لم يشعر بالمرارة ولم يستسلم، على الرغم من أنه انتظر 40 عاماً لتعترف به المدينة التي عشقها وتوغّل في حناياها، مُكتفياً بدور المُراقب الذي حفظها عن ظهر قلب، وتفهّم تقلّبات مزاجها، المدينة الجامحة التي تعرف بأنها "لا تنام".
عُرضت لوحات ابن الإسكندريّة، الفنان أحمد مرسي، لأول مرّة في مركز MoMA Ps1 عام 2021، ضمن معرض جماعي ضخم، شمل أعمال 47 فناناً آخر يصغرونه بأجيال عدة، حمل المعرض عنوان Greater New York ( نيويورك الكبرى)، حينها لم يتأثّر الناقد الفني، الشاعر، المُصوّر، مُصمّم الأزياء، الكاتب والفنان أحمد مرسي (مواليد الإسكندرية عام 1930) كثيراً، على اعتبار أن "الهديّة الحقيقيّة هي العمل"، كما يروي لي في حديث معه عبر البريد الإلكتروني إلى نيويورك التي يُقيم فيها وعائلته منذ العام 1974.
يكتب لي مرسي: "عندما تأتيني الكلمات، أكتب. عندما تأتيني الصور، أرسم. لا أقوم بأي مجهود. الأمر أشبه بالدعاء. وهذا كل ما يهم. اليوم أنا مُمتن لأنني أستطيع أن أرى عملي في المعارض في مدينة نيويورك لأنني غير قادر على السفر، وهذه أيضاً هدية".
تُنسب لوحات وقصائد أحمد مرسي الذي يصف نفسه بالانطوائي إلى "مدرسة الإسكندرية" المؤلّفة من مجموعة من الفنانين الشباب الذين كانوا أقرب إلى النجوم في أربعينيات القرن الماضي، والذين ارتبطت أعمالهم بالسرياليّة، متكئةً على التفكير الحرّ. كان مرسي بين عامي 1955 و1957 جزءاً محورياً من المشهد الفني المُزدهر في بغداد كناقد فني، وإثر عودته إلى مصر عام 1957، توغل في عالم تصميم الأزياء، وشارك في تأسيس مجلة Galerie 68 الطليعيّة، وكتب ما سُمي بأول دراسة باللغة العربية عن بيكاسو، كما ترجم أعمال الشاعرين الفرنسيين بول إيلورا ولويس آراغون السرياليّة إلى العربية.
الفنان المصري أحمد مرسي، حمل الإسكندرية في حقيبته إلى نيويورك التي تحولت إلى بيته الثاني، حيث يكتب الشعر، ويرسم شخوصه العائمة، ويراقب بصمت المدينة التي أصبح ربما، حارسها
انتقل مرسي وعائلته إلى مدينة نيويورك عام 1974، ولعب دوراً مهماً في تطوير النقد الفني العربي، وقدم تقارير عن التطورات الثقافية في الولايات المتحدة لأهم المطبوعات المصرية والكويتية واللبنانية، وما إن أقامت له مؤسسة الشارقة للفنون في الإمارات العربية المتحدة معرضاً استعادياً كبيراً في العام 2017 بعنوان A Dialogic Imagination(خيال حواري)، حتى أدركت نيويورك أنها كانت تتجاهل هذا الرجل الخجول الرائع الذي يعرفها جيداً، ومع ذلك اختارت في لحظة انبهار غير عابرة، أن تغض الطرف عن مُخيلته الشاهقة ومواهبه التي تنساب في كل الاتجاهات.
أقيم المعرض الأول الذي ظهرت فيه أعمال مرسي نهاية عام 2021 في غاليري Salon 94، تبعه الثاني المُستمر حتى 18 أبريل – نيسان في مركز MoMa Ps1 للفنون الذي تم إلحاقه بمتحف الفن الحديث (MoMA) منذ يناير/كانون الثاني 2000، يجدر بالذكر أن هذه النسخة من معرض Greater New York هي الخامسة، بعد تأخره عاماً كاملاً بسبب جائحة كورونا، وعادة ما يُقدم هذا المعرض السنوي صورة حميميّة عن نيويورك، من خلال مُخيلة عشرات الفنانين الذين يعرفون زواياها (ونواياها!) جيداً، ويستطيعون سرد جنونها باستخدام أكثر من وسيط.
أحمد مرسي في مرسمه في القاهرة، 1958
يؤكد لي مرسي أن نيويورك التي يعيش قصة حبه اليوميّة معها منذ أكثر من 40 عاماً، "تُقدم الملاذ الآمن لانطوائي مثلي، هي أشبه باللوحة الكبيرة المؤلفة من معابد تؤمّن لي فرصة زيارتها والتعامل معها وكأنها الملاذ الآمن: المتاحف، الغاليريهات، المسارح، دور السينما، قاعات الموسيقى، المكتبات المحليّة، مقاهي الرصيف، شوارع مُخصصة للمشي... نيويورك هي المكان الذي أتجوّل فيه وحيداً، دون أن أشعر بالوحدة".
نيويورك ملاذ آمن للانطوائيين، يتجول فيها أحمد مرسي وحيداً دون أن يشعر بالوحدة
المدينة الجميلة والقاسية في ذات الوقت هي منزل مرسي، إذ يقول: "أتحرك بحريّة في الأمكنة التي تُضيء عادةً الظلمة: وأعني بطبيعة الحال الأحياء الصغيرة والمكتبات التي أخرج منها بكنز أدبي أو اثنين، وفي المقاهي القائمة على الأرصفة، حيث كنت أجلس لأفرّغ على الورق القصائد التي ملأت رأسي. وفي المتاحف حيث كنت ألتقي بأساتذتي والأصدقاء. وقاعات الموسيقى حيث كنت أشاهد الحفلات الحيّة للأوبرا التي كنت أستمع إليها أيام الصبا في الإسكندرية"، ومن هذا المُنطلق، فإن حياته اليوميّة التي نسجها قصّةً في نيويورك ليست إلا "استمرارية لعلاقته بالإسكندرية"، حيث كانت طقوسه مُماثلة، فـ"الإنسان غير مُلزم بمكان مُعين"، وعندما ينسج المرء طقوسه الصغيرة في المكان، "يُصبح أقل غُربة في البلد الغريب".
كائنات مرسي الطافية
يرى مرسي الذي تقطن لوحاته الكائنات التي تعوم فوق الأيام، ولا وقت لديها لتكشف عن جنسها، أن لديه "منزلين: الإسكندرية ونيويورك"، ويضيف: "الأول هو مكان مولدي ومدينة الصبا، مدينة قد أكون هجرتها منذ أعوام طويلة. لكنها لم تتخل عني، الإسكندرية حاضرة باستمرار في أعمالي، ذكرياتي وذكرياتي المُتخيلة عن هذا المكان الفريد مُعبأة في حقائب السفر الخاصة بالمنفيين، أي حقائبي. المسألة كانت أقرب إلى لعنة. أن يُسافر المرء كل سنة بحثاً عنها، ليكتشف أن هذه الكلمات والصور والأفكار التي تمسّك بها وهميّة ومُراوغة. أحياناً أسأل نفسي ما إذا كانت الإسكندرية في الحقيقة منزل خيالي. ومع ذلك، أعيش معها في مُخيلتي في نيويورك".
الكائنات الغريبة التي تقطن لوحات هذا الرجل الانطوائي، الذي ما زال حتى الساعة يعشق زوجته، وكأن اللقاء الأول كان منذ بضع دقائق، ليست إلا ابنة لمُخيلته، إذ يكتب لي: "تذكري أن الإسكندرية التي تخصّني مكان قديم يستريح على الأساطير التي يسكنها الإنسان والكائنات الغريبة في آن. ومُخيلتي بجذورها التي تُراقص التاريخ، هي الفُسحة التي يحتمي فيها الانطوائي الذي يسكنني. وهي بكل تأكيد الامتداد الطبيعي للحقيقة المُتخيلة".
"العشاء الأخير"، 1996، المتحف المصري للفن المعاصر
الشعر والرسم بالنسبة لهذا الرجل الذي قد ينتمي إلى أسطورة أو حكاية خُرافية شكل "من أشكال التعبير التي تنتمي إلى لغة واحدة"، إذ يقول: "عادةً، أختار وسيلة تعبير واحدة لأتحدث من خلالها لحظة الإلهام. أعطي نفسي كاملةً لإحداها. الانطوائي الذي يسكنني يحتاج إلى أدوات مُماثلة. هي أشبه بالقناع الذي أتحاور من خلاله وأختبئ خلفه من دون أن أكشف عن جسدي العاري".
أحمد مرسي: نعيش حياة ثرية وكاملة عندما نضطلع بدور الشاهد، أو حين نختار ديناميكيّة الصمت. هي الطريقة الأفضل التي يستطيع من خلالها الانطوائي أن يتواصل ببراءة مطلقة مع العالم الخارجي
حارس نيويورك الصامت
يُعرف عن أحمد مرسي أنه اضطلع لسنوات طويلة بدور المُراقب لنيويورك، يقول: "في الواقع، نحن نعيش حياة ثرية وكاملة عندما نضطلع بدور الشاهد، أو عندما نختار ديناميكية الصمت. هي الطريقة الأفضل التي يستطيع من خلالها الانطوائي أن يتواصل ببراءة مُطلقة مع العالم الخارجي".
قام أحمد مرسي "بزيارة أعماله" بعد أن انتقلت من منزله النيويوركي إلى الفُسحة المُخصصة لتذوّق الفن جماعياً، أي صالة العرض، ويؤكد قائلاً: "عندما أنظر إلى أعمالي، أخرج عن دائرة عالمكم. حواسي تتفاعل كاملةً مع اللوحة، سواء كنت في الأستوديو الخاص بي أو في أحد المعارض، ثمة لوحات لا أزورها مجدداً بعد توقيعها، ولوحات تخضع لتحولات جذرية مع مرور السنين، ما من قواعد محددة لأن في الواقع ما من عملية خلق محددة". هي رحلة داخلية وشخصيّة "أستسلم لها كلياً".
طقوس مرسي في الكتابة أقرب إلى رواية إذ يصفها قائلاً: "خلال المراهقة كنت أهرب من المدرسة وأذهب إلى الإسكندرية بواسطة (الترام) وأجلس في مقهى على الرصيف، وأكتب. نادراً ما كتبت الشعر في المنزل. في نيويورك، جرت العادة أن نتوجه كل سبت أنا وزوجتي أماني إلى الويست فيلادج في الباص، أماني تجلس بالقرب من زر التوقف.، وما إن يتحرك الباص، حتى أغمض عيني وأنصهر بالأسطر التي تنساب إلى مخيلتي. كانت أماني تنقر على كتفي ما إن تضغط على زر التوقف. ننزل بعدها من الباص ونجلس في مقهى (ريجيو) حيث كنت أطلب الاسبريسو وبعض المحارم، و في جيبي لطالما رافقني قلم. بعدها أبدأ عندئذ عملية تفريغ القصائد من مخيلتي على المحارم، أماني كانت تُذكرني دائماً بألا أرمي المحارم. في المنزل، كنت أنقل القصائد من المحارم إلى دفاتري المخصصة للشعر. أنسى ما أكتب من شعر كلياً ما إن أفرّغ القصائد من ذاكرتي، لحسن الحظ لم أحفظ يوماً أي قصيدة. حتى قصائدي".
من اليمين :"الحصان المُحب"، 1984/ "امرأة"، 1980/ "السمكة السوداء"، 1984.
يمكن وصف أماني زوجة مرسي بأنها عروسة شعره، إذ يقول: "أعتبر نفسي من المحظوظين لأن أماني أكثر من مصدر للإلهام أو جمال نُقدّره من بعيد. هي شريكتي في العديد من مشاريعي. هي ذكية جداً، قارئة مُجتهدة من الطراز الأول. مُتمكنة من اللغة لدرجة أنها الوحيدة التي ألجأ إليها وأثق بها لتقرأ وتُدقق في الأعمال".
نداء الشعر المفقود
يصف مرسي بغداد قائلاً: "أهدتني بدايتي في النقد الفني الذي أخذته معي إلى القاهرة وبعدها نيويورك، أنا مدين لها. بغداد في الدرجة الأولى قدمت لي صداقات حقيقية استمرت عقوداً، وولدت منها شراكات عدة". وجد مرسي في بغداد قهوة الاسبريسو اللذيذة والشهيّة، وكانت من التفاصيل التي أقنعته بالبقاء فيها لعامين، هو الذي يعيش مع هذا النوع من القهوة علاقة جميلة "مُلتزمة".
اليوم يمضي أحمد مرسي الوقت في منزله النيويوركي، يقرأ ويستمع إلى الموسيقى مع أماني بشكل متواصل، لا يشعر بالمرارة أو الحقد لأن المدينة التي يعرفها جيداً تجاهلت سحره لأكثر من 40 عاماً.
"في انتظار القطارات"، 1987
فقد مرسي صوت الشاعر الكامن في داخله عندما اندلعت حرب" الأيام الستة" (النكسة) عام 1967، وقام أثرها بإقفال مجلّته الطليعيّة، يقول "الحرب سحقتنا جميعاً"، لكن بعد 29 عاماً، عاد الشاعر النائم في حنايا الرجل الانطوائي الخجول إلى الواجهة، عندما طلب منه صديق طفولته، الكاتب المصري والناقد إدوار الخراط، أن يكتب قصيدة ليقرأها في عيد مولده الـ70. اكتشف مرسي حينها أن الشاعر داخله لم يتخل عنه، تماماً كالإسكندرية التي حملها معه إلى نيويورك في حقيبة المنفيين، ومازالت تُهدهد أي انكسار قد تكون الأيام قد تسببت به، وإن كانت في الواقع من نسج مُخيلته. فهي وهم جميل تماماً كالحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...