أمام شرفتها المطلة على الشارع تتأمل هـ.م (24 عاماً) يومياً بقايا حلمها ببريق الشاشة الذي رافقها منذ مراهقتها حتى أيام دراستها في كلية الإعلام من دون أن تتوقع انتهاءه بلمسة جسد قام بها مسؤول قسم المراسلين في الفضائية الخاصة التي عملت فيها مراسلةً بعد التخرج، لينتهي بها المطاف جليسة المنزل بعدما اضطرت للاستقالة وتقديم شكوى لدى مدير القناة.
تروي هـ.م. حادثة التحرش التي تعرضت لها قائلة: "بعد تخرجي من الجامعة عملت مراسلة في فضائية معروفة، وذات يوم ذهبت الى غرفة تسجيل الصوت، فدخل خلفي المسؤول عن المراسلين وأغلق الباب. اقترب مني ومد يده باتجاه رقبتي، محاولاً إدخالها إلى جسدي، فأمسكت بها وصرخت: ماذا تريد مني؟ رد: أريد علاقة جنسية معك، فدفعته وتوجهت إلى مدير القناة لتقديم شكوى، فحمّلني المدير المسؤولية ثم طردني بينما لا يزال المتحرش يعمل في القناة حتى اللحظة".
وتحاول الفتاة التي فقدت والدها في حادث إرهابي عام 2006 تجاوز صدمة ما حصل بعدما اتخذت قراراً نهائياً بالابتعاد عن العمل في مجال الإعلام، وتخطي صعوبة فقدان المهنة التي أحبتها لأنها تخشى من تكرار ما حصل.
الشهرة مقابل المحظور
خلف بريق الشاشة وأضواء الشهرة في العراق، هنالك ما هو مسكوت عنه، إذ تتعرض عاملات في مجال الإعلام لآثاره، بينما تؤثر غالبيتهن السكوت خوفاً على مستقبلهن المهني من جهة، وعلى سمعتهن من العار ووصمة المجتمع من جهة أخرى.
بينما أخفت هـ.م هويتها حفاظاً على سمعتها، كانت الإعلامية أميرة الجابر أكثر جرأة في الحديث عما تعرضت له من قبل مدير المحطة الفضائية التي عملت فيها.
تقول: "تدرجت بالعمل في إحدى المحطات الفضائية في بغداد حتى أصبحت مقدمة برامج. وبعد فترة دعاني مدير القناة لاجتماع منفرد، ثم طلب مني بشكل صريح أن أكون عشيقته، وحين رفضت بشدة، أمر بإيقاف البرنامج وطردي".
وتجزم الجابر بأن حظوظها في العمل مع القنوات الأخرى شبه معدومة لجرأتها في فضح حالات الاستغلال والابتزاز التي تعرضت لها، لافتة إلى أنها تقدمت بشكوى لدى الأجهزة الأمنية، وقدمت أدلة ورسائل تدينه، لكن "لم يحصل للمتحرش شيء يذكر لأنه نجل أحد السياسيين برغم أنه امتنع عن منحي استحقاقي المالي للشهرين الأخيرين"، على قول الجابر.
ولأنها تعيل طفلتها ووالدتها، تتابع الجابر البحث عن فرصة عمل أخرى، لكن ذلك يصطدم دائماً بالقلق والخوف من رغبات المديرين والمتنفذين في المؤسسات الإعلامية، بينما تصر على المشاركة في توعية باقي الإعلاميات وتشجيعهن على الحديث عن تعرضهن للتحرش وكشف المتحرشين.
تحرش شبه حكومي
لا يقتصر التحرش بالإعلاميات على المحطات الفضائية التجارية والخاصة، إذ لم تسلم آن صلاح (34 عاماً) وهي مراسلة ومقدمة برامج في قناة "العراقية" شبه الحكومية، من تحرش أحد المسؤولين، لتواجه الفصل أيضاً من العمل بعدما اشتكت.
وتروي صلاح: "كنت قد تدرجت في قناة العراقية شبه الحكومية من مراسلة إلى مقدمة برامج، وتعرضت من قبل أحد المسؤولين عني للتحرش اللفظي أكثر من مرة. في البداية، حاولت صدّه بالطرق الطبيعية من دون تصعيد، لكنه لم يتوقف إلى أن امتلكت دليلاً على محاولاته وقررت أن أسلك المسار القانوني".
وتوضح: "سجلت إحدى مكالماته معي، وقدمتها إلى هيئة أمناء شبكة الإعلام العراقي، وبعد التحقيق تم إجراء اللازم فنُقل الى منصب أقل من منصبه في مكان آخر، وقُلصت صلاحياته السابقة، لكنني فوجئت بعد شهر بحركة انتقامية وجرى فصلي".
"تدرجت بالعمل في إحدى المحطات الفضائية في بغداد حتى أصبحت مقدمة برامج. وبعد فترة دعاني مدير القناة لاجتماع منفرد، ثم طلب مني بشكل صريح أن أكون عشيقته، وحين رفضت، أمر بإيقاف البرنامج وطردي"... تحقيق استقصائي يكشف المسكوت عنه خلف أحلام الشاشة
تم إنصاف صلاح بعد فترة من فصلها وتقدمها للتظلم مرة أخرى، فأُعيدت بعد شهر مقدمة برامج في القناة. تكمل حديثها بالقول: "بعد مرور أشهر على الحادثة، التقيت المتحرش وعاتبني لماذا فعلت به ذلك، ثم هددني بالقول: أنا رجل غني وأستطيع استئجار شخص يضرب قدميك بطلقتين ويجعلك مقعدة طوال العمر".
تمارس صلاح عملها الآن، لكنها لم تتجاوز بعد التداعيات النفسية لما عاشته من تهديد وتحرش، مشددة على أن قوة شخصيتها هي التي دفعتها لمواجهة الأمر وهو ما لا تستطيع الكثير من الإعلاميات اللجوء إليه خوفاً من النظرة التي ستطاردهن في المجتمع أو في الوسط الإعلامي".
يصمتن خوفاً على فرصة العمل… وسمعتهن
في العام 2012، أجرى "منتدى الإعلاميات العراقيات" دراسة عن التحرش توصلت إلى نقاط واستنتاجات مهمة تؤكد تعرض أكثر من نصف المبحوثات للتحرش، لكنهن يفضلن السكوت خوفاً على سمعتهن وإضاعة فرص العمل.
وتشرح رئيسة المنتدى نبراس المعموري نتائج الدراسة بالقول: "68 في المئة من المستطلعة آراؤهن أكدن تعرضهن للتحرش، حينذاك حدثت ضجة في الوسط الصحافي في العراق".
وتضيف: "تعرض المنتدى عقب إجراء الاستطلاع لهجمة كبيرة من قبل مؤسسات وشخصيات مختلفة لتطرقه إلى قضية يُفترض أنها محرمة تسيء لسمعة المجتمع العراقي والوسط الإعلامي فيها كما يرى المنتقدون، وهو ما سحب الأضواء عن تلك الاستبيانات".
رفض الاعتراف بـ"الظاهرة"
توجهنا إلى نقابة الصحافيين العراقيين، لكننا جوبهنا بعدم اعترافها بنتائج استطلاع المنتدى ولا بما توصلنا إليه من حالات.
ترد العضو في مجلسها سناء النقاش بالقول: "أجرينا استطلاعاً خاصاً بنا فور خروج نتائج استطلاع المنتدى، وخلصت نتائجه إلى أن نسبة التحرش لم تتجاوز الاثنين في المئة، وهو ما يتطابق مع رؤيتها بعدم ارتقائه لمستوى الظاهرة".
وتضيف النقاش: "استبياننا شمل 200 صحافية وإعلامية، وتضمن 38 سؤالاً عن مختلف الحالات التي يواجهنها، فكانت الإجابات عن موضوع التحرش محدودة برغم أننا لم نطلب ذكر الاسم"، لافتة الى أن "خمس نساء منهن تعرضن للتحرش، وأربعاً واجهن تحرشاً لفظياً، وواحدة ذكرت أنها تعرضت للمس الجسدي".
ماذا حصل مع 100 إعلامية وصحافية؟
بين استطلاع وآخر، سعينا لإجراء استطلاع جديد أشركنا فيه كوادر أكاديمية عاملة في جامعات عراقية رصينة لتوزيع الاستبيان على 100 إعلامية وصحافية مارسن المهنة في مختلف المحافظات العراقية، وكانت النتيجة تعرض ما يقارب 90 في المئة ممن شملهن الاستبيان للتحرش، و67 في المئة لتحرش لفظي و22 في المئة للتحرش الجسدي.
أظهر استبيان وُزّع على 100 إعلامية وصحافية في مختلف المحافظات العراقية، تعرض ما يقارب 90 في المئة منهن للتحرش بشكل عام، و67 في المئة لتحرش لفظي و22 في المئة لتحرش الجسدي... لكن كثيرات يفضلن الصمت خوفاً على فرصة العمل والسمعة
وبيّنت نتائج الاستطلاع الذي قمنا به أن 52 في المئة تعرضن بشكل مباشر للتحرش أثناء العمل، والباقي عبر الهاتف أو مواقع التواصل الاجتماعي، علماً أن أغلبية المتحرَّش بهن فضلن عدم إبلاغ الإدارة خوفاً على "مستقبلهن العملي".
أما اللواتي تقدمن بشكوى، فإن إجراءات الإدارة كانت كالتالي: 35 في المئة من الحالات لم تتخذ الإدارة أي إجراء إزاء المتحرش، فيما وجهت إنذاراً إليه في 30 في المئة من الحالات، وفي 17 في المئة فصلت المتحرشين.
وأظهر الاستطلاع التي قمنا بها حول التحرش بالعاملات في المجال الصحافي والإعلامي كذلك حقيقة مهمة، هي نفور من يتم التحرش بها من فكرة إبلاغ أفراد العائلة مفضلةً اللجوء إلى زملاء وأصدقاء خوفاً من ردة فعل الأهل الذين قد يطلبون منها ترك العمل والبقاء في المنزل، ناهيك بنتائج التقدم للإدارات بالشكوى التي انتهت في أكثر الأحيان نهاية سلبية وانتقامية.
وكشف الاستطلاع عن أن أكثر من 61 في المئة من المبحوثات اخترن التجاهل خوفاً من نظرة المجتمع أو خسارة العمل، وأن 36 في المئة منهن أخبرن زملاء بتعرضهن للتحرش، فيما لم تبلغ سوى اثنتين في المئة والدها أو أخاها.
"عناصر الشرطة يقومون بالتحرش أحياناً"
عزت الناشطة الحقوقية دنيا أكرم امتناع من يتم التحرش بهن عن تقديم شكوى إلى "ضعف القوانين وتطبيقها حتى من قبل الجهات التي يفترض بها الدفاع عنهن، والحد من هذه الظاهرة".
وأوضحت أن "دور الشرطة المجتمعية ليس مفعّلاً على نحو صحيح، فتفعيل العقوبات الموجودة أصلاً في القانون ضد التحرش سيحد من تلك الظاهرة، لكن لا أحد ينفذه، بل إن عناصر الشرطة والجيش هم من يقومون بالتحرش أحياناً".
الشرطة المجتمعية
يُقر العميد خالد المحنا، مدير الشرطة المجتمعية (أثناء إجراء التحقيق)، الذي بات يشغل اليوم منصب المتحدث الرسمي باسم وزارة الداخلية بـ"اتساع ظاهرة التحرش إلى جانب غياب الثقافة لدى بعض أفراد الشرطة، وهو الدافع لتأسيس الشرطة المجتمعية التي تشكلت عام 2008، وأبرز أسباب تشكيلها معالجة الظواهر المجتمعية المخطئة، منها التحرش".
ويشير المحنا الى أن "جزءاً من تفاقم المشكلة يكمن في أن غالبية النساء يخشين من إبلاغ رجال الشرطة أو ذويهن أو حتى المؤسسة التي ينتمين إليها"، لافتاً إلى أن "قيادة وزارة الداخلية عازمة على محاربة الظواهر السلبية وتثقيف وأجهزة الشرطة حتى تكون في خدمة المواطن".
ماذا عن الرادع القانوني؟
ينص قانون العقوبات لعام 1969 بوضوح على أنواع عقوبات مختلفة، وفقاً لنوع التحرش، لكنها لا تُطبّق خوفاً من وصمة العار، وفق قول الخبير القانوني طارق حرب.
وتنص المادة (396) من قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة (1969) على المعاقبة بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات على من اعتدى بالقوة أو التهديد أو بالحيلة أو بأي وجه آخر من أوجه عدم الرضا على عرض شخص ذكراً أو أنثى أو شَرَع في ذلك.
و"إذا كان من وقعت عليه الجريمة لم يبلغ من العمر ثماني عشرة سنة أو كان مرتكبها ممن أشير إليهم في الفقرة (2) من المادة (393) تكون العقوبة السجن مدة لا تزيد على عشر سنين".
كما تنص المادة (397) على أنه "يُعاقب بالحبس من اعتدى بغير قوة أو تهديد أو حيلة على عرض شخص ذكراً أو أنثى لم يتم الثامنة عشرة من عمره، فإذا كان مرتكب الجريمة ممن أُشير إليهم في الفقرة (2) من المادة (393) تكون العقوبة السجن مدة لا تزيد على سبع سنوات أو بالحبس".
وعلى الرغم من كسر الكثير من الحواجز التي تحيط بالمرأة، لا سيما بعد ثورة تشرين التي اندلعت في العراق وشهدت مشاركة قوية للنساء، فإن تجربة التحرش لا تزال تربك كثيرات يترددن في فضحها.
وفيما لا تزال هـ.م. منتظرة الفرج، اختارت أميرة التعبير عن غضبها من خلال وجودها المكثف في ساحات الاحتجاج يومياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع