فيما البعض مُنهمك باقتحام مساحات هذا العالم المديدة، وبالسفر خارج نطاق الأرض لاكتشاف كواكب جديدة وللترنّح بين المجرّات وناطحات السحاب، ولم لا القفز من طائرة إلى أخرى بحثاً عن المغامرة وعن كل ما ينتشلنا من خوف المكوث في الزاوية، يدعونا عالم يستريح على المُنمنمات.
عالم صغير وشديد الدقّة، "مكنكن" ندخله من خلال علبة يتفنّن في زخرفتها صديقان فهما أننا نحتاج إلى ملاذ آمن نكتبه وفق ما تمليه علينا مُخيلتنا. صديقان إختارا فسحة مُعتمة بعض الشيء لخلق هذه العوالم الصغيرة. فُسحة تتكدّس فيها الروايات التي تأتي على شكل عُلب يُخيّل للزائر بأنها مُعلّقة بين صفحات كتاب العزلة وإن كانت همسات الشارع تنساب إليها من النوافذ الكبيرة التي تحميها من العالم الخارجي.
كثر يسألون غابي وندى عن السبب خلف عدم إضافتهما التماثيل في هذه العلب التي تروي عشرات القصص من خلال المجسّمات المصغرة، وتعيد إحياء الحِرف القديمة على طريقتها. والجواب لا يتغيّر، حتى لو طرح عشرات الأشخاص السؤال عينه. هذه العلب هي جنينة أحلامنا السريّة، ندخلها ونروي من خلالها القصة التي تحاكي مخيلتنا وتهدهد انكسارنا.
ومن هذا المنطلق، شعرا بأنه لا يحق لهما التدخّل في أحلامنا وفرض قيود داخل العلب الصغيرة.
نحن مدعوون للدخول إلى العلبة التي نرتئي أنها تأخذنا في رحلة جديدة. إن كانت العلبة تجسّد، بفضل مخيلة ندى وأنامل غابي، مطبخاً كاملاً في مستلزماته، أو غرفة نوم التراجيدي المنكسر، فان غوغ، التي كانت تشرف على بساتين الزيتون (ملهمته وعروس شعر هلوساته)، ولم لا، مشغل صانع الأحذية، حيث تنتشر المواد اللاصقة والسكين المخصصة لتشذيب الأحذية، أو مكتبة منسيّة لفيلسوف منهمك بحلّ معضلات الكون.
في شارع صغير في قلب "مونو"، بدأ محترف مخصّص لفن المنمنمات... عالم صغير وشديد الدقّة "مكنكن"، يغرينا بدعوة خاصة لدخوله
"أركان" للمنمنمات
منذ العام 2014، في شارع لبنان البيروتي العريق، حوّل المهندس المعماري المتقاعد غابي قمر، ومصممة الأزياء السابقة ندى عبدالله، أحد المحال في الشارع الحميم في قلب "مونو"، محترفاً مخصّصاً لفن المنمنمات أو النماذج المصغّرة المؤلّفة من كماليّات، يتراوح مقاسها من نصف إلى 10 سنتمترات. محترف تشرف واجهته على الطريق، وهو مؤلّف من قسمين متصلين، أحدهما تحوّل مشغلاً لغابي الذي ينجز يدوياً هذه الكنوز الصغيرة، والآخر صالة عرض لهذه العلب التي تحضن عوالم صغيرة مفتوحة على جميع الاحتمالات.
وكان غابي وندى يبحثان عن هواية يستطيعان من خلالها توظيف الطاقات الإبداعيّة التي يملكانها، بعدما تعب المهندس من وظيفته المضنية، ولم يعد تصميم الأزياء من أولويّات اللبناني، ومع ذلك كانت ندى بحاجة لتخلق ولتعير عروق شغفها للخلق.
فإذا بهما، وبدعوة من صاحب هذه الفسحة التي اعتاد تقديمها عبر السنوات إلى مختلف الفنانين، لتتحوّل مربض أحلامهم بمقرّها الشاعري في إحدى زوايا الشارع التاريخي، يقرران خوض هذه المغامرة الشهيّة بجنونها، ويطلقان على الفسحة اسم "أركان" في اللغة الفرنسيّة.
والكلمة تفيض بالغموض والأسرار وكل ما لا يمكن أن نفهمه ولكننا نشعر بانعكاساته علينا. وكان هذا الاسم التعبير الأقسى عن أبعاد هذه المجسّمات المصغّرة التي قد تحتاج إلى أشهر طويلة من التفكير والبحوث المكثّفة قبل أن تنتقل إلى مرحلة التنفيذ، فتولد على سبيل المثال غرفة الموسيقي الحميميّة المخصّصة للتمرين، أو مصيدة الكتب التي يبرعم الأبطال بين دفتي جنونها.
وبما أنها "سيرة وانفتحت"، فإن لغابي أسلوبه الشخصي في التعامل مع الكتب الصغيرة التي تستقر في هذه العلبة أو تلك، فهي تحمل بمجملها أغلفة حقيقيّة يحمّلها المهندس على الإنترنت، ويقوم بتصغيرها بواسطة الفوتوشوب ويطبعها لتستقرّ في حلّتها النهائيّة على الكتاب.
وولدت العلبة الأولى في المحترف الأقرب إلى عليّة منسيّة في منزل بعيد، بعدما قررا تفريغ جهاز راديو قديم ورواية مشهد في داخله. يعلّق غابي قمر ضاحكاً: "الراديو، في الماضي كان أشبه براوي القصص، وجرت العادة أن تجتمع العائلة حوله للاستماع إلى هذه القصص. ومن هنا ولد المشهد الأول". ولم يجد المهندس المتقاعد صعوبة في التعامل مع هذه المنمنمات التي يحتاج أحياناً إلى ملقط صغير ورفيع ليتمكّن من حملها، على اعتبار أن "الجيل القديم من المهندسين كانوا يصممون نماذج المنازل يدوياً. الخشبة، كنا نقصّها ونحفرها ونحفّها من دون مساعدة التكنولوجيا. عملنا كان يدوياً مئة في المئة".
نماذج للذاكرة وليست للعب
ولا يمل غابي وندى من التشديد بأن هذه المجسّمات الشديدة الدقّة تطالبنا بمنحها اهتماما خاصا، "ومن يختارها لا يأخذ معها بعض نماذج صغيرة يضعها أينما شاء في العلبة. هذه العلب تحتاج إلى الكثير من البحوث والتفكير والتخطيط قبل الانتقال إلى التنفيذ الذي أنجزه شخصياً بكل تفاصيله. وندى هي العقل المبدع خلف كل علبة، وهي تضع روحها فيها"
ويمضي غابي وندى الكثير من الوقت في الأسواق المتخصصة في المقتنيات القديمة والتي أعيد تدويرها، القائمة في مختلف المناطق اللبنانية، بحثاً عن الكماليّات التي قد يستعينان بها لتأليف القصص الكبيرة داخل العوالم الصغيرة.
ولأنهما يحاولان إعادة إحياء الحرف القديمة على طريقتهما، خصّصا علبة للمناشير القديمة التي تستعمل في المصانع، وأخرى للأدوات التي يستعملها صانع الأحذية، "وبطبيعة الحال، ألقينا التحية للخياط من خلال علبة مخصصة للمقصات بأحجامها المختلفة". أما صالون الحلاقة الرجّالي، فزيارة عالمه الصغير مسألة لا بد منها، لاسيما وأن غابي وندى يوليان التفاصيل الصغيرة أهمية كبرى، على اعتبار أن الشيطان يكمن في التفاصيل.
بالنسبة لغابي، فإن هذه الهواية أضافت الرونق إلى مرحلة التقاعد وجعلتها أكثر جمالاً. ففي حين أن البعض يستسلمون للمرض والخوف واليأس بعد التقاعد، تمكّن المهندس من أن يشعر بأنه ما زال ينتج ويبرع ويخلق أعمالاً قد يصل سعر العلبة الواحدة منها إلى 10 آلاف دولار.
"ولكن أعترف بأننا لم نبع أي شيء منذ عامين. في الماضي كان الزبائن في مجملهم أجانب يقدّرون هذا العمل اليدويّ المتعب. وواجهنا المشاكل مع اللبنانيين الذين يعتبرون أن الكماليّات المصنوعة يدوياً يجب أن تكون أسعارها زهيدة. بعض اللبنانيين لا يعتبرون المنمنمات من الفنون التي يجب تقديرها، ويضعونها في خانة الأعمال التي تجذب السيّاح. اليوم اللبناني الذي يستسيغ هذه الأعمال يعيش أزمة اقتصاديّة خانقة، والأجنبي الذي يعمل في البلد يحصل على جزء صغير من راتبه، ويتم تحويل الجزء الأكبر منه إلى بلده، نظراً لانهيار النظام المصرفي عندنا".
ويستعد الصديقان اليوم للمشاركة في أسبوع التصميم في دبي في شهر تشرين الثاني، ليوسّعا انتشار هذه العوالم الصغيرة.
وعندما يسألني غابي أية علبة تمثلني وتجعلني أختارها لأعيش فيها يوميّاتي، أخرج منها قليلاً إلى الواقع، وسرعان ما أعود إلى الأمان الذي تجسّده ببساطتها وجمالها، أضحك ولا أجيب بصراحة.
أراوغ قليلاً. وهو لن يعرف بأنني، أثناء المقابلة المشوّقة التي تقاسمنا خلالها فنجان قهوة وسيجارة أو اثنتين، كنت قد انتقلت إلى المطبخ المديد، ووضعت المريول حول فستاني الطويل، وبدأت أحضّر المشهيّات على صدى أصوات العائلة والأصدقاء الجانبية، وحركة الكلاب والقطط الشاردة التي وجدت في مطبخي أرجوحة الأحلام التي باتت أمنية بعيدة المنال. وبعد الإنتهاء من تناول الوجبة الافتراضيّة، قفزت إلى غرفة فان غوغ المجاورة لأدردش معه قليلاً، محاولة حل لغز هذه المزاجيّة وهذه الشخصيّة الصعبة المراس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 3 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت