شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"منذ وصلت فرنسا وأنا أحاول فهم العلاقة المعقدة بين الجالية الجزائرية وهذا البلد"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 9 أبريل 202211:47 ص

يعرض حالياً في صالات السينما الفرنسية فيلم "جزائرهم" الحائز جائزة أفضل فيلم وثائقي عربي في مهرجان الجونة لمخرجته لينا سويلم.

منذ اللحظة الأولى، تبدو الحكاية مثيرة للاهتمام. تنطلق أحداث الفيلم مع انتقال جد المخرجة إلى شقته الجديدة مقابل منزل الجدة في مدينة تيير الفرنسية حيث يسكنان منذ سنوات طوال. وتسأل المخرجة والدها الممثل المعروف، زين الدين سويلم، هل قرار انفصال جديها نهائياً؟ يبدو الأب خلال الفيلم كالطفل الذي يرفض تصديق انفصال والديه، إذ نفهم أن الجدة قررت الانفصال بعد اثنين وستين عاماً من الزواج. 
تعود المخرجة مع الجدين إلى بداية الحكاية وكأنها تبحث عن وسيلة لجمعهما مجدداً لا لتفريقهما، ولكن العودة إلى الوراء صعبة في ظل أن الجد رجل اعتاد الصمت ويمتنع عن الكلام عن الماضي، وأن الجدة تجد رد فعل واحداً للهرب من الإجابة على أسئلة حفيدتها: الضحك. تضحك الجدة كلما سألتها المخرجة عن طريقة تعرفها على الجد وعن مشاعرها تجاهه، عن الحياة المشتركة التي عاشاها معًا. لنكتشف شيئاً فشيئاً أن والد الجد اختار الجدة عروساً لابنه دون أن يلتقيا وأنها التقته للمرة الأولى في ليلة زواجهما التي ترفض رفضاً قاطعاً تذكرها أو التعليق على تفاصيلها. وأحياناً تختلط ضحكة الجدة الجميلة بدموعها عندما تسأل عن المؤلم والمحزن في ماضيها. يعلق والد المخرجة بأن سعادة أمه الوحيدة هم أبناؤها.

يبدو الجد في حالة حنين شديد إلى الجزائر رغم رفضه القاطع لزيارتها، كما لو أن البلد ضاع إلى الأبد.

لا يضيف الجد الكثير من المعلومات إلى ما نعرفه من الحكاية، لكننا من خلال المراقبة المستمرة نفهم أن الجدة لم تعد قادرة على الاستمرار في حياتها معه. فالرجل المقطب الجببن بلا توقف، ليس مستعداً للتعليق على أي أمر، يهز رأسه رضى أو استياء، ويتمتم كلمات بينه وبين نفسه.
يبدو لافتاً في حالة الجد حنينه الشديد إلى الجزائر ورفضه القاطع العودة لزيارتها، كما لو أن البلد المفقود ضاع إلى الأبد، رغم إمكانية العودة التي تحققها المخرجة لاحقاً في الفيلم. ويشكل هذا الأمر أيضاً خلافاً بين الجدين، تقول الجدة إنها كانت تتمنى نقل ثقافة بلادها إلى الأولاد، الأمر الذي منعه الجد من دون توضيح للأسباب.
لعل أكثر لحظات الفيلم تأثيراً وتلك التي تشرح آلية العلاقة بين الزوجين المنفصلين هي عندما يجتمعان فيرق قلب الجدة وتأخذ الطعام إلى شقة الجد وتسخن له طبقاً، تضع أمامه محرمة وترميها على الطاولة بإحباط وتراقبه منزعجة وهو يأكل مقطباً. تشتكي الجدة لاحقاً لحفيدتها اضطرارها إلى مساعدته في توضيب منزله وتشرح أنها لم تعد مسؤولة عن إطعامه ولكنها تستمر في الذهاب إليه من باب الواجب أو العشرة ربما. يزور الابن والديه فيجتمعان ثانية في مقهى، يسأل الابن : هل أنت مسرور باجتماعنا؟ يشيح الجد عنهما منزعجاً فتلتقي عيناه بعيني حفيدته التي تصور فيبتسم لها. يبدو أن الجد لا يستطيع التعبير عن مشاعره، وإن رغب بذلك فإن أقصى ما يستطيعه هو أن يمتثل لرغبات حفيدته التي تصوره في أماكن متعددة من مدينته الثانية تيير. لا يرق الجد القاسي إلا عند مشاهدة صورة والديه، يغالب دموعه متحدثاً باقتضاب عن أمه التي غادر أبناؤها واحداً تلو آخر وبقيت وحيدة.

منذ وصلت إلى فرنسا وأنا أحاول فهم العلاقة المعقدة التي تربط الجالية الجزائرية بالبلد المضيف، علاقة قائمة على تاريخ طويل من القهر والاستعمار، من الحرب والكراهية، الفرص الضائعة وسوء التفاهم الدائم

يرغب الفيلم في رواية حكاية امرأة مقموعة حصلت أخيراً على جانب من حريتها، إذ تشير الجدة إلى أنها اليوم قادرة على الأقل على استضافة صديقاتها في منزلها حين تشاء، ونلاحظ انخراطها في مجتمع جزائري متكامل من النساء. يمتاز هذا المجتمع بأنه يعيد خلق الجزائر في فرنسا. وتعلق المخرجة على فيديوهات صورها مع والدها في طفولتها من عرس أخته، بأنها لطالما ظنت أن الاحتفال كان في الجزائر. بالنسبة للجدة لا أهمية للمكان، فهي تعيش في الجزائر رغم مرور كل ذلك الزمن الطويل الذي لم تزر فيه بلادها الأصلية، لكن الفيلم لا يخبرنا حقاً كيف تستغل الجدة هذه الحرية ولا عن دافعها للحصول عليها فجأة بعد كل هذه السنين. ربما كنا سنقدر هذه الحرية أكثر لو بدأ تصوير الفيلم قبل قرار الانفصال. لو أننا شهدنا حياتهما اليومية سابقاً لكان انطباعنا عن تحررها من قيد الزواج أوضح وأقل ضبابية.

يروي الفيلم حكاية امرأة مقموعة حصلت أخيراً على جانب من حريتها.

يعيش الجد بالمقابل وحدة رهيبة بلا أصدقاء رغم قضائه عمره كله في فرنسا. يزور أفراداً من العائلة أحياناً، وينتظر زيارات ابنه. يعيش الجد بوضوح في بلد لا يحبه، حتى أنه رغم كل السنوات التي عاشها لم يتقدم بطلب للحصول على الجنسية واكتفى ببطاقة الإقامة. نستنتج أنه عمل في أعمال شاقة بأجور زهيدة، وعندما تسأله حفيدته: لم لم تعد إلى الجزائر؟ يقول: قال لي أحد أقاربي يوماً عليكم البقاء حيث تحصلون على تأمين. وقد استقبلت فرنسا عبر تاريخها الكثير من اللاجئين لأسباب اقتصادية، وكانت المنفعة متبادلة، إذ أمن هؤلاء يداً عاملة رخيصة وعملوا في أعمال غالباً ما يرفض المحليون مزاولتها.
يحاول الفيلم معالجة مسألة الانتماء المزدوج إلا أن الشخصيتين الرئيستين ليستا حائرتين في انتمائهما، فهما جزائريان من دون أي تردد ولا يشعران بأنهما فرنسيان رغم أن الجدة حاصلة على الجنسية الفرنسية منذ صغرها. ومع ذلك، فهما لا يعودان إلى بلدهما في العطلات ولا صلات لهما به، حتى أن المخرجة حين تعود إلى القرية تبحث بنفسها عن أقرباء هناك. لم يوضح الفيلم هل سبب عدم عودتهما، في السنوات الأولى على الأقل، اقتصادي أم نفسي. هل كان خيار العودة للزيارة مستحيلاً أم كان ذلك خياراً واعياً كي لا يعاد الفراق في كل رحيل جديد؟
لا يمثل الجدان استثناء في شكل العلاقة التي تربط أفراداً كثراً من الجالية الجزائرية الكبيرة التي تعيش على الأراضي الفرنسية بفرنسا سلطة وشعباً، إذ تربطهم عموماً بها علاقة معقدة مثقلة بتاريخ طويل ربط مصير البلدين لسنوات طوال، ولم تخرج فيه فرنسا من الجزائر إلا بقوة السلاح وبحرب دامية وبتضحيات جسام تكبدها الشعب الجزائري، بالإضافة إلى شعور دائم بأن الحق الجزائري لم يحصل، وأن الاعتراف الحقيقي بالماضي لم يتم، رغم المحاولات الخجولة في السنوات الأخيرة. 
منذ وصلت إلى فرنسا وأنا أحاول فهم هذه العلاقة المعقدة التي تربط الجالية الجزائرية بالبلد المضيف، علاقة قائمة على تاريخ طويل من القهر والاستعمار، من الحرب والكراهية، من الاضطرار ومن محاولات المصالحة، علاقة مبنية على الفرص الضائعة وسوء التفاهم الدائم، ورغم النوايا الحسنة المحمل بها الفيلم، لم أشعر أنه أضاف لي شرحاً أوضح، ولكن يحسب له بالمقابل تقديمه شخصيتين مثيرتين للتعاطف، عاشتا حياة بائسة، وعلى الأقل قررت إحداهما أن من حقها البحث عن السعادة ولو في آخر العمر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image