ثّمة رأيّ شائع بأنّ الكتابة، لا يُمكن لها أنْ تستقيم بمعزلٍ عن سيجارة بين الأصابع، ينفثها الكاتب في كآبةٍ وشرود، وتغزلها رياح المساءات في صمتٍ. كان هذا عرف الكتابة في ما سبق، فيحرص الكتّابُ دوماً على الاختلاف بمُمارساتهم وسلوكاتهم وتفكيرهم ولباسهم وثورتهم أحياناً على أنفسهم قبل الآخرين.
لذلك يُسجّل المخيال الشعبي وتقاليده الأدبيّة المعاصرة صورة نوستالجية عن كتّاب كبار، لا نتذكّر منهم، إلاّ لحاهم الطويلة المُسربلة، أو معاطفهم الهشّة المُهترئة، وكأنّ في هذا الشكل الخارجي، تتأسّس شرعية الكتابة، وتُكرّس الشهرة، لا باعتبارها صادرة عن موهبةٍ أدبيّة حقيقية أحياناً، بقدر ما وهجها طقوس الكتابة لدى الكاتب وصُوَره "الغريبة" داخل واقعه واجتماعه.
لكنْ بغض النّظر عن هذه الطقوس وفضاءاتها الآسرة المُتنوّعة، بين المقاهي والحدائق والأرصفة والحانات، شكّلت السيجارة أسلوب حياة جديدة بالنسبة للكتّاب، ونمطاً مُغايراً في تقديم أنفسهم كمُبدعين؛ لذلك ثمّة كُتاب في العالم، لا نعرفهم إلاّ من خلال سجائرهم أو غليوناتهم وفوضاهم وسخريتهم ونقدهم اللاذع لبعض الظواهر الاجتماعية خلال حقبةٍ تاريخية مُعيّنة.
ذلك يعني أنّ السيجارة، ليست ظاهرة اجتماعية بالنسبة للكتّاب، تشبّعوا بها من خلال واقعهم، بقدر ما تُمثّل حالة وجدانية مُتخيّلة، توهم الكتّاب/الشعراء/الفنّانين بأنّهم أشخاص مهمين يُفكّرون في مآسي الناس وآلامهم، على الرغم من أنّ السيجارة في الزمن المعاصر ليست إلاّ موضة ثقافيّة، يعمد إليها الكتّاب لإضفاء بعض الرمزية أو الهالة على أجسادهم ككتّاب في نظر الآخرين ووجدانهم، أو بحكم ما تُمارسه من سحر على أجسادهم، خاصّة في اللحظة التي تتمازج فيها مع القهوة أو الشراب، فتُعطي للمُتذوّقين لذة لا تُقاوم، وإحساساً فريداً بجدوى التفكير والكتابة والتأمّل والإبداع.
ليس كل كاتب مُدخّناً بالضرورة، وربما تندرج الظاهرة بحدّ ذاتها في إطار التباهي أو الاستعراض... هدى الهرمي
شخصياً، بدأت علاقتي بالسيجارة منذ دراستي الجامعية، وأعتقد أنني انشغلت بها في ذلك الوقت، لا كنوعٍ من الإدمان، بل فقط كاعترافٍ بالذا،ت وتكريس صورتي ككاتب مختلف بين أصدقائي، في اللحظة التي بدأت فيها صُوري الشخصية، تظهر على صفحات الجرائد والمجلاّت على طول العالم العربي.
وما زلت أتذكّر إلى اليوم سجائري الرخيصة البيضاء، التي رافقتني لحظة القراءة والكتابة داخل مقاهٍ لا أحتفظ منها إلاّ بصوَرٍ مُتشظية عن لحظات قويّة، جعلتني أكتشف في نفسي مرارة الزمن، وسرّ الكتابة، ولذّة القراءة، وأكوّن نفسي فلسفياً وتاريخياً وموسيقياً وسينمائياً، بعيداً عن مدرّجات الجامعة، وما كان يدور في فلكها من موضوعات فكريّة ماضوية.
عن سرّ السيجارة وطقوسها وعاداتها ومكانتها بين الكتاب والمبدعين، كانت لـنا هذه الوقفة الخاصّة مع جملةٍ من الكتاب العرب:
هدى الهرمي - كاتبة تونسية
"ليس كل كاتب مُدخّناً بالضرورة"
عادة التدخين أثناء الكتابة تعني الإحالة على مجموعة من التجارب والممارسات التي تندرج في إطار اجتماعي بحت، لكنه شبه وطيد بالنسبة للكتاب العرب في حقبة ما، فقد تعلق العديد منهم بالسيجارة، لاسيما وأن أهم الروائيين والشعراء متفقون عليها "كملهمة" وربما تغدو ذات سلطة في مدلولها الثقافي ليتجلى في طقس مهم لاستحضار الابداع.
فقد جذبت السيجارة كتاباً عرباً كثيرين، مثل محمد الماغوط، غسان كنفاني، محمد شكري، محمود درويش، وسعدي يوسف، وغيرهم من الأدباء. ومن الصعوبة حصرهم، وهو ما يسمح ربما بتعميم الظاهرة، وإن كان ثمّة فرق واضح بين الماضي والحاضر.
وليس كل كاتب مُدخّناً بالضرورة، وربما تندرج الظاهرة بحدّ ذاتها في إطار التباهي أو الاستعراض. فقد تعدّدت الآراء في تصنيفها، غير أنها تحيل إلى اقترانها بالعملية الإبداعية، وربطها بالنضج الفكري رغم آثارها السلبية. واعتبرها البعض وسيلة للتركيز والتماهي مع الصور الذهنية المؤدية لفعل الكتابة بإثارتها للأحاسيس، وزيادة القدرة على ابتكار افكار خلاّقة. لذلك ارتبطت الصور الفوتوغرافية لمعظم الأدباء العرب بسيجارتهم أو غليونهم، وكأنها موضة عصرهم آنذاك، أو رمز للوجاهة في العالم الخارجي، والوسط الثقافي.
ويبدو أن هذه العادة تقلصت جداً، أو بالأحرى انسحبت تدريجياً في الزمن المعاصر، لتفسح المجال لظهور طقوس أخرى تختلف من كاتب لآخر؛ مثل اللجوء الى أمكنة معينة، أو الهروب إلى العزلة. وقد تتمثل أيضاً في سلوكيات معينة مثل طريقة اللباس، واعتماد القبعة فوق الرأس أغلب الوقت. لكن هذا لا يعني هذا أن السيجارة قد عفى عنها الزمن. ومهما يكن من ظهور ممارسات جديدة في الوسط الثقافي العربي، إلا أنها ظلّت ذلك السلوك المثير، وجزءاً من مظهر الكاتب بوعي أو من غير وعي.
علي البزاز- كاتب عراقي
"السيجارة، لا تخضع سوسيولوجيّاً إلى مفهوم الطقوس"
يَعتبر بعضُ الكتّاب والفنّانين السيجارة (التدخين) كمساهمة بالاندماج الطقسي في الكتابة، بغية التركيز وشحذ المخيلة، وهناك صور لكتّاب وفنّانين مع السيجارة، دخلت كمفردة في الثقافة والسينما والفنّ التشكيلي؛ مثل لوحة "الغليون" للفنّان البلجيكي رينيه ماغريت، لكنّها كعادة أو لنقل "طقس" يرافق العملية الإبداعية، لم يأتِ عبر تصوّر سوسيوثقافي، كتلك الطقوس والعادات المرافقة للشعائر الدينية أو الرياضية، مثل تشجيع كرة القدم، إنّما هي "عادة" أو "طقس" نفسي أو كتابي خاصّ بكتّاب دون سواهم، ولا يمارسه كتّاب كثيرون، بخلاف الشعائر الآنفة، إذ يمارس طقوسها كلُّ المُنخرطين بها.
وهكذا، فالسيجارة، لا تخضع سوسيولوجيّاً إلى مفهوم الطقوس والعادات بشكله المتعارف عليه. انتشر استعمال السيجارة ما بين الكتّاب والفنّانين كموضة، أو كإشهار إلى أن المعني هو كاتب أو فنّان، اقتفاءً لوسائل التسويق التجاري، فهناك تسويق اقتصادي، وآخر ديني، وثقافي، وإن بدا محدوداً أو محصوراً للغاية، ولكنّه يظلّ تسويقاً، في حسابات السوق.
"انتشر استعمال السيجارة ما بين الكتّاب والفنّانين كموضة، أو كإشهار إلى أن المعني هو كاتب أو فنّان، اقتفاءً لوسائل التسويق التجاري، فهناك تسويق اقتصادي، وآخر ديني، وثقافي"... علي البزاز
وعليه، تدخل السيجارة، ضمن مجال الإعلان الثقافي الشخصي، لكنّها "كطقس كتابي" تمضي نحو الانحسار لأنّها بدأت، كما اعتقد، مرتبطة بالكتابة بالقلم، وكعلاقة مع كتابة يدوية تحديداً، وليست تقنيّة (الكمبيوتر والهاتف).
الكتابة بالقلم لها تفكيرها وطقوسها، وبغية استنفار واستثارة حميمية القلم، إضافة إلى صعوبة الحصول على المعلومة خلافاً للكتابة في الكمبيوتر، يلتجئ الكاتب نفسيّاً إلى التدخين إعانةً له.
وعندما تتغير وسائل الكتابة، ستتغير حينئذٍ العادات المرافقة لها؛ مثلاً، الكتابة في الكمبيوتر، تسمح بالجلوس بالمقهى أو المكتبة، اللذين يشترطان عدم التدخين، فيلتجئ الكتّاب إلى التدخين في ساحة مخصّصة لذلك، وهنا تمّ فكّ ارتباط السيجارة مع الكتابة، فلم تعد السيجارة هكذا، كطقس كتابي. وهذا جاء نتيجة التقنيّة التي ستفرض شروطها على الوجود برمّته! في المقابل، ستجلب التقنية (الكمبيوتر)، عاداتها وطقوسها لاغيّة أخرى، والسيجارة، ليست بمنأى عن ذلك التغيير.
شاكر الأنباري- كاتب عراقي
"هناك متعة خفية ترافق التدخين"
التوحد مع الكتابة يثير في نفس الكتّاب انفعالات عميقة، ويجعلهم في تواصل مع ذاكرتهم وخزينهم المعرفي، وهذا يدفعهم كي يتوحد مع ذاته فقط، وهو أمر معروف لدى كتّاب النص الإبداعي من شعراء وروائيين ومسرحيين وغيرهم، ولعل القلق هو أبرز ما يستولي على الكاتب في هذه الرحلة الفردية.
وثمة دافع خفي معظم الأحيان لتفريغ هذه العاطفة غير المدركة، والسرية والغامضة، عبر عمل شيء مادي؛ فعل ليس له علاقة بعنفوان الذاكرة والخزين المعرفي والصوري، أي حرق شيء بعينه، وإخراج هذا الشعور.
وليس سوى دخان السيجارة ما يطفئ ولو قليلاً من القلق، ويديم تواصل المبدع مع عالم المحسوسات. بحرق التبغ وتحويله إلى دخان، ثم نفثه إلى العالم الواقعي، المهدد أحياناً، والعدائي أحياناً أخرى، يخلق نوعاً من التوازن بين الخارج والداخل، بين تصورات الكاتب ومحيطه.
وهكذا يترافق إفراغ الأفكار، والصور الذهنية، والكلمات المتلاطمة على الشاشة أو ورق الكتابة، مع إفراغ القلق والتوحد والانفصال عن الواقع مع الدخان، فيصبح الأخير حلقة وصل بين الكاتب وغربته الوجودية. وكلما زاد قلق الكتابة زاد الظمأ إلى الدخان.
من يتأمل حرق التبغ ونفخه في الفضاء، وربط كل ذلك بالتفكير، والتركيز، والقلق، يجد أن العلاقة غير منطقية، فهي لا تعدو أن تكون عادة مزعجة، ومؤذية، لا تضيف شيئاً لقدرة الكاتب على الإبداع... شاكر الأنباري
ومن خلال تجربتي الشخصية مع التدخين دأبت على استهلاك كمية أكبر من السجائر كلما طالت لحظات الكتابة، وزاد توترها وعمقها. وأحياناً لا أجد سبباً مفهوماً يدفعني إلى زيادة التدخين، لتصبح العملية تشبه الحركة غير الواعية تستولي عليّ، وتدفعني لمد أصابعي إلى علبة الدخان.
أما إذا اكتسب بعض المبدعين عادة تناول الكحول أثناء عملية الكتابة الابداعية، وهو أمر شائع شرقاً وغرباً، وفي معظم الثقافات، فتصبح السيجارة رديفة لا بد منها للاستمرار بمواصلة الجلوس نحو النص المبدع، بصبر وأناة ونسيان لمرور الزمن. وقد ينسى المبدع كل التعاليم، والتوصيات المعروفة عن الضرر الهائل لعادة التدخين، خاصة إذا كان مفرطاً وغير منطقي، وتوحد مع سيجارته ونصه فقط. فمن يتأمل حرق التبغ ونفخه في الفضاء، وربط كل ذلك بالتفكير، والتركيز، والقلق، يجد أن العلاقة غير منطقية، ولا مبرر لتلازمهما، فهي لا تعدو أن تكون عادة مزعجة، ومؤذية، لا تضيف شيئاً لقدرة الكاتب على الإبداع.
ومع كل تلك الحقائق المرافقة للتدخين، وعلاقته بالكتابة، فإن هناك متعة خفية ترافق التدخين، ربما جاءت بسبب تأثير مادة التبغ، وما فيها من مكونات طبيعية على الدماغ والأعصاب، حيث يخلق شيئاً من حالة الخدر في الفرد، وينقله إلى فضاء اليوتوبيا، إلا أن التدخين يبقى عادة مضرة يمارسها البشر دون وعي أحياناً، ودون التفكير بآثارها القادمة على الجسد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع