مرّ على بنائها أكثر من قرن، وظلّت صامدةً في وجه تقلّبات الزمن. على مداخلها تماثيل رومانية جميلة، صُقلت بأيدٍ مبدعة، وشرفاتها مزيّنة بأشكالٍ هندسيةٍ تسحر الأنظار، وطرقاتها واسعة تنشرح لها القلوب، أما أزقّتها الضيّقة، فتروي قصص المارّين من هناك، وعلى جنباتها مقاهٍ ومطاعم شعبية أصيلة.
على مدار 132 سنةً من الاستعمار، ترسّخت فكرة واحدة في العقل الفرنسي، هي أن الجزائر فرنسية. ولم يضع الفرنسيون في مخيّلتهم أبداً، أنهم سيغادرون يوماً ما، يجرّون أذيال الخيبة، بعد حرب تحريرٍ طاحنةٍ انتهت باستقلال الجزائر عام 1962.
ولذلك شيّدت فرنسا مليونَي وحدةٍ سكنيةٍ، زادت مُدنها بهاءً وجمالاً. فعلى الرغم مما خلّفه المستعمر الفرنسي من دمارٍ في أرض المليون ونصف المليون شهيد، إلا أنّه خلّف وراءه بناياتٍ رائعةً ظلّت شاهدةً على جمال البنيان الأوروبي، وعلى بصمةٍ ساحرةٍ ومميّزةٍ تظهر جليّةً للزائرين، على الرغم مما لحق بها من إهمالٍ وتخريبٍ طوال سنوات.
بنايات بلغت "الشيخوخة" أفضل من الجديدة
وعلى الرغم من أن البنايات التي تركها الاستعمار الفرنسي بدأت فعلياً بالتآكل والتصدّع، بسبب قِدمها، وهي التي تبلغ من العمر أكثر من 150 سنةً، وبسبب عدم وجود ثقافة الترميم والصيانة أيضاً، إلا أنها في أحيانٍ كثيرةٍ تكون أحسن حالاً من بناياتٍ جديدة التصميم، انتهت أشغالها قبل شهورٍ فقط، إذ تجد بنايتَين بفارقٍ زمنيٍّ كبير، لكنهما على الحال نفسها، في مُفارقةٍ عجيبةٍ غريبة، تشي بسوء عمليات التعمير والبِناء في الجزائر، منذ سنوات.
تجمّعات سكنية فاقدة للهوية الجزائرية
في فترة حُكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، عرفت الجزائر إنجاز مشاريعٍ ضخمة، تمثّلت في بناء وحداتٍ سكنية في مختلف مناطق الجمهورية، قُدِّرت بما يفوق الثلاثة ملايين و600 ألف وحدةٍ سكنية، بصيغٍ مختلقةٍ، اجتماعية، وتساهمية، وترقوية... رصدت لها الدولة مبلغاً مالياً كبيراً، قدّر بـ5،788 مليار دينارٍ جزائري، تم استهلاك 4،615 ملياراً منها، أي ما نسبته 80% من إجمالي المبلغ.
رقم هائل منح فرصاً أكبر للإسكان، لكن في المقابل أهمِلت فيه التقاليد العُمرانية الجزائرية، فشُيّدت البيانات بهندسةٍ بعيدةٍ البُعد كله عن خصوصية الفرد الجزائري، وهويته، ومضمون حضارته الضاربة في عُمق التاريخ، بلمسةٍ جافّةٍ وخاليةٍ من الإبداع، على الرغم من القدرة على جعلها آيةً في الجمال، ومقصداً سياحياً يحجّ إليه الناس، كما هو حال دولٍ عدة.
فالمتجوّل في شوارع الجزائر، بولاياتها الثمانية والخمسين، سيشاهد بناياتٍ أشبه بمكعّباتٍ إسمنتيةٍ بلا هوية، وغير مستلهَمةٍ من الثقافة الإسلامية، على الرغم من أن العَمارة الإسلامية موجودة في مدن الجزائر، وتُعدّ من أكثر العَمارات جمالاً وبهاءً. كما أن هذا النوع من البنيان، ليس مُستنبَطاً من العُمران المغاربي بإطلالاته الجميلة، ولم يحافظ على شكل الإرث الاستعماري ذي الطابع الأوروبي الجميل.
على الرغم مما خلّفه المستعمر الفرنسي من دمارٍ في أرض المليون ونصف المليون شهيد، إلا أنّه خلّف وراءه بناياتٍ رائعةً ظلّت شاهدةً على جمال البنيان الأوروبي، وعلى بصمةٍ ساحرةٍ ومميّزةٍ تظهر جليّةً للزائرين، على الرغم مما لحق بها من إهمالٍ وتخريبٍ طوال سنوات
يحدث هذا بينما تملك الجزائر فيضاً من المعماريين، برصيدٍ طويلٍ من الخبرة، وبالأخص في مجال العمارة الإسلامية، على غرار البروفيسور مصطفى بن حموش، الذي ساهم بتصاميمه الفريدة، في أشغال توسعة الحرم المكّي في السعودية، كما استفاد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس دولة الإمارات، من أفكاره وخبرته، فنصّبه مستشاراً شخصياً له، وكلّفه بتصميم هندسة مدينة العين الإماراتية.
وحول التراجع الرهيب للجانب الجمالي للعمران في الجزائر، مقارنةً بالطابع الأوروبي الذي خلّفه الاستعمار، قال البروفيسور مصطفى بن حموش، في تصريح لرصيف22: "فرنسا امتلكت جيشاً من المعماريين، وكانت حريصةً على أن يبقى الجمال العمراني طاغياً، وتبقى الواجهة في الشارع موحّدةً، لكن في الوقت الحالي فقدت الجزائر الثقافة العمرانية. وعلى الرغم من أن الجزائريين بعد الاستعمار الفرنسي، حافظوا قليلاً على المُتعارف من أنواع البنايات، مثلاً في المدن الجنوبية مثل غرداية، أو وادي سوف، غير أن الوضع تدهور تدريجياً، إلى أن أصبحت طاغيةً لدى السلطات فكرة الإسكان، بعيداً عن الاهتمام بالحفاظ على ثقافةٍ عمرانيةٍ واحدة".
تعمّد تشويه المنازل لإبعاد العين والحسد!
بعيداً عن وسط المدينة، الذي غالباً ما تجده بنمطٍ عمرانيٍّ موروثٍ عن فرنسا، أو خليطاً مع بنيانٍ عصريٍّ بواجهاتٍ زجاجيةٍ، ولافتاتٍ ضوئية، ثمة في الأحياء الأخرى مأساة من نوعٍ مختلف، تشوّه العمران، وتؤذي العين، لعدم الاعتماد على مخططٍ عمرانيٍّ متناسقٍ، بحيث أصبحت المُدن الجزائرية، حسب خبراء الهندسة، تدعو إلى الكآبة والنفور.
اهتمام الجزائريين ينصبّ حول الجمال الداخلي لمنازلهم، على حساب الجمال الخارجي، لذا تجد بناياتٍ متجاورةً، بشكلٍ غير متناسقٍ تماماً، وما يزيد الطينة بلّةً، عدم إكمال مرحلة التزيين، أو دهن المنازل، ما يتسبّب في تخريب المنظر العام بـ"الآجر الأحمر".
بالإضافة إلى ذلك، لا يولي المواطنون أدنى اهتمامٍ بالمساحات الخضراء أمام منازلهم، وكثيرون منهم يقومون بالاستيلاء على الأرصفة، وعندما تسأل عن أسباب ذلك، فإن أغلب الإجابات تتفرّق بين متحجّجٍ بالظروف المادية، وبين من يؤمن بالعين والحسد، وبأن جمال منزله من الخارج قد يجلب له المصائب والمآسي.
وعليه، لا تتفاجأ إذا رأيت أغلب أسطح المنازل مليئةً بأوراق الصبّار، أو التين الشوكيّ، أو عجلة شاحنةٍ، أو كيسٍ أسود، أو إبريقٍ، أو قرن كبشٍ، للحماية من النحس!
"فرنسا امتلكت جيشاً من المعماريين، وكانت حريصةً على أن يبقى الجمال العمراني طاغياً، وتبقى الواجهة في الشارع موحّدةً، لكن في الوقت الحالي فقدت الجزائر الثقافة العمرانية"
وأكّدت الأخصائية الاجتماعية والنفسانية، أمينة حريش، لرصيف22، أن" هنالك في الجزائر من يبالغ في التخوّف من العين والحسد، إلى درجة الوسواس القهري، ما يجلعه يخفي كلّ شيءٍ جميلٍ، لتفادي المصائب".
وتضيف الأخصائية الاجتماعية: "الجزائريون أضاعوا إرثاً عمرانياً ممتداً لعشرات السنوات، بسبب العولمة، إذ اهتمّوا بالشقق الصغيرة على حساب الواسعة، التي كانوا يعيشون فيها سابقاً. لذلك فإن الطابع العمراني الجديد الفاقد للهوية، له تأثير على الجانب النفسي، ما يجعل الفرد يعيش حياةً فوضويةً".
المهندس... حلقة غائبة في عملية البناء
القاسم المشترك بين السواد الأعظم من المواطنين، هو البناء العشوائي، من دون تخطيطٍ، ولا مراعاةٍ للحسّ الجمالي، وعدم إكمال البناء، وهو نابع في الأساس من عدم الاعتماد على مكاتب دراسات مختصّة في مجال الهندسة والعمران، بل إن كثيرين ممن يلجؤون إلى المختصّين في الهندسة المعمارية، لا يعتمدون على المخططات التي وُضعت تحت تصرفهم، وهو ما يؤكده رئيس المجمع الجزائري لخبراء البناء والمهندسين المعماريين الجزائريين، عبد الحميد بوداود، إذ يقول في تصريحات خصّ بها رصيف22: "كلّ شخصٍ يبني حسب هواه، وحسب عدد أفراد العائلة، لا حسب مخطّط المهندس، ولا حسب المعايير الموجودة في رخص البناء، فمثلاً قد تجد أن الرخصة تسمح ببناء طابقَين، أو ثلاثة، كأقصى تقدير، لكن صاحب البناية يغيّر مخطط المهندس، ويخالف ما سمح به القانون، فيبني أربعة طوابق، أو خمسة، ضارباً بعرض الحائط الطريقة الهندسية السليمة، من دون مراعاة جمال الشارع الذي يقيم فيه".
مليونا وحدةٍ سكنية غير مكتملة البناء!
أصدر المشرّع الجزائري، قواعد وقوانين رادعة في عمليات البناء والتعمير، حفاظاً على النسق العمراني وجماله، وأيضاً للحفاظ على خصائص كلّ منطقةٍ، وعدم الإخلال بوظائف الفلاحة، والصناعة، والتراث الثقافي والتاريخي والبيئي، وهو ما يضمن عدم تشوّه المدن. ولعلّ أبرز هذه القوانين، قانون 90-25، المؤرَّخ في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 1990، والمتعلّق بالتوجيه العقاري، لكن المُلاحَظ أن غياب الرقابة، وهي أهم وظائف الإدارة، حال دون تجسيد ذلك، فعاث المواطن فساداً في الأرض، وخلق قبحاً عمرانياً رهيباً، سواء في المدن، أو حتى في الأرياف، حيث تحصي الجزائر أكثر من مليون وحدةٍ سكنيةٍ غير مكتملة البناء، بسبب غياب الرقابة، وعدم احترام رخص البناء.
"أسوء نمطٍ عمرانيٍّ في قارة إفريقيا، هو النمط العمراني الموجود في الجزائر؛ فقطاع غزّة، بكل ما جرى فيه من حروب، مزيّن باللون الأبيض فحسب، في حين أنك تجد الجزائر العاصمة، الملقّبة "Alger la blanche"، أو "العاصمة البيضاء"، مزخرفةً من دون نمطٍ عمرانيٍّ واحدٍ، ومنظّم"؛ هكذا يستهلّ المحامي وأستاذ القانون في جامعة باتنة الجزائرية، نجيب بيطام، حديثه إلى رصيف22، حول أهم الجوانب القانونية التي تخصّ تشويه المُدن الجزائرية، بكل أسبابها، مضيفاً: "على الرغم من وجود القوانين العُمرانية، والمعايير التي تنظّم هذا المجال، لا توجد متابعة، ولا مراقبة أو تطبيق، من طرف شرطة العمران، أو جهات الرقابة التقنية في البلديات، التي تركّز جهدها غالباً على محاربة البناء الفوضوي فحسب".
"أسوء نمطٍ عمرانيٍّ في قارة إفريقيا، هو النمط العمراني الموجود في الجزائر؛ فقطاع غزّة، بكل ما جرى فيه من حروب، مزيّن باللون الأبيض فحسب، في حين أنك تجد الجزائر العاصمة، الملقّبة 'Alger la blanche' مزخرفةً من دون نمطٍ عمرانيٍّ واحدٍ، ومنظّم"
وعن آلية حلّ هذه الأزمة التي تعاني منها الجزائر الآن، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، قال بيطام: "وجب سنّ قوانين وتشريعات أكثر صرامةً، توجب منح رخصٍ مرفقةٍ بتعهّدٍ لاستكمال البناء وفق الضوابط والمعايير، خاصةً من ناحية الحفاظ على الشكل الخارجي، ويشمل ذلك تصميم البناء، وطلاء المنزل من الخارج، مع معاقبة المخالفين لهذه التشريعات بشدّة، لتنظيم النمط العمراني في البلد، والحفاظ عليه من التشوّهات".
العشوائيات والبيوت القصديرية... مزيد من التشويه
همٌّ على همٍّ، يزيد من تشويه العمران المشوّه أصلاً؛ هذا ما يمكن أن توصف به العشوائيات المترامية على أطراف المدن. بيوت قصديرية، وأخرى فوضوية، تُبنى بطريقةٍ عشوائيةٍ، بعضها على ضفاف الوديان، والأخرى على سفوح الجبال، وقد تجدها حتى في قلب المدن، تتكاثر كفطرياتٍ لا يمكن اجتثاثها، مهما بذلت السلطة من جهودٍ، فلا يكاد يُزال حيٌّ قصديريّ حتى يُبنى آخر على أطلاله.
أصحاب هذه البيوت المزرية، بعضهم لم يجد مأوى، وكثيرون منهم اختاروا هذا النمط من الحياة، ليضعوا السلطات أمام الأمر الواقع، بغية الحصول على مسكنٍ اجتماعي، ليس للبيع أو الكراء، ليعود إلى نقطة البداية، إلى البيت القصديري، مستعملاً حيلاً وأساليب ملتوية، علّه يظفر ببيتٍ آخر على نفقة الدولة، وعلى حساب من هم أحوج منه إلى هذا السقف، حتى أن بعضهم خلق شبكاتٍ خلف الكواليس، تتكوّن من سماسرة بيوت قصديرية، تباع بمبالغ تتجاوز الـ50 مليون سنتيم.
مشكلة العشوائيات التي يثقل كاهل الدولة، عايشها النائب في البرلمان الجزائري عن حزب حركة البناء الوطني، علال بوثلجة، الذي تولّى من قبل منصب رئيس بلدية سيدي موسى، في جنوب شرق العاصمة الجزائر، إذ يؤكد في تصريح لرصيف22، أن الدولة "بذلت مجهوداً جبّاراً، وما بنته من مساكن يلبّي الطلب الداخلي، لكن الإشكال يكمن في كيفية توزيعها، ومن يستفيد منها؟ وهذا سبب من أسباب انتشار البناء الفوضوي والعشوائيات، التي أفسدت بشكلٍ كبيرٍ الجمالية العمرانية في البلاد. يجب فتح مشاورات وطنية لإعادة النظر في القوانين، وأقترح أن ننشئ هيئةً وطنيةً لمحاربة البناء الفوضوي بأشكاله كلها، ويجب أن تكون هذه الهيئة مستقلّةً حتى تضرب بيدٍ من حديد".
تآكل البنايات الفرنسية القديمة، بسبب غياب عمليات الترميم، وافتقار النمط العمراني الجديد إلى اللمسة الإبداعية، وتغليب سياسة الكم على حساب النوع، فضلاً عن عدم اعتماد غالبية المواطنين على مكاتب الدراسات في تصميم منازلهم، وأخيراً العشوائيات والبنايات الفوضوية، خمسة عوامل رئيسية تتسبّب مجتمعةً في تشوّه النمط العمراني، وانسلاخه عن الهوية الجزائرية، بأبعادها الإسلامية والمغاربية والأمازيغية، وهو ما يفرض على السلطات العليا في البلاد، مراجعة الإطار القانوني، ومضاعفة جهودها لفرض الانضباط العمراني، وتحسين وجه المدن والقرى الجزائرية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...