بدأت الموجة النسوية الرابعة بحملة "أنا أيضاً" (Me Too) عندما انتفضت نساء هوليود، مفصحات عن الاستغلال الجنسي اللواتي تعرضن له. تغير خلال هذه السنوات القليلة شكل صناعة الترفيه الأجنبية، وبدأ المد يصل إلى البلاد العربية، عبر حركة نسوية ظلت لسنوات صوتاً خافتاً بدأ يعلو مؤخراً، وظهرت على الشاشة نسوة مختلفات عن المعتاد للأدوار النسائية.
فشاهدنا مؤخراً عدة مسلسلات ليس فقط من بطولة نساء، ولكنها أعمال تتعرض للمسكوت عنه طويلاً، تحاول أن تمس تابوهات مجتمعية راسخة، أو تدعم النساء بطريقتها الخاصة، ولكنها حتى الآن هي مجرد خطوات مرتبكة، تحاول أن تطرق الحديد وهو ساخن لكن تخاف ردود أفعال المشاهدين، ترغب في تقديم قضايا حقيقية، وفي ذات الوقت تخفّف من حدتها لأسباب درامية، ما أدى في النهاية إلى صورة كاذبة، لا تعكس أي حقيقة على أرض الواقع.
بطلات المسلسلات وصورة المرأة الحديثة
في السنوات الأخيرة، وفي ظل مناخ سياسي يرغب بأن يبدو داعماً للمرأة، ومع توجيهات مستمرة بتحسين صورتها على الشاشة وأدوارها الاجتماعية، بدأت مسلسلات من بطولات نسائية تقدم نماذج مختلفة عن دور الأم المسكينة التي تربي أولادها وتبذل لهم حياتها، ومن أشهر هذه الأمثلة متتالية "إلا أنا" التي يقدم كل جزء منها خلال 10 حلقات، قصة امرأة باسلة بشكل ما، تعاني في حياتها، ثم تجد العوض في النهاية، وناقش هذا المسلسل مواضيع مثل الطلاق في سن متأخر، والأخت التي تضحي بحياتها من أجل أخواتها، والرجل الذي يغدر بزوجته، لذلك هو لم يخرج بعيداً عن الصورة المتأصلة للمرأة في الدراما التلفزيونية، كطرف مضحٍّ، يضطر لاتخاذ ردود أفعال، ولكنه ليس فاعلاً بشكل حقيقي.
في السنوات الأخيرة، وفي ظل مناخ سياسي يرغب في أن يبدو داعماً للمرأة، ومع توجيهات مستمرة بتحسين صورتها على الشاشة، بدأت مسلسلات من بطولات نسائية تقدم نماذج مختلفة عن دور الأم المسكينة التي تربي أولادها وتبذل لهم حياتها
وبعيداً عن هذه المتتالية، ظهر مسلسلان تم الترويج لهما كأعمال نسوية، تقدمان صورة مختلفة للمرأة، أكثر قوة وجرأة، بعيداً عن الأنماط الشائعة، ففي 2020 عُرض الجزء الأول من مسلسل "ليه لأ!؟" بطولة أمينة خليل ومحمد الشرنوبي وهالة صدقي، والذي يبدأ بــ "عاليا" العروس الشابة التي تهرب من حفل زفافها على رجل لا تحبه، ومن علاقة لا ترغب بها، دخلتها فقط لإرضاء والدتها. يضغط عليها أفراد العائلة بعد هذه الحادثة، ولكن يأتي الحل السحري على هيئة مسابقة للفتيات تؤهلهن للدراسة بالخارج، وذلك عبر تنفيذ عدة شروط، أولها الاستقلال عن الأسرة والحصول على عمل.
كذلك عُرض مؤخراً على منصة نتفلكس مسلسل "البحث عن علا"، وهو يعتبر جزءاً ثانياً من مسلسل "عايزة اتجوز" الذي رأى النور منذ اثني عشر عاماً تقريباً، عندما تم تحويل كتاب "عايزة أتجوز" للكاتبة غادة عبد العال إلى مسلسل تلفزيوني بذات الاسم، من بطولة هند صبري، تبحث فيه البطلة علا على زوج بين عشرات العرسان الذين يتقدمون لها بالطريقة التقليدية، الأمر الذي ينتج الكثير من المواقف الكوميدية.
"البحث عن علا" استخدم نفس الشخصيات، لكن ليس كل التفاصيل، وهذه المرة نتعرف على حياة علا بعد مرور ثلاثة عشر عاماً تقريباً، وقد تزوجت، وانجبت، ولكنها على وشك الطلاق بعدما قرر زوجها تركها.
هنا نحن أمام تحول كبير في طبيعة الشخصية، فـ علا التي كانت تبحث عن زوج، أصبحت مطلقة في منتصف العمر بلا وظيفة، تربي أولادها وحدها، وتحاول -كما هو واضح من العنوان- إيجاد نفسها، بعدما انغمست في أدوار أخرى هي الزوجة والأم.
نسوية الطبقات العليا
بدارسة سريعة لتاريخ النساء سنجد أنهن كثيراً ما عانين من القهر والظلم، ولكن ليس بصورة متساوية، فكلما ارتفعت الطبقة الاجتماعية للمرأة، وامتلكت مزايا مادية، أتيح لها مزيد من الاستقلالية، الأمر الذي درسته النسويات وصكت له الباحثة كيمبريلي وليامز كرينشو مصطلح "النسوية التقاطعية"، أو تقاطع أشكال التمييز، فالطبقة واللون يؤثران على المرأة، مثل جنسها بالضبط، لا يمكن أن نعتقد أن الأزمة واحدة لكل النساء دون أن نتفهم أن عرق المرأة ومن أين أتت، وماذا تمتلك، مؤثرات فاصلة.
في مسلسل "البحث عن علا" الذي من المفترض أنه يدور حول تمكين المرأة، وإيجادها نفسها بعد علاقة مستنزفة طويلة وطلاق صعب، نجد أن الحبكة تركزت بشكل شبه أساسي على إيجاد الزوج أو الحبيب القادم لعلا
وهو ما ينطبق على كل من بطلتي مسلسل "ليه لأ؟" و"البحث عن علا". عاليا التي ترتكز على ميراث من والدها المتوفي، ونصيب من مصنع العائلة، وعلا التي تعتمد على صديقتها الثرية، استطاعتا تجاوز أزماتهما بسهولة ليس لأنهما امرأتان قويتان فقط، لكن لامتيازاتهما المادية والطبقية.
فعلى سبيل المثال، استقلال الفتيات واحد من المواضيع الشائكة في المجتمع المصري، فهو مسموح به في ظروف محدودة لسكان المدن الصغيرة أو الريف، الذين يوافقون على إرسال فتياتهم للدراسة أو العمل في المدن الكبيرة ومنها العاصمة، ولكن يظل الأمر مؤقتاً مع تشديدات عديدة وذلك حتى انتهاء الغرض، أو عودة الفتيات للزواج، لذلك استقلال فتاة قاهرية أمر يعتبر خارج المعادلة، إلا في حالات نادرة.
العقبات التي تواجه استقلال الفتيات في المعيشة لا تتمثل فقط في موافقة الأهل، لكن كذلك ظروف معيشة هؤلاء البنات في العاصمة، ما بين التضييق من أصحاب الشقق التي يمكن تأجيرها، والمعاملة السيئة التي قد يلاقونها من الجيران، وارتفاع أسعار الإيجارات، والاضطرار للسكن المشترك، والمخاطر المتعددة التي تتعرض لها هؤلاء الفتيات في مدينة تعتبر من الأخطر في العالم على النساء.
لكن ذلك ليس ما واجهته بطلة مسلسل "ليه لأ؟!" وقد ساعدتها صديقتها على استئجار شقة فاخرة بأثاث فخم في وسط القاهرة، خلال ساعات معدودة من أخذها لقرارها، مع جار شاب لطيف ومتعاون، يساعدها على الانتقال، ويهديها كاميرا احترافية لتبدأ عملها الخاص، وعندما تقيم حفلاً صاخباً، لم يعترض أي من الجيران الآخرين.
التمكين الذي حدث لعليا هنا ليس نتيجة لحربها ضد دورها الاجتماعي الراسخ كفتاة في سن الزواج، ولكن للخلفية الطبقية والاجتماعية التي تدعمها في كل خطوة، فمهدت لها سبيل الوصول. المسلسل عن استقلال الفتيات عن عائلتهن، لكنه استقلال الفتيات المحظوظات الغنيات اللواتي يجدن المساعدة في كل خطوة، ويحصلن خلال عشر حلقات على كل شيء، من الحرية إلى العمل والحب والدعم العائلي.
وفي ظل مجتمع ترتفع فيه نسبة الطلاق، وتقضي أغلب المطلقات أوقاتهن في المحاكم سعياً وراء نفقة الأطفال، ويجدن صعوبات جمة في العودة لمسارهن الوظيفي، بعدما أصبحن غير مؤهلات لسوق العمل، يصبح علينا أن نتأمل حياة المطلقات الخيالية التي عاشتها بطلة مسلسل "البحث عن علا".
تعامل مسلسل "ليه لأ!؟" و"البحث عن علا" مع مشاكل النساء بسطحية، فهي أعمال فيها تسبق المشكلة الحلول الجاهزة، قدمت حياة وردية كاذبة للمشاهدات، بدل أن تعمل على دعمهن أو إظهار التعاطف مع مشاكلهن
فزوجها هشام لم يدفع مصاريف مدرسة الأولاد وحافلة المدرسة فقط، لكن كذلك عرض عليها تخصيص مصروف خاص لها مقابل اهتمامها ورعايتها للأطفال، في ظل إجباره لها على ترك الوظيفة بعد الزواج، ولكن علا الأبية تقرر البحث عن مسار وظيفي مواز وفتح مشروعها الخاص، بمساعدة صديقة عادت لحياتها بعد الطلاق بشكل مفاجئ، محملة بإرث مادي كبير من والدها المتوفي، ثم يشاركها في مشروعها خبير في مجالها، ويدعمها خبير آخر في التسويق بلا مقابل، وخلال شهور قليلة تصبح مثالاً عن سيدة الأعمال الناجحة، وتعيد السيطرة على حياتها المادية.
مرة أخرى هذه ليست امتيازات نسوية، إنما طبقية، الكمبوند الذي تسكن فيه علا، والدعم المادي والاجتماعي من زوجها وطبقته الجديدة، والصديقة الغنية، هي ما ساعدت البطلة على التخطي، وهي الفرص غير المتاحة لأغلب السيدات بالتأكيد.
حياة نساء الشاشة المتمركزة حول الرجل
التمركز حول الرجل هو مصطلح صكته الكاتبة الأمريكية شارلوت بيركينز جيلمان في كتابها "عالم صنعه الرجال، أو ثقافتنا المتمركزة حول الرجل"، ويشير هذا المصطلح إلى نظام للتفكير يتمركز حول هوية الرجل وقيمه، ويعتبر المرأة حياداً عن المعيار الذي يحدد بالإحالة إلى الرجل، من أشهر أمثلة التمركز حول الرجل اللغة ذاتها، فالكثير من الكلمات مثل البشر، نجدها مذكرة، ولكن في ذات الوقت يندرج تحتها الرجال والنساء، وكذلك في الأدب والسينما والمسلسلات التلفزيونية، يظهر التمركز حول الرجل في طبيعة بناء الأعمال نفسها، فنجد أنه مركزي في الأحداث ومن حوله ردود أفعال، وفي الأحوال القليلة التي تكون البطلة المرأة هي الأساس الذي تبنى عليه الحبكة، يظل الذكر ضرورياً للتقدم، ويصبح على الأقل المكافأة النهائية التي يجب أن تحصل عليها المرأة التي فازت بكل شيء.
في مسلسل "ليه لأ؟" تحصل البطلة على استقلاليتها، تعيش وحدها، تؤسس لنفسها عملاً، لكن كل ذلك لا يمكن أن يكون مكتملاً دون وجود رجل في حياتها، وهو البطل الذي انتزعه لها كتاب السيناريو من امرأة أخرى، تم وصمها أنها قاسية القلب ومتحررة، فلم تعد مناسبة للرجل المصري الوسيم، وتم مكافأة عاليا بهذه الجائزة الكبرى في الحلقة الأخيرة من المسلسل.
على الجانب الآخر، علا المطلقة الأربعينية لم تجد في حياتها العاطفية فراغاً يذكر، فقبل مرور أيام على طلاقها يصطف على بابها العشاق الجدد، بين خبير التسويق الأربعيني الوسيم، والشاب في العشرينيات، والطبيب الجراح.
وفي مسلسل من المفترض أنه يدور حول تمكين المرأة، وإيجادها نفسها بعد علاقة مستنزفة طويلة وطلاق صعب، نجد أن الحبكة تركزت بشكل شبه أساسي على إيجاد الزوج أو الحبيب القادم لعلا، فمع كل حلقة ظهر ممثل في دور شرفي، كحبيب محتمل للبطلة، وأصبح المسلسل يدور حول من هو ذلك الحبيب الجديد الذي سيضيء جانباً مختلفاً من حياة علا، أكثر من عملها بنفسها على كشف ذاتها.
فخبير التسويق هو من اختار لها شريكها في العمل، وساعدها على إطلاق منتجاتها، والشاب العشريني هو الذي قادها إلى الصحراء لتعيد اكتشاف توازنها النفسي، والمدرب القاسي من معسكر الأطفال هو من يقرب بينها وبين أولادها، وفي مسلسل عنوانه "البحث عن علا" نجد أن علا لا تستطيع تعريف نفسها دون وجود كل هؤلاء الذكور في حياتها.
تعامل هذان المسلسلان مع مشاكل النساء بسطحية، فهي أعمال فيها تسبق المشكلة الحلول الجاهزة، فقدمت حياة وردية كاذبة للمشاهدات، لا تعمل على دعمهن أو إظهار التعاطف مع مشاكلهن، قدر تذكيرهن أن تلك ليست سوى دراما مسلية، تقدمها المنصات الإلكترونية مستغلة قضاياهن دون أن تمس لبّها، وأن حياة النساء رائعة على الشاشة وحدها.
الأزمة الحقيقية هي أن تلك هي الصورة الوحيدة للأعمال النسوية المطروحة في الوقت الحالي، أو التي تقدم نفسها على أنها نسوية، فكل من العملين المأخوذين كمثال هنا اعتبره صنّاعه خطوة إيجابية تجاه تمكين المرأة، ولكن السؤال هنا هو أي امرأة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...