قطعت تونس أشواطاً مهمةً في مسار ضمان حقوق المرأة، توّجتها بترسانة تشريعات رائدة تحمي النساء وتمكنهنّ من حقوق غير مسبوقة في العالم العربي. وعلى الرغم من تطور منظومة حقوق المرأة التونسية وإيلائها مكانةً مهمةً في المجتمع، فإن القوانين المؤطرة لمجال طرق المساعدة على الإنجاب لم تنصف المرأة ولم تراعِ "غريزة الأمومة أو عاطفتها" لدى التونسيات اللواتي تأخرن في سن الزواج للعديد من الأسباب أهمها التمدرس والخروج للعمل.
تحول مجتمعي
أدى تعلم المرأة واندماجها في سوق الشغل إلى ارتفاع سن الزواج لتتجاوز سن الخامسة والثلاثين وتالياً تراجع الخصوبة لديها، مما يسبب العديد من الإشكاليات المتعلقة بالإنجاب بعد الزواج وفي كثير من الأحيان يعيقها. وإن كانت الدولة التونسية تشجع النساء على اكتساح جميع المجالات وتعزيز مكانة المرأة داخل المجتمع، فإن التشريعات قاصرة عن ضمان حقها في تكوين أسرة وقلصت أمل الأمومة لدى العازبات اللواتي تقدمت بهن السن بسبب منع تجميد البويضات.
تتمثل عملية التجميد في استخراج أكبر عدد ممكن من البويضات من مبيضي المرأة، وتجميدها غير مخصّبة، وتخزينها بقصد استعمالها لاحقاً عندما تقرر المرأة الإنجاب، فتتم عملية إذابة البويضة المجمدة وتلقيحها بمنيّ الرجل وزراعتها في رحم المرأة وهي عملية تهدف بالأساس إلى حفظ قدرة المرأة على الإنجاب التي تضعف للعديد من العوامل.
إن أجاز القانون التونسي القيام بهذه العملية، فإن النص التشريعي ما زال قاصراً عن احتواء جميع الحالات التي تستوجب التجميد، وينص القانون عدد 93 لسنة 2001، في فصله الرابع، على أنه "لا يمكن اللجوء إلى الطب الإنجابي إلاّ بالنسبة إلى شخصين متزوجين وعلى قيد الحياة وبواسطة أمشاج متأتّية منهما فقط، وأن يكونا في سنّ الإنجاب"، كما ينص في الفصل السادس على أنه "يمكن استثنائياً للشخص غير المتزوج والذي يخضع لعلاج أو الذي يستعد للخضوع لعمل طبّي من شأنه أن يؤثر على قدرته على الإنجاب اللجوء إلى تجميد أمشاجه بقصد استعمالها لاحقاً في إطار رابطة زواج شرعي وفي نطاق الطب الإنجابي وطبقاً للقواعد والشروط الواردة في هذا القانون"، وتالياً فإن العزبات اللواتي تأخرن في الزواج يُحرمن من تجميد بويضاتهن لتفادي ضعف الخصوبة نتيجة تقدمهنّ في السن.
العزبات يُمنعن من تجميد بويضاتهن
تقول نورة، بائعة خضار تجاوزت الأربعين ببضع سنوات وتقطن مع صديقتها في محافظة أريانة بعد طلاقها من زوجها بسبب عدم الإنجاب: "لقد تزوجت في سن الثامنة والثلاثين ولم أواصل تعليمي بسبب مرض والدتي التي أحطتها برعايتي إلى أن فارقت الحياة. تأخرت نسبياً في الزواج لأتمكن من رعاية أمي وإخوتي وكنت أعاني من اضطرابات في الدورة الشهرية وهو ما تسبب في ضعف الخصوبة لدي وحرماني من الإنجاب. وعلى الرغم من أن الأمل ما زال قائماً حسب رأي الطبيب الذي فحصني، فإن زوجي رفض فكرة طفل الأنبوب واختار الانفصال عني".
من حق المرأة العزبة التي لم يسعفها الحظ في الزواج إلى أن تقدمت في السن أن تعيش الأمومة بتجميد بويضاتها
تؤكد نورة في حديثها إلى رصيف22، أنها لم تكن على دراية بتقنية تجميد البويضات، وتقنيات المساعدة على الإنجاب بصفة عامة، لكن منذ مواجهتها لصعوبة في الإنجاب بحثت في الموضوع وحاولت بعد طلاقها تجميد بويضاتها قبل بلوغ سن تحرمها من الإنجاب نهائياً مع تقدمها في السن، لكنها علمت بأن القانون يمنع ذلك طالما أنها غير متزوجة. نورة ومثيلاتها كثيرات في تونس خاصةً لانتشار المشكلات الصحية المتعلقة بضعف الخصوبة وتأجيل الزواج لأسباب مهنية واقتصادية أو اجتماعية.
أما مريم، ذات الأربعة والثلاثين سنةً، فهي ممرضة في إحدى المصحات الخاصة في تونس العاصمة وبصدد إعداد ملفها للهجرة إلى كندا، ومزاولة عملها هناك. تقول مريم إنها لا تفكر في الزواج في الوقت الحالي، "إلا حين الاستقرار في عملها ومواصلة تعليمها في كندا".
ترى مريم أنه لا يمكنها التفكير في مسألة الإنجاب طالما أنها ما زالت لم تجد شريك حياتها المناسب قائلةً: "أساند فكرة تجميد البويضات لأنها حرية شخصية، لكن حتى في حال تعديل القانون والسماح للعزبات بتجميد بويضاتهن فهل سيقبل الرجل التونسي بالارتباط بامرأة قامت بتجميد بويضاتها ولا يمكنها الإنجاب إلا عبر هذه التقنية؟ نحن في مجتمع ذكوري ووجب العمل على حملات توعية مكثفة لكي تدخل هذه التقنية في عادات المجتمع التونسي ويتم التطبيع معها".
مسألة حقوق... وابتكار طبي
تعليقاً على منع القانون العزبات من تجميد بويضاتهن، ترى أستاذة علم الاجتماع وأخصائية مسائل الجندر درّة محفوظ، أنه من "حق المرأة العزبة التي لم يسعفها الحظ في الزواج إلى أن تقدمت في السن أن تعيش الأمومة"، مشددةً في تصريحها لرصيف22، على أنها تساند المطالب الحقوقية المنادية بتنقيح القانون عدد 93، بما يسمح للعزبات بتجميد بويضاتهن عندما يقتضي الأمر ذلك.
أما الأخصائي في أمراض النساء والتوليد، بشير الزواوي، فيؤكد أن عملية تجميد البويضات تقنية جديدة في العالم تبنّتها تونس منذ بدايتها سنة 2010، وتستوجب تنشيط المبايض للحصول على أكبر عدد ممكن من الأمشاج ثم تتم عملية التجميد لخمس سنوات قابلة للتجديد.
أساند فكرة تجميد البويضات لأنها حرية شخصية، لكن حتى في حال تعديل القانون والسماح للعزبات بتجميد بويضاتهن فهل سيقبل الرجل التونسي بالارتباط بامرأة قامت بتجميد بويضاتها ولا يمكنها الإنجاب إلا عبر هذه التقنية؟
ويضيف الدكتور في تصريحه لرصيف22، أن القانون التونسي يسمح بإجراء هذه التقنية فقط للمرأة التي تستوجب حالتها الصحية علاجاً كيميائياً من شأنه أن يؤثر على خصوبتها، أي إضعافها بصفة ملحوظة أو انعدامها، مثل حالات الإصابة بسرطان الدم أو الثدي والأمراض السرطانية بصفة عامة، مشيراً إلى أن هذه التقنية مسموح بها للمتزوجات وغير المتزوجات على شرط أن تستعمل البويضات المجمدة بعد الزواج وتلقيحها بمني الزوج.
لفت المتحدث إلى أن اضطرابات الدورة الشهرية وتوقع انقطاعها في سن مبكرة مما يعيق عملية الإنجاب غير منصوص عليها في القانون المنظم لعملية تجميد البويضات، وأشار إلى تواتر المطالب في تونس لتجميد البويضات في حالات غير مرضيّة خاصةً أن سنوات الدراسة والعمل نتج عنها تأخر سن الزواج لدى المرأة. وبتأخره، ليتجاوز المتوسط عمر الثمانية والثلاثين عاماً، تتدنى نسبة الخصوبة كثيراً، قائلاً: "نشجع المرأة على أن تكون ناشطةً في جميع المجالات الاجتماعية والمهنية والسياسية، وعندما تحقق نجاحاً وتتزوج تُحرم من الإنجاب بسبب عامل السن. عندما تتجاوز سنّ الثمانية والثلاثين تقل نسبة الخصوبة. نطالب بتمكين المرأة من تجميد بويضاتها قبل سن الخامسة والثلاثين لتكون الخصوبة ممتازةً ونسبة تشويه جينات البويضة متدنيةً، وتالياً تتمكن من الإنجاب بعد الزواج".
نفى الزواوي فرضية إنجاب أطفال مصابين بتشوهات نتيجة تقنية تجميد البويضات، مبيّناً أن تقنية التجميد المعاصرة تحفظ البويضة جيداً، وبعد عملية إزالة التجميد يتحصل على البويضة بالجودة نفسها قبل التجميد، متابعاً: "هناك قلة ثقة في المجتمع ومخاوف من استعمال البويضات لامرأة أخرى أو تلقيحها بمني غير مني الزوج. نحن كمجتمع مدني نعمل داخل جمعيات علمية تدافع عن عملية التجميد في إطار المجتمع التونسي والموروث الثقافي والاجتماعي التونسي واحترام الجانب الديني ولا نقوم بأي عملية خارجة عن القانون أو الدين".
وختم بالتأكيد على أن السعي متواصل من قبل أهل الاختصاص والمجتمع المدني إلى الدفع نحو تنقيح القانون بما يتلاءم مع جميع الحالات.
موقف الفقه التونسي
تُعدّ عملية تجميد البويضات تقنيةً يتم اللجوء إليها للحفاظ على القدرة الإنجابية للنساء في العديد من الحالات، فإن العديد من نقاط الاستفهام تُطرح حول حكم تجميد البويضات والموقف الشرعي من هذه العملية.
يؤكد الدكتور في العقيدة والفلسفة والإمام الخطيب، بلقاسم البلقاسمي، أن مسألة تجميد البويضات تعود إلى أهل الاختصاص وهم الأطباء، ولا يمكن للفقيه الإفتاء بمعزل عنهم فإذا كان التجميد ضاراً بصحة المرأة فهو ممنوع شرعاً، أما إذا كان لا يشكل أي خطورة على صحتها فهو جائز مشيراً إلى وجوب احترام مبدأ الإنسان والإنسانية.
ويتابع البلقاسمي، في حديثه إلى رصيف22، أن محور البناء الإسلامي يؤسس للإنسانية، ففي حال وجود خلل فيزيولوجي لدى المرأة يمنعها من الحمل يمكن تجميد البويضات بشرط أن يكون اللقاح من مني الزوج، مضيفاً: "إلى جانب الأمراض أو الموانع الفيزيولوجية هناك وضعيات أخرى يجاز فيها تجميد البويضات على غرار تعطل الزواج بالمرأة إلى أن تتزوج وتلقح البويضة من مني الزوج كما سبق وذكرت".
تجدر الإشارة إلى أن تونس شهدت أول ولادة لطفلة من بويضات مجمدة في شهر تموز/ يوليو سنة 2019، وقد كانت الأم تعاني من مرض سرطاني فتم اللجوء إلى تجميد بويضاتها إلى أن استكملت العلاج الكيميائي وتم تلقيح البويضة في أول عملية من نوعها في البلاد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...