"بينما كنت مندمجةً مع ألواني، سمعت همساً يدور بين والدتي وجدتي، بأن هذا العريس هو أوّل عريس يطرق بابها واستشهدت بكلامها بمثل شعبي عراقي (البنيّة أوّل سومتها)، وتقصد به تزويج الفتاة بأول شخص يطلب يدها، وفي نهاية الحوار، حذرت الجدة الأم من أنه سوف يصيبها مكروه إن لم تتزوجه، وهذه هي المعتقدات السائدة في مدينتها".
تتحدث أميمة التي تبلغ اليوم من العمر 60 عاماً، من محافظة ميسان، عن تجربتها مع الزواج المبكر، في عمر الحادية عشرة. تذكر أن والدتها بعد تلك الجلسة اقتنعت بضرورة تزويجها خاصةً أنها تزوجت أيضاً في العمر نفسه، وقد أخبرت زوجها وأبنائها، وتم تحديد مراسم عقد القران. في ذلك اليوم سألت أميمة والدتها لماذا هي مبتهجة؟ وما هو السبب الذي يدفعها إلى تزويجها؟ فأجابتها: "لقد بدأتِ بالحيض منذ شهر وهذه إشارة إلى أنك جاهزة لتحمل المسؤولية وتكوين عائلة، وهذا المهم، أما المدرسة فلا فائدة منها"، وهي كانت في الصف الخامس من المرحلة الابتدائية.
أميمة التي تبلغ اليوم من العمر 60 عاماً، من محافظة ميسان، تروي عن تجربتها مع الزواج المبكر، في عمر الحادية عشرة وما عانته مع ابنتها لاحقاً
انتقلت أميمة للعيش مع عائلة زوجها الذي يكبرها بـ25 عاماً، في غرفة صغيرة. تقول إن "الخوف كان مسيطراً على مشاعري حتى وإن لم أفعل أي شي، لأن زوجي كان قاسياً في التعامل معي والضرب بالنسبة إليه عادة يومية".
كانت أميمة تحب الرسم، وقد صنعت تحت السرير مرسماً خاصاً بها، تمارس هوايتها حيناً وتميل إلى اللعب مع قريناتها في العمر من بنات الضيوف عند زيارتهم حيناً آخر، وخصوصاً أن رفيقاتها كانوا يهدونها كرّاسات الرسم والألوان، ويطلبون منها الرسمات الكارتونية والشخصية، فيما زوجها كان يعتقد أن هوايتها هي مضيعة للوقت وعليه أن يصنع منها ربة منزل. اكتشف هوايتها فما كان منه إلّا أن مزّق كُل ما رسمته ورمى ألوانها. لم يكتفِ بذلك، بل أراد أن يتأكد من إنهاء هوياتها تماماً، فكسّر أصابعها ليطمئن.
مرّت الأيام على أميمة، وتعلّمت أن تكون دبلوماسيةً، وعادت إلى ممارسة هوايتها بالسرّ أيضاً، وروّضت نفسها على الهدوء، لأن ابنتها بحاجة إليها ولأنها تُدرك أن عليها القتال كي لا تتعرض ابنتها لما مرّت هي به. تقول: "أخذت عهداً على نفسي أن صغيرتي لن يطالها ما جرى لي، وتفوق ابنتي في المدرسة كان حافزاً مشجعاً لي كي أكمل معها، لقد تعلّمت الرسم وكل ما ترسمه يجعلني أبكي، حزناً وفرحاً في الوقت نفسه".
تُضيف: "عندما صارت ابنتي في سنّ الـ13، وتجاوزت المرحلة الابتدائية، تقدم شخص مقرب لزوجي لخطبة ابنتي، في تلك اللحظة بدأت بتكشير أنيابي فتحولت إلى وحش بشري يلتهم كل من يحاول تعطيل حياة ابنتي، وبدأت بطرد كُل من يجتاز عتبة منزلي لكي يطلب يدها".
كان الصراع بين أميمة وزوجها وأهله في تصاعد دائم إلى أن بدأت بوادر الاستسلام تحل عليهم، فقد تركوا ابنتها وشأنها. تضيف: "في كل مرة نحضر أنا وابنتي زفاف قاصر من عائلتنا، أخبرها بالمصير المشؤوم الذي سيحل بها وبأن مستقبلها زاهر كألوان لوحاتنا، فكانت هذه نصائح مجدية مع ابنتي خوفاً عليها من تجميل الزواج في نظرها من قبل عمّاتها أو جدتها".
عندما صارت ابنتي في سنّ الـ13، وتجاوزت المرحلة الابتدائية، تقدم شخص مقرب لزوجي لخطبة ابنتي، في تلك اللحظة بدأت بتكشير أنيابي فتحولت إلى وحش بشري يلتهم كل من يحاول تعطيل حياة ابنتي، وبدأت بطرد كُل من يجتاز عتبة منزلي لكي يطلب يدها
تحاول منذ أن تأقلمت على جحيمها أن تمنع أو تساعد القاصرات وأمهاتهن على أن يواجهن المجتمع ويرفضن فكرة تسليم بناتهن إلى وحوش كاسرة على حد قولها. هي تحاول بالرغم من أنها تُدرك صعوبة المهمّة فـ"العادات والتقاليد التي سرقت لواحاتها وألوانها تسرق كل يوم الفتيات في مدينتها".
تنظر اليوم أميمة إلى ابنتها بفخر. تشعر بحجم الإنجاز الذي قامت به. هي عاشت سنوات عمرها تصارع لكي تتأقلم، ومن ثم عاشت سنوات أخرى تقاتل لتدخل ابنتها إلى الجامعة وتُكمل دراستها وهكذا حصل. ابنتها اليوم تشارك في المعارض الفنية، والمفرح بالنسبة لها أنها تشارك معها برسماتها أيضاً. تختم حديثها باللهجة العراقية: "كل جروح كلبي طابت من بنتي استلمت أول راتب لها".
"ادفنوني ولا تزوّجوني"
زينب كاظم تبلغ من العمر 38 عاماً حالياً، وهي من محافظة ديالى، وصفت حياتها بأنها غير موجودة أساساً، فهي عبارة عن صراع من أجل البقاء، لأنها كانت تكره ابن عمها بشكل لا يوصف لشدة مضايقته لها في طريق الذهاب إلى المدرسة والإياب منها.
زينب كاظم تبلغ من العمر 38 عاماً حالياً، وهي من محافظة ديالى، وصفت حياتها بأنها غير موجودة أساساً، فهي عبارة عن صراع من أجل البقاء
كان دائماً يثير الفتن بين إخوانها ووالدها بأنها لم ترتدِ الحجاب بصورة صحيحة، أو أن خصلةً من شعرها قد خرجت من الحجاب من دون دراية منها، الأمر الذي أدى الى إنهاء مسيرتها الدراسية. وبالرغم من مضايقته إياها وبالرغم من الكره الذي تحمله في طيات قلبها تجاهه، إلا أن التقاليد كانت قدرها المحتوم ليكون عدو الدراسة هو شريك الحياة.
بعدما ساهم ابن عم زينب في إنهاء مسيرتها الدراسية، تقدم لخطبتها وتم تزويجها منه بالإكراه، تقول: "كنت أردد هذه الكلمات لأهلي ‘ادفنوني ولا تزوجوني ابن عمي’، لكن دون جدوى. أرغموني على الزواج به، فكانت حياتي عبارة عن ضرب ثُم ضرب". حياتها مشابهة لحياة أميمة، فلا شيء مختلف سوى أنها تعيش في ديالى شمال شرق العراق، فيما أميمة تعيش في ميسان جنوب شرق العراق. عانت زينب كثيراً. لم تهرب لأنها لن تترك ابنتها التي ولدتها وهي في الرابعة عشر.
تقول زينب: "في بداية الأمر كنت لا أدرك معنى الأمومة، ولا أدري كيف أتصرف معها، فكيف أغمرها حناناً وأنا لا زلت أشتاق إلى أمي. بعد فترة من الزمن بدأت صغيرتي تذهب إلى المدرسة، وأحياناً حين أتعرض للضرب والتعنيف من قبل زوجي تُقبل على مسح دموعي وتغمرني وتخفف من حزني ووجعي. في كل مرة كلماتها كانت الداعم الوحيد في وسطٍ مجتمعي رجعي، وكلماتها وهي صغيرة ترن في أذني إلى اليوم ‘ماما من أكبر اشتغل وآخذج ونعيش وحدنا’".
تضيف: "مع الوقت بدأت الحياة تتغير في نظري وصغيرتي بدأت تكبر وانتقلت إلى المرحلة المتوسطة بعد اجتيازها المرحلة الأولى من دراستها، والكابوس الذي سيطر على حياتي طرق باب حياة ابنتي، ففي إحدى زيارات أخت زوجي طلبت يد ابنتي من ولدها بحجة أن ولدها سيء السمعة والسيرة والسلوك ويتعاطى الكحول بشكل يومي، فمن أجل تربيته أرادت أن تخطب له فتاةً حتى يستقل في نظرها، فوافق زوجي على الفور".
شقيت حنان وتعبت وهي كانت في سن العشرين حين تطلقت. عاهدت نفسها وأولادها بأنها ستعمل كُل ما في وسعها كي تحميهم. فـ"والله ما أخلي بنتي تعيش إلّي آني عشته"
قابلت زينب الموضوع في البداية بدبلوماسية، وطلبت منهم التأجيل إلى أن تكمل دراستها المتوسطة، وأقنعت ابنتها بأن هذا الحل سيمكنهما من شراء بعض الوقت إلّا أن عمّة ابنتها رفضت هذا الأمر وأخبرت زوج زينب أن ابنتها سوف تتزوج وبيتهم بحاجة إلى امرأة من أجل الأعمال المنزلية ولتسلية ولدها".
تقول: "تم تحديد موعد عقد القران ورأيت كيف انهارت ابنتي من البكاء وهي تستغيث بي، فأقنعتها بأن توافق على هذا العرض وفي الصباح الباكر سنذهب إلى بغداد وكنت قد شاهدت إعلان منظمة نسوية في التلفاز. بدأت بتجهيز حاجياتنا في الليل وبكل صمت انتقلت إلى بغداد وبعد معاناة وصلت إلى هذه المنظمة التي لن أنسى فضلها لأنها كانت تحميني في كل مرة من تهديدات أهلي وأهل زوجي".
في المنظمة اكتشفوا أن زينب تملك موهبة الخياطة، فساعدوها على فتح مشروعها الخاص، وبدأ مشوار عملها ومساعدة ابنتها على أن تُكمل دراستها. وهي لن تنسى يوم احتفال ابنتها في مناسبة التعارف في كلية الطب، وهي الآن طالبة ناجحة. تختم زينب حديثها: "بعد سنتين بنتي تصير دكتورة واحصد ثمار تعبي".
كذلك فعلت حنان عبد الكاظم حسن. التي هربت بأولادها، وبالرغم من محاولات زوجها بأن يأخذ منها ابنتها كي يزوجها، استطاعت أن تشغل الرأي العام والمنظمات المحلية والدولية كي تعيد ابنتها إليها، وهكذا حصل. شقيت حنان وتعبت وهي كانت في سن العشرين حين تطلقت. عاهدت نفسها وأولادها بأنها ستعمل كُل ما في وسعها كي تحميهم. فـ"والله ما أخلي بنتي تعيش إلّي آني عشته".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون