هي تجربة تتجاوز مفهوم الرحلة الاعتيادية إلى حد بعيد، لتصير مونودراما حقيقية، نحن أبطالها وساردو أحداثها العجائبية والسحرية لذواتنا التي سوف نتصطحبها معنا وحدها في الحقيبة، سالكين طريقنا في مشاهداتنا وعُزلتِنا.
الأمر ببساطة أننا نتحلل من أثقال المدنيّة الزائفة، ونغادر الخط الحضاري الأسود (طريق الأسفلت)، لنبحر إلى الصحراء البيضاء المصرية في الوادي الجديد (500 كيلومتر جنوب غرب القاهرة)، وجارتها الصحراء السوداء، مروراً بالواحات البحرية (365 كيلومتراً من القاهرة)، لنجد هذا العرض المسرحي قد انطلق من تلقاء نفسه في حضن الطبيعة الأم. ولن تنتهي تأملاتنا وسردياتنا حتى تغتسل تماماً بالضوء الأبيض، من كل ما يعترينا من المعاناة اليومية، والتلوث، والشوائب العالقة.
لا سقف للخيال، ولا حاجز للتصوّر ونحن نغادر الضجيج والأدخنة في مدن الزحام إلى هذه الأمكنة الفضاء المستحيلة، التي تراهن على بكارتها ونقائها رغم تشكّلها منذ 80 مليون سنة، كواحدة من أندر المناطق في العالم كله، وأغرب الظواهر الجيولوجية عبر التاريخ.
وعلى الرغم من أن أهميتها الحضارية والسياحية والأثرية والعلمية والإنسانية لا تقل بشكل من الأشكال عن أهرامات الجيزة؛ إحدى عجائب الكون السبع، فإنها لا تجد الاهتمام الكافي والدعاية اللائقة من الجهات الرسمية المصرية، في حين تحرص الوفود الأجنبية على زيارتها، وبعض المهتمين من المصريين والعرب، من خلال برامج الرحلات التي تنظمها الشركات الخاصة.
لا سقف للخيال حين نغادر الضجيج والأدخنة في مدن الزحام إلى هذه الأمكنة الفضاء المستحيلة، التي تراهن على بكارتها ونقائها رغم تشكّلها منذ 80 مليون سنة
تنفرد الصحراء البيضاء (حوالي 3000 كيلو متر مربع) بمظاهر وتفاصيل متنوعة تجعلها من أكثر المزارات خصوصية وتفرّداً بين المحميات الطبيعية. هي مملكة اللون الأبيض بامتياز، نهاراً وليلاً، حيث تكسوها الرمال البيضاء وصخور الأحجار الجيرية والطباشيرية والتكوينات الجيولوجية الفريدة وبقايا الحفريات، وتنعكس أشعة القمر في المساء على أرضها ناصعة البياض. كما تخزّن بعض صخورها، بسبب تكوينها الفريد، أشعة الشمس خلال فترة النهار لتعيد بثها في الليل، في محاكاة كاملة لما يفعله القمر نفسه.
كل شيء أسطوري في الصحراء البيضاء، فالصخور الطباشيرية الضخمة النادرة ليست مجرد صخور، لكنها تماثيل عملاقة تشكيلية، تستعمر الفراغ، نحتتها يد الطبيعة المبدعة. هناك الصخرة التي على هيئة طائر، والتي على شكل حيوان، والتي تشبه تمثال "أبو الهول"، والتي تماثل إنساناً، والتي تحاكي شجرة، والتي تصير مظلة يستلقي تحتها العابرون.
وفي هذه الحديقة الجيولوجية الواسعة، أو المتحف المفتوح، تنتشر الكثبان الرملية والوديان والتكلسات الرملية التي ترجع إلى 80 مليون سنة، والغطاء النباتي الكثيف الذي يجتذب الأحياء البرية، والآثار والأدوات والمومياوات والحفريات التاريخية والمقابر والكهوف.
ويضم مسرح المحمية الطبيعية كذلك الكثير من الحيوانات البرية والطيور المهددة بالانقراض، ومن بينها: الثعالب، والغزلان البيضاء، والكباش، والزواحف، والعقارب الصفراء، والغربان، والهداهد، إلى جانب الأشجار والنباتات الصحراوية المتنوعة، مثل الأكاسيا، والزيتون، والنخيل، والزعتر، وغيرها.
ووسط الصخور التي تشبه ثلوج القطب الجليدي المتجمد، هناك جبل الكريستال اللامع، أحد أشهر الجبال فى الصحراء الغربية، ويضم عشرات الأشكال والأنواع من الكريستال الخالص، وحوله تتناثر آلاف القطع البلورية والزجاجية، التي تتلألأ بألوان مبهرة فوق صفحة البياض.
ويعيد بعض الجيولوجيين هذه الظاهرة إلى اصطدام نيزك عظيم بالأرض، حيث تولدت حرارة مرتفعة للغاية، ما أدى إلى انصهار الصخور، وتحولها إلى قطع من الكريستال الحر. كما يتصور آخرون أن الصحراء البيضاء كانت في القديم بحراً كبيراً، وهذا ما يفسر احتواءها على قواقع وحفريات بحرية وشعاب مرجانية متحجرة وبقايا أسنان سمك القرش.
وفي مشهد آخر من تجليات مسرح الصحراء، هناك الصحراء السوداء، على مقربة من جارتها البيضاء في محافظة الوادي الجديد. وتنظوي هذه المنطقة على ظاهرة من أغرب التضاريس الصحراوية في العالم بأسره، حيث أدت عوامل التعرية إلى تآكل الجبال، لتغطي الصحراء بطبقة من الصخور والنثارات السوداء، وذلك بالإضافة إلى التلال البركانية التي ثارت منذ آلاف السنين مخلفة المواد البركانية الداكنة.
لا تزال هذه الواحات المصرية العتيقة، تحمل أسرارها وكنوزها وصفاتها العجيبة والفريدة حتى اللحظة الراهنة، وتشكل على وجه الخصوص مقصداً للسياحة العلاجية والاستشفائية
وإلى مشهد مسرحي آخر أكثر فانتازية، من المؤكد أنك ستعيشه وحدك وتسرده لذاتك أيضاً كبطل لهذه المونودراما الممتدة. ففي طريقك إلى صحارى الوادي الجديد ومحمياته، سيكون للواحات نصيب، حيث واحة الفرافرة، والواحات البحرية، في الصحراء الغربية. وهنا، تنكشف الستار عن جنة الديناصورات أو "حديقة الديناصورات"، باستعارة تسمية سلسلة أفلام المخرج الأميركي ستيفن سبيلبرغ.
ففي هذه الواحات المصرية، الغنية بالينابيع الطبيعية والمياه الجوفية والزراعات وسائر عناصر الخصوبة ومقومات الحياة منذ ملاين السنين حتى اليوم، كانت تعيش الديناصورات حياتها الهانئة، وجرى العثور على الكثير من أحافيرها، ومنها أضخم ديناصور مكتشف عالميّاً بارتفاع يبلغ 30 متراً، في منطقة الواحات البحرية. ومعروف أن الديناصورات قد انقرضت مع نهاية العصر الطباشيري-الباليوجيني منذ 65 مليون سنة.
ولا تكاد تنتهي الاكتشافات الأثرية والتاريخية في الواحات، حيث كانت منطقة جاذبة للبشر عبر سائر العصور. ومن أبرز ما جرى الكشف عنه بها وادي المومياوات الذهبية، الذي يرجع إلى العصر الروماني، ومقبرة حاكم الواحات البحرية وعائلته، التي تعود إلى العصر الصاوي (عصر الأسرة الـ26 الفرعونية).
ولا تزال هذه الواحات المصرية العتيقة، تحمل أسرارها وكنوزها وصفاتها العجيبة والفريدة حتى اللحظة الراهنة، وتشكل على وجه الخصوص مقصداً للسياحة العلاجية والاستشفائية، وذلك بما تتضمنه من الينابيع والآبار ذات المياه الكبريتية، المفيدة لمرضى الروماتيزم والأمراض الجلدية، وغيرها من العلل البدنية، والأسقام الروحية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...