لم يخب ظني حين شاهدت فيلم "واحد تاني" الذي عُرض في عيد الفطر الماضي، 2 أيار/مايو 2022. إذ أعاد الفنان المصري أحمد حلمي إلى صدارة شباك التذاكر والإيرادات، متجاوزاً نجماً مصرياً آخر، هو أحمد السقا، الذي تميّز بفيلمه الجديد "العنكبوت". ورغم انقسام الآراء حول مدى جودة جديد حلمي مقارنة بأعماله السابقة، اتفق الجميع على أنّ عودته كانت حميدة، بخاصة بعد غيابه ثلاث سنوات.
كيف تمكّن حلمي من أن يظل ممثلاً كوميدياً ناجحاً لنحو عقدين من الزمان؟
بعيداً عن تلك التقييمات وبعد انتهائي من مشاهدة الفيلم، تساءلت: كيف تمكّن حلمي من أن يظل ممثلاً كوميدياً ناجحاً لنحو عقدين من الزمان؟ أهمية السؤال تأتي من المسارات المختلفة التي اتخذها رفاقه من نجوم الألفينيات الذين قادهم الفنان المصري، محمد هنيدي، ودشّن بهم عصراً جديداً للشاشة. واتخذ كلّ فنان من هذا الجيل مساره بحسب إمكانياته وموهبته. فوجدنا محمد سعد وهاني رمزي في الكوميديا. وأما هاني سلامة وخالد النبوي، فنجدهما في الدراما. فيما ذهب أحمد السقا ومصطفى شعبان لأدوار الأكشن. وبعد تأمل، نجد أنّ الكثيرين منهم اضطروا إلى تغيير مسارهم والخروج عما اعتادوا تقديمه والقبول بأدوار لم يقتربوا منها من قبل. كل ذلك للبقاء في الصورة المتميزة، أو ربما لرغبة داخلية لتغيير طبيعتهم الفنية.
لكن هذا التغيير لم يضطر إليه أحمد حلمي الذي تأخر قليلًا عن هذا الجيل. وقدّم نفسه في سنواته الأولى كممثل كوميدي تقليدي وصاحب تعبير جسدي مُضحك، وهي تجربة استمرت معه حتى عام 2006. ومن خلال بقائه في هذا الدور، أثبت حلمي نفسه واكتسب ثقة المنتجين كبطل قادر على منافسة زملائه. وبذلك، اختار طريقه الذي برع فيه وأوصله للقمة، وهو طريق "الكوميديا السوداء". المقصود بالمصطلح هو مناقشة أصعب المشكلات التي يعانيها الإنسان بطريقة كوميدية تجعلك لا تعرف أتضحك على الموقف أم تبكي. وفي مثل هذا النوع من الكوميديا، الفكرة هي المغزى وليست المواقف المثيرة للضحك. بعد أفلام كرّس فيها بطولته، قدّم حلمي فيلمي "جعلتني مجرمًا" و"مطب صناعي"، ناقش فيهما ما يحدث للشباب في مقتبل أعمارهم من ضياع نتيجة الأحلام الكبيرة وعدم وجود الفرص المناسبة التي تُطلق قدراتهم الإبداعية، وكيف أنّ الإيمان بالقدرات والثقة في النفس هما أساس النجاح في الحياة.بعد أفلام كرّس فيها بطولته، قدّم حلمي فيلمي "جعلتني مجرمًا" و"مطب صناعي"، ناقش فيهما ما يحدث للشباب في مقتبل أعمارهم من ضياع نتيجة الأحلام الكبيرة وعدم وجود الفرص المناسبة التي تُطلق قدراتهم الإبداعية
بعد ذلك، طوّر حلمي من آدائه، وصار أكثر جرأة في ظل إيرادات متصدرة شباك التذاكر دوماً، بالإضافة لتعمقّه في الاضطرابات والأمراض النفسية الأكثر خصوصية وتعقيداً. وفي تلك الأثناء، ظهر فيلم "آسف على الإزعاج" عام 2008 ليناقش فيه مرض الفصام النفسي وتأثيره على حياة الإنسان، بجانب مواصفات الشخصية الانعزالية وقدرتها على التعايش وسط الناس. ورغم صعوبة موضوع الفيلم، فقد قُدم بشكل كوميدي ونجح جماهيرياً، ما أكد لحلمي نجاح خلطته التي ظل مصمماً عليها في الأعمال التالية كـ "عسل أسود". وفي فيلمه الأخير "واحد تاني"، تناول حلمي قضية الإنسان الذي يفقد شغفه في منتصف العمر فيقرر أن يستعيده. ويوضح الفيلم أنّها إشكالية صعبة وحلها ليس بالأمر الهين وليس هناك زر يعيده إلينا، بل يستلزم جهداً يجب أن يبذله المرء.
تلك الخلطة التي اختارها أحمد حلمي ولم يحد عنها، حتى في ظل خفوت نجوميته قليلاً في بعض الأفلام، مثل "ألف مبروك" و"خيال مآتة"، وضعته في مكانة وحده. فالجمهور وجد فناناً فريداً يستطيع مناقشة أعقد اضطراباتهم النفسية بأبسط المواقف المفهومة، محققاً المتعة العقلية والحسية معاً. وأصدق دليل على ذلك، هو فيلم "إكس لارج" الذي ناقش فيه حلمي تحديات أصحاب الوزن الزائد سواء من خلال علاقتهم الخاصة بالطعام ونظرتهم إلى أنفسهم أو نظرة الآخرين لهم.
ظهور حلّة مختلفة للكوميديا، بقيادة الممثلين أحمد مكي والثنائي هشام ماجد وشيكو، صرف الجمهور أيضاً عن الكوميديا التقليدية التي سبقتهم ربما باستثناء محمد هنيدي الذي حافظ على نجوميته. وتراجعُ الآخرين أخلى الطريق لحلمي ليستمر في القمة باعتباره محافظاً على استمراريته من خلال التركيز على الموضوع لا الموقف والأزمة. وبحسب متابعتي، فهو من القليلين الذين تمكّنوا من تقديم هذا النوع من الأفلام بهذا الشكل المبتكر في تاريخ السينما المصرية.
في كل عمل جديد لحلمي، يذهب الجمهور إلى السينما ليتعرف على نفسه، لأنه على ثقة أن حلمي هو الأقدر على تناول هواجسه من دون أن تفارقه الضحكة
يبقى السبب الأخير في نجاحه هو إدراكه بنوعية الجمهور الذي يستهدفه، فهو يعرف أنه يوجه أفلامه لشرائح عمرية معينة أو لجمهوره الذي بدأ معه الرحلة، وتجاوز الثلاثين من العمر ويعاني من مشكلات مثل فقدان الشغف "واحد تاني" والحيرة في اختيار شريك الحياة "بلبل حيران"، والبحث عن النفس بداخل كل إنسان بدلاً من التفتيش عنها في عيون الآخرين "لف ودوران". لذلك، في كل عمل جديد لحلمي، يذهب الجمهور إلى السينما ليتعرف على نفسه، لأنه على ثقة أن حلمي هو الأقدر على تناول هواجسه من دون أن تفارقه الضحكة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...