منذ اللحظات الأولى من أبناء الشعب الأهوازي مع ضحايا عبادان، غرّد الناشط المدني سعيد هِلَيجِي: "لا تستغربوا أن كل الأهواز أقامت الحداد، نحن هنا نقول للرجل المسنّ (بوية)، ونقول للمرأة المسنة (يُمّا)، ونقول للآخرين (خُوية)؛ كلنا أسرة واحدة"، ونشر صورة من رجل يرتدي الزيّ العربي، ويساند قوات الدفاع المدني في إزالة الركام، واعتبر ذلك دليلاً على أن العرب تُركوا لوحدهم في هذه المحنة.
عبادان عروس إيران قبل الثورة
ووسط تعلّل الحكومة في تقديم الإغاثة، وإرسال أحدث المعدات من العاصمة إلی أقصی جنوب غربي البلاد، وقف أهالي عبادان بما يملكون من معدات متواضعة كي تتم عملية إنقاذ العالقين تحت الركام، فضلاً عن فتح منازلهم لاستراحة المتطوعين، وتوزيع الطعام بالمجان بين قوات الدفاع المدني.
من جانبه قال رئيس لجنة الإعمار في البرلمان الإيراني محمد رضا رضائي، إن مبنی متروبول كان مرخصاً لبناء 4 طوابق فحسب، ولكن البلدية سمحت ببناء 10 طوابق خلافاً لآراء مؤسسة الهندسة المدنية.
مبنى متروبول قبل الانهيار
وكانت مدينة عبادان قبل انتصار الثورة الإيرانية (1979)، أبرز مدينة متقدمة في الإعمار والمدنية، ومشهورة باسم "باريس الصغيرة" و"عروس إيران"، كما كانت تشتهر بمبانيها الجميلة، ومرافقها السياحية، وزراعتها المتوفرة، حيث تطل علی الخليج، ولكن بعد الثورة وبدء الحرب العراقية الإيرانية تدمرت المدينة بالكامل، ولم تتعاف منذ مرور نحو 33 علی نهاية الحرب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين