شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
حكايات محجوبة من الحراك الجزائري

حكايات محجوبة من الحراك الجزائري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأحد 1 مايو 202205:42 م

في يوم ما خرج الشارع الجزائري في صورة حراك مفاجئ، وبعد 3 سنوات لم يتغير شيء في مبنى ومعنى الصورة. ظاهرياً انمحى الحراك من الصورة، وباطنياً ظل مسكوناً بمعاني الحرية والانعتاق.

بقيت عربات البوليس كل جمعة وثلاثاء رابضة ومنهكة في نفس الشوارع التي سارت فيها المظاهرات، تترقب وتتأهب، وبقي معها كذلك رجال الأمن بمختلف أسلاكهم على حالهم منتشرين، وكأنهم يثبتون الإطار الذي شكل تلك الصورة في ذلك اليوم الذي حدث فيه شيء هنا. تراوح الشوارع مكانها، فيما الحراك مغيب أو كان حلماً وانطفأ أو لعله اختُطف.

1

في ذلك اليوم سلم الراحل الفريق قايد صالح بحضور رئيس المجلس الدستوري الطيب بلعيز الرجل الوفي وابن مدينة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، سلمه رسالة رسمية عليها ختم الرئاسة الذي شاع أنه مفقود وسرق. ظهر هذا الأخير على كرسي متحرك في غرفة ضيقة رفقة الراحل عبد القادر بن صالح رئيس مجلس الأمة. اللافت في تلك اللقطات التي نقلها التلفزيون الجزائري أنه لم يكن يتصفح الرسالة بشكل سريع بل كان يدقق ويمحص فيها بعينيه الرزقاويتين.

بدا يقرأ ببطء ويمعن فيها بتؤدة وحرص شديد. عاكست تلك اللقطات المقتضبة ما سربته آلة الدعاية والشائعات على أنه فاقد للوعي والعقل، ضائع في مهب التيه والغياب، ولم تعد له القدرة على التركيز والتميز. هل أدركَ أن ما كان يقرأه مرتبط بمصيره النهائي أم كان يحدس بين السطور التي كانت تلمع في الورقة أن مستقبلاً صعباً ينتظر البلاد فقرر التسليم بالاستقالة التي فرضت عليه كما يقول محيطه القريب، وبمحض إرادته قبلها وهو المعروف بعناده المكابر؟

كان المشهد مضحكاً ومخزياً وصادماً وكاريكاتورياً، ولكن في عمقه استترت عصابة نهبت وأفسدت وحولت الخيرات والأموال إلى جيوبها وهربتها إلى ملاذات آمنة

أم أدرك أن الأرض التي اهتزت في ذلك اليوم تحت قدمي النظام وانغمس فيه طيلة عشرين سنة وعاثت فيه بطانته ما شاءت لها الظروف أن عاثت، هي أرض تعبت وارتوت بما يكفي من دماء، فآثر الانسحاب وتركها تستريح علّها تخرج أخيراً من الكمون الجاثم على صدرها إلى رحابة الواسع من الحياة؟ أم حدس أن لا شيء سيحدث، بل ستزادد الأمور تعقيداً فلعنها في سرّه، وهاهي لعناته حتى بعد أن رحل تبسط جناحيها، وترفع نفحات البركات التي كانت تنهمر من السماء كما يقولون اليوم، وهي اليوم تحجم عن أن تمطر رغم كثرة الأدعية والصلوات؟

2

كانوا أكثرمن ستة أشخاص أو يزيدون. اجتمعوا خارج الأمكنة المعروفة والفضاءات المعسوسة، في قاعة تنضح بنسمات هواء مختلط يساري شيوعي ليبرالي وتقدمي وغيرها من الفذلكات العديدة التي حاولت جاهدة أن تمرق في قلب الجزائر. طيروا أفكاراً متناقضة. احتدمت النقاشات وتصارعت بين أفواههم وتمزقت في عقولهم وكتمت على أنفاسهم. ستة أشخاص أو يزيدون، تقاطعت رؤاهم المتنافرة حول المصير ومستقبل البلاد. كانوا يرون أنهم الفرقة الناجية من ضلال الفرق الأخرى التي رضيت بالركون والخنوع لنظام تمسك بإطار (كادر) يحمل صورة الرئيس بوتفليقة، يقدمونه في كل حدث أو تظاهرة أو تجمع.

كان المشهد مضحكاً ومخزياً وصادماً وكاريكاتورياً، ولكن في عمقه استترت مافيا وعصابة نهبت وأفسدت وحولت الخيرات والأموال إلى جيوبها وهربتها إلى ملاذات آمنة، وأحكمت على القرارات الكبرى للدولة.

بعد ساعات من النقاش والسؤال والشرح والتأويل والصراخ، ولكي يفك اشتباك السفسطة والجدل وخشونة النقاشات، قال الكاتب أحميدة عياشي وهو يرفع نظارتيه قليلاً: نحن نحتاج إلى رئيس بمواصفات معينة نتفق عليها؛ أهمها: ألا يتجاوز سنه الأربعين. نظروا إلى بعضهم في حيرة، أعقبه لغط هرج وبلبلة وقعقعة واصطكاك كلمات بين الأسنان. لم ترتسم في رأس أي منهم صورة لأحد بهذا السن. انفض الاجتماع، وظل حلم الرجل الأربعيني كرئيس الجزائر المقبل زاهداً في الخروج ربما للأبد.

3

لم يحظ المترشح لرئاسيات 2019 عز الدين ميهوبي الكاتب والشاعر المعروف بأي لقاء مباشر مع الرجل القوي في منظومة المؤسسة العسكرية في عهد الفريق الراحل قايد صالح، مدير الأمن الداخلي واللواء المسجون حالياً واسيني بوعزة. على الأرجح اتصل به هاتفياً مرة أو مرتين. كان التواصل معه يتم عبر ضباط سامين وهم من تكفلوا وعملوا بكل الطرق خفية وظاهرة من أجل تعبيد الطريق الشائك لكي يفوز ميهوبي بالانتخابات الرئاسية.

بقي السؤال معلقاً في عنق الكثير من كبار الضباط إلى الآن: كيف تسنى لمجرد مسؤول طبيعة عمله مرتكزة على كل ما له علاقة بالأشغال العمومية والحفر والبناء، أن يصبح مسؤولاً مطلقاً على أمن الجيش؟

تم تجنيد ضباط الأمن الداخلي في كل ولاية بمراكز البحث والتحري CTR، وجرت بينهم تعليمات فائقة السرية لكسر أي فرصة لنجاح المترشحين الآخرين. واصطف خلف هؤلاء ملل ونحل وفرق وجماعات من مشارب شتى مالية وسياسية وإعلامية وتنظيمية، ينفذون هذه التعليمات التي بقيت إلى اليوم غامضة من حيث الجهة الحقيقية التي كانت تقف وراءها.

فهل كانت صادرة عن من يعرفون بالعصابة المسجونين حالياً زمرة السعيد بوتفليقة المتنفذة؟ أم أنها كانت محصورة في الجهة التي تتخفى وراء اللواء بوعزة وتيار ما عرف لدى الرأي العام بالباديسية النوفمبرية؟ أم أنها كانت فقط مجرد رغبة لتجريب وجه جديد يمكنه أن يقلب النظام شكلاً وصورة، والذي طالب الحراك برحيله كاملاً غير منقوص.

لا يعرف كثيراً عن مسار واسيني بوعزة الذي تمت إدانته بالخيانة العظمى وتنزيل رتبته إلى صف جندي بسيط. لم يتمرس في القواعد الخلفية للعمل الاستخباراتي والتجسس. كان مجرد مسؤول عن الأشغال العمومية المرتبطة بالمشاريع الكبرى لوزارة الدفاع الوطني. رقي إلى هذا المنصب الحساس داخل المؤسسة العسكرية حين علت أمواج الحراك وتلمست طريقها نحو الفوضى العارمة.

لم تكن هذه الترقية اللافتة بسبب كفاءته أو ذكائه أو تميزه، بل بسبب معرفته بمعلومة تدوالت وسط دوائر ضيقة مفادها استعداد محيط السعيد بوتفليقة لإزاحة الفريق قايد صالح من على رأس المؤسسة. وباح بهذه المعلومة رجل الأعمال كونيناف المسجون حالياً، والذي كما هو معلوم استحوذ على كبريات مشاريع وزارة الدفاع في مجال البناءات الضخمة وغيرها. باح بها في جلسة خاصة حضرها بوعزة، وفي غفلة من هؤلاء نقلها مباشرة إلى مسؤوله آنذاك اللواء عمار عمراني أحد أهم المقربين من الفريق قايد صالح حيث اتصل بهذا الأخير على عجل، وطلب منه استقبال بوعزة لأمر هام جداً وهو ما تم.

من ثم اعتبر القايد صالح أن هذه المعلومة القيمة بمثابة عملية تجسس عالية السرية خاصة وأنها جاءت في قلب قلاقل واضطرابات مبهمة عاشها النظام عشية حراك مفاجئ تصاعد غضبه واحتد ضد كل رموز النظام ساسة وعسكراً. من هنا وثق القايد ببوعزة وانتشله من براثن الأشغال العمومية، ومنحه صلاحيات واسعة ومطلقة داخل دائرة أمن الجيش، وهو ما شكل فارقة وخلف علامات استفهام كبرى حول مدى التخبط الذي كانت تعاني منه المؤسسة العسكرية آنذاك في تقدير الأمور والمهام الجسام التي عليها مواجهتها.

وبقي السؤال معلقاً في عنق الكثير من كبار الضباط إلى الآن: كيف تسنى لمجرد مسؤول طبيعة عمله مرتكزة على كل ما له علاقة بالأشغال العمومية والحفر والبناء، أن يتقلد في تلك اللحظة العصيبة من تاريخ الجزائر، منصباً خطيراً وعالي الحساسية ويصبح مسؤولاً مطلقاً على أمن الجيش؟

4

سيطر الفريق الراحل القايد صالح، رئيس أركان الجيش الشعبي، على كل شيء في تلك اللحظات المفصلية التي دقت على أبواب الجزائر. واتته صروف أقدار غامضة تجمعت بين يديه كي يغدو وحده الحاكم المطلق في عليائه، لا أحد عارض أو نطق بكلمة أو جملة تناقض ما كان يفعله أو ما يقدم عليه أو يقوله. أصبح جباراً.

تلك علامات قوة خفية أتت على حين غرة لرجل كان منبوذاً من زملائه ومغيباً، ومحل سخرية من مستواه وقيمته. كان يــُهمس عليه في أذن الرئيس بوتفليقة، ولكنه لم يكن يولي كل هذا أهمية، بل عزز مكانته وعمد إلى تعينه في المنصب الأعلى داخل المؤسسة إمعاناً في صراعه ضد النواة الصلبة التي فتح معها، منذ أن أصبح رئيساً للبلاد، جبهات محتدمة في الظاهر والباطن.

في محيطه العسكري لا أحد كان يرفع صوته أو يحتج أو يعطي رأياً مخالفاً. كانوا ينفذون ما يقوله. طغى صوته على كل الأصوات. يعرفون أنه يمشي في طريق مسدود وأفق مغلق ولكنهم لم يقدروا على منعه أو الوقوف ضده. آثروا صمتاً محيراً وطاعة صماء وخضوعاً غير مفهوم أو مبرر؛ فهم ليسوا ضعفاء أو غير قادرين على ردعه أو رفع الإشارات الحمراء في وجهه. يثير أمر ما غضبه فيشير إلى الردع واتخاذ إجراءات على الفور دون لف ولا دوران، وصف بعضها بالعبثية والتصفية.

عندما يخلد إلى الراحة في مكتبه، تقلب الدنيا وتقعد وتضطرب، فقد طلب أن تبث مباشرة بعد نشرة الواحدة ظهراً سلسلة تلفزيونية قديمة من زمن الستينيات عنوانها "The Green Hornet" (الدبور الأخضر)، بطلها ممثل الفنون القتالية "بروس لي". عرضت في الثمانينيات على الشاشة الجزائرية، وهو المطلب الذي جند له ضابط سام (ولسخرية الأقدار تم سوقه إلى السجن ضمن مجموعة من الضباط الذين أحاطوا بالقايد ليخرج بعده بريئاً)، وطار بسرعة إلى التلفزيون العمومي، وبذلت جهود جبارة للعثور على السلسلة، وعندما عثر عليها تكفل كل الفريق بدءاً من الضابط إياه إلى العاملين في قسم البرمجة إلى مدير الأخبار آنذاك، بمراجعة السلسلة خوفاً من أن تكون صورها قد أتلفت أو أصبحت غير صالحة للبث، ولما تأكدوا من أن كل شيء جيد، بدأت السلسلة في البث.

اتصل سعيد بوتفليقة بأحد أصدقائه المقربين وسأله أين يمكنه إيجاد نسخة مترجمة إلى الفرنسية من كتاب "رباعيات الخيام"

الصحفي المشهور سعد بوعقبة كتب عموداً قاسياً في إحدى الجرائد ضده، ولما رفع إليه تقريراً عن المقال، أصدر آوامر بإحضاره فوراً. لم يتم اعتقاله، بل اتصل به أحد معارفه من الضباط الكبار الذين يشتغلون في مكتب القايد، وذهب مزهواً معتقداً أن القايد سيكافئه أو يتعاطى معه بشأن المقال، أو يأخذ رأيه ومشورته، غير أن فرحته انقلبت رعباً، فما إن دخل المكتب حتى أوقفه على بعد أمتار وأسمعه كلاماً نابياً وغليظاً. طبعاً حدث بوعقبة بعض أصدقائه أنه تم استدعاؤه، ولكنه أحجم عن ذكر تفاصيل ما حصل له بالضبط، بل اختلق حكاية ورواية بعيدة تماماً عن حقيقة ما حدث له.

خلق الفريق قايد صالح حالة من التشويش والقلق والغضب والحنق، غيب معها في الكثير من الأحيان المنطق والعقل وسداد الرأي والحلول الناجعة. سادت في أعلى هرم المؤسسة وفي غيرها من مؤسسات الدولة تململ ومآزق وانسدادات، وبقدر ما تحاول اليوم المؤسسة تصحيح وفك وحل وتنظيف ما تراكم وتعاظم في عهده، إلا أن الشروخ التي شققت جدارنها المتينة بعد موته، تحتاج إلى اجتياح حقيقي في العمق وثورة عارمة تقطف، ودون ذلك ستظل مخلفات طيفه أو شبحه مهيمنة وساخطة ومؤذية لصورة المؤسسة العسكرية وللبلد كله.

5

مثل أخيه كان يقرأ ويطالع ولكن بشكل متقطع وبحماسة فاترة. اتصل سعيد بوتفليقة بأحد أصدقائه المقربين وسأله أين يمكنه إيجاد نسخة مترجمة إلى الفرنسية من كتاب "رباعيات الخيام". اندهش "ب" من الطلب. كان يظن في تلك اللحظات التي التهبت فيها الشوراع وتضخمت كرة الغضب الرافضة لترشح بوتفليقة للعهدة الخامسة وعزم القايد صالح شن حروب في كل الاتجاهات، في الشوارع، في المؤسسات، في قلب الرئاسة، وفي غيرها.

كان يظن أن آخر همّ السعيد إيجاد وقت لقراءة كتاب وأي كتاب. ترددت –يقول "ب"–، في الرد على المكالمة لأنني كنت أعرف أن الفريق الذي يقف وراء الرجل القوي القايد صالح قد وضع الكل تحت أجهزة التنصت، خاصة في محيط الدائرة الضيقة للرئيس. لم يعد أحد بمأمن عن آلة الاعتقالات التي بدأت تبتلع وتقطف رؤوس النظام وأذرعه، وستمتد لا محالة، لكل من له علاقة من قريب أو بعيد بالنظام، ولكنني سارعت للرد فمهما كان الأمر سأكون حذراً ومقتضباً. هكذا شرح "ب". وانتهت المكالمة الغريبة بأن وجّهته إلى النت لتحميل الكتاب.

6

صعد "ع" سلالم المبنى الفخم لولاية الجزائر. كان يسرع ويلهث. بنى صورة رمادية عما تلمسته عينيه قبل الحراك، وهي الصورة التي اجتهد في رسمها أمام والي العاصمة عبد القادر زوخ، أحد أبرز رجالات بوتفليقة والمسجون حالياً بتهم فساد. ولما أخبره بالأمر، نطق بجملة واحدة بقيت عالقة إلى الآن في رأس "ع": "هكذا كي يعرف السعيد أن الجزائر ليست مـِلـكه". 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard