عندما تَقدَّم فوزي من شباك مكتب الودائع والأمانات في محطة النقل البري في مدينة تطاوين، جنوبي تونس، وسأل عن أمانة قادمة من العاصمة من طرف أحد أصدقائه، تغيّر لون وجه الموظف الجالس خلف المكتب، ثم دخل سريعاً نحو مقصورة صغيرة وأجرى مكالمة هاتفية، ثم عاد محاولاً إضاعة الوقت.
لم يمضِ وقت طويل حتى انقضّ ثلاثة ضباط من فرقة أمن الدولة على فوزي واضعين الحديد في يديه، وعندما خرجوا به مخفوراً نحو باحة المحطة الخارجية كانت الباحة تضيق بسيارات الأمن وسط ذهول المسافرين والمودعين.
عبثاً حاول فوزي أن يسأل عن سبب اعتقاله. وعندما وصلت السيارة إلى مقر الفرقة اقتيد إلى مكتب رئيسها مباشرة، وكان الأخير يتحرق شوقاً لتفكيك التنظيم الذي يهدد أمن الوطن، وربما كان يحلم بنجمة جديدة على كتفيه وحفلة تكريم أو منصب أرقى بعيداً عن مجاهل الصحراء. راح يفرك يديه ويخفي ربع ابتسامة تحت شفاهه الزرقاء، ثم أخرج من درج مكتبه ظرفاً كبيراً يبدو سميكاً، واستلّ من جوفه ثلاث نسخ من كتاب تتصدر غلافه صورة مقاتل إرهابي، تبدو لحيته كثيفة، وعلى وجهه طفت نوايا القتل واضحةً.
ثم توجه نحو فوزي: "مَن أرسل لك هذا الطرد؟". هنا، شعر فوزي بقليل من الراحة، وقد اكتشف أن سوء تفاهم قد حدث، وأن الأمر لا يستحق كل هذا، فأجابه: "صديقي يسكن في العاصمة وقد نشر كتاباً حول الإرهاب منذ أيام فأرسل لي ولصديقين آخرين، أحدهما مدرّس ونقابي والثاني صديق من ليبيا مهتم بالثقافة، نسخاً هدية منه". هنا، تحوّلت ربع ابتسامة الضابط إلى ضحكة ماكرة، فقد أحس أن الأمر لا يتعلق بمجرد تنظيم محلي صغير، بل بمنظمة دولية خطيرة تقود في الخفاء مؤامرة كونية ضد الدولة الوطنية.
في هذه الأثناء، كانت سيارات أمن الدولة تذرع طرقات المدينة الترابية البائسة بحثاً عن صديقَيّ فوزي، عضويّ التنظيم الخطير الذي يتلقى الكتب الخطيرة في طرود مغلقة قادمة من العاصمة. ولأن المدينة صغيرة، لم يكن من العسير العثور عليهما وحملهما إلى الفرقة الأمنية، ليبدأ فصل آخر من فصول تفكيك التنظيم الخطير ووأّد المؤامرة الكونية في المهد.
كان رئيس الفرقة مصراً على أن وراء الأكمة ما وراءها، فقرر بدافع الذود عن الوطن من المخربين والعملاء نقل المعتقلين نحو فرقة أمن الدولة في مدينة مدنين، أي إلى مستوى أعلى من البحث والتحقيق. حُملوا على متن سيارة دفع رباعي بيضاء، ليبدأ الفصل الأكثر هزلاً في الحكاية.
كانت فرقة مدنين تعيش حالة طوارئ في انتظار أعضاء التنظيم الخطير. بدأ البحث بالسؤال عن مُرسل الطرد، ثم كشف المحقق عن ذكاء خارق عندما فتح الصفحة الأولى من الكتاب ليجد إهداءً صغيراً لكل واحد منهم، لكأنه قال في سره "وجدتها!" فأطلق واثقاً سؤالاً خطيراً: "ما هذا الكلام المكتوب هنا؟ أليس رسالة مشفرة؟". لم يستطع صديق فوزي النقابي أن يمسك نفسه عن الضحك، ثم تماسك قليلاً وقال له: "لا أدري إنْ كنت قد تلقيت سابقاً هدية من كاتب أو زرت حفل توقيع كتاب في مكان ما، ولكن هذا يسمّى إهداء، يضعه الكاتب لمَن يهدي له نسخة، وصديقنا أرسل لنا نسخاً من كتابه وهذا كل ما في القصة".
بيد أن الضابط أخذته العزة بحب الوطن وواصل العزف على نغم المؤامرة المختبئة في مكان ما من القصة، ليبقى الجميع رهن البحث والتحقيق يوماً كاملاً، وفي آخره كلّف أحد الضباط نفسه ففتح الكتاب ليكتشف أنه مطبوع في تونس، وأن المكتوب فيه ضد الإرهاب، فأغلق الملف دون كلمة اعتذار واحدة. وعندما خرجوا نحو الحرية كانت الشمس قد غابت تماماً واستقر الليل في الأفق، ليتركوا لحظهم العاثر، بعد أن رفض رجال الشرطة توصيلهم إلى بيوتهم الواقعة في أقصى الجنوب.
وأصل الحكاية أنني عندما نشرت كتاباً حول الإرهاب في تونس في العام 2016، أرسلت نسخاً لهؤلاء الأصدقاء، وهم من القلة التي تقايض الود بعشر أمثاله. فتوجهت نحو محطة النقل في تونس وأودعت طرداً فيه بضع نسخ، ونقدت السائق الدنانير اللازمة. وفي الطريق توقفت سيارة الأجرة عند إحدى الدوريات في مدنين، ولاحظ قائدها وجود الطرد ففتحه ليكتشف الكتب. والكتب عند أهل الشرطة كالسلاح، خطيرة وقاتلة ومريبة، وحاملها مجرم وإرهابي ومخرب، حتى يثبت العكس. وعندها، حوّل وجهة السيارة نحو فرقة أمن الدولة واتفقوا مع سائقها على أن يضع الطرد في مكتب الودائع والأمانات وعندما يأتي صاحبه تكون الفرقة الأمنية قد وضعت كميناً محكماً ليُقبض عليه متلبساً، وهكذا وقع.
هذه القصة ليست من وحي الخيال للأسف، بل حدثت في العام 2016. لم أسمع بها، ولم تُنقل لي عبر سلسلة من الرواة، بل حدثت لي شخصياً، فقد كنت أنا الشخص الخطير الذي أرسل طرد الكتب وكاد أن يتسبب لأصدقائه في إيقاف في فرقة أمن لا أحد يعلم كيف سينتهي، لولا أن ظابطاً من الفرقة كلّف نفسه بعد ساعات من التحقيق أن يفتح الكتاب ويقرأ فيه. وقد علمت لاحقاً أن طريقة القبض على صديقي فوزي جاءت بعد كمين محكم خططت له الفرقة بالاتّفاق مع إدارة المحطة، يوماً كاملاً قبل الواقعة.
المضحكات المبكيات
بقدر ما تثير هذه القصة الضحك والسخرية إلا أنها مجرد طرفة مرعبة في سجل طويل من طرائف مرعبة نجحت في نسجها عقول رجال الشرطة العرب منذ أن ظهر هذا الجهاز ذي السطوة في ثوبه الحديث، إذ يكاد لا يختلف سلوك رجل الأمن العربي قديماً وحديثاً تجاه الكتاب بين بلد وآخر، لكأنهم درسوا عند معلم واحد. فالكتب عندهم كالسلاح، خطيرة وقاتلة ومريبة، وحاملها مجرم وإرهابي ومخرّب، حتى يثبت العكس، وربما فقد حريته أو مستقبله أو حتى وجوده خلال هذه الرحلة المضنية لإثبات العكس.
وفي هذا الباب، يمكن تصنيف كتاب الصحافي والأديب اللبناني سليم سركيس، "غرائب المكتوبجي" (1896)، كأقدم وثيقة عربية تؤرخ لكره أو غباء رجل الشرطة للكتب والصحف، والذي كان صرخة شجاعة في وجه الاستبداد العثماني، وقد وشّحه صاحبه بإهداء غير مألوف للسلطان عبد الحميد قال فيه: "يسوءُني أنني من جملة رعاياك، لأنه يسوءني أن أكون عبداً".
ووضع سركيس كتابه انتقاماً من شرطي الكتب والصحف العثماني في بيروت، الذي كان يُسمّى في ذلك الوقت "المكتوبجي"، والذي حوّل حياة ناشري الصحف، وبينهم سركيس إلى جحيم، لا بسبب استبداده بل بسبب غبائه.
"والكتب عند أهل الشرطة كالسلاح، خطيرة وقاتلة ومريبة، وحاملها مجرم وإرهابي ومخرب، حتى يثبت العكس"
ويعرض الكتاب عدداً كبيراً من غرائب وعجائب هذا الشرطي، والتي عرّضت دورة نشر الصحف لكثير من التأخير والمتاعب. من ذلك أن سركيس أرسل يوماً عماله لبيع الجريدة في الشوارع وأوعز إليهم أن ينادوا: "موت رئيس جمهورية فرنسا"، تنبيهاً للناس إلى الإقبال على ابتياع الجريدة، وفي المساء لم يحضر العمال لتقديم حساب المبيع كالعادة، ثم جاءه خبر أنهم جميعاً في السجن، فهرول إلى مدير البوليس ليسأله عن السبب، فقال له: إنهم ينادون في شوارع المدينة بالجمهورية، ألا تدري أن هذه اللفظة ممنوع استعمالها هنا؟!
ولا يتوقف هلع الشرطي العثماني عند كلمة الجمهورية بل يتجاوزه إلى الأمثال الشعبية، فيأمر بحذف المثل الشهير "الحركة فيها بركة" من كتاب يوسف أفندي حرفوش في الأمثال باللغتين الفرنسية والعربية، زاعماً أن لفظة الحركة تفيد الثورة.
ويروي سليم سركيس في عجائبه أن المكتوبجي كان يكره ورود لفظة مدرسة ويستبدلها دائماً بلفظة مكتب، لسبب يجهله، فحدث يوماً أن جريدة كتبت مقالة عن الهند وقالت فيها: وصل السائح الفلاني إلى مدراس، فظن سعادته أن المقصود بمدراس (وهي مدينة هندية) مدرسة، واستبدلها بلفظة مكتب.
ورغم المياه الكثيرة التي تدفقت تحت جسور العالم العربي، حروباً وانقلابات وحداثةً وما بعدها، إلا أن السلوك الأمني تجاه الكتب لم يتغير. وقد نجحت في تصويره إحدى حلقات المسلسل السوري الناقد والساخر "بقعة ضوء " (الجزء الرابع، 2004)، والتي تروي الوقائع الغربية في ملاحقة عبد الرحمن الكواكبي في سوريا المعاصرة، بعد أن سمع أحد المخبرين اسمه في جلسة لعناصر من المعارضة السورية كان مكلفاً بمراقبتهم. وعندما رفع تقريره إلى رئيسه، دخل الفرع الأمني في حالة طوارئ لعدة شهور بحثاً عن القيادي الغامض في المعارضة عبد الرحمن الكواكبي واعتُقل كل مَن يحمل هذا الاسم، والذين كانوا بالمئات، بل إن أحدهم كان بالكاد رضيعاً. وعندما اكتشف المخبر الذكي من طريق زوجته أن للكواكبي كتباً منشورةً صاح مذعوراً: "الجماعة دخلوا مرحلة المناشير".
وعوداً إلى تونس، يروي رقيب الكتب السابق في تونس، أنس الشابي، ضمن طرائف المهنة اليومية، أن رجل أمن أرسل في عام 1992 تقريراً حول كتاب السفير السابق الحبيب نويرة الذي يحمل عنوان "ذكريات عصفت بي"، معتقداً أنه يتحدث عن ذكريات رجل اسمه "عصمت بيه". فيما عمد مخبر سري في معرض الكتاب إلى التبليغ عن كتاب ينتقد "السلطات العربية"، ليكتشف الشابي عندما وصلته النسخة ليعاينها أن الكتاب فيه وصفات مختلفة للسلطة (Salade) من كل الدول العربية.
لماذا يكرهون الكتب؟
تبدو الإجابة على هذا السؤال صعبة بسبب غياب الدراسات الاجتماعية داخل هذا الجهاز المغلق وحول أفراده، ولكن السبب الذي يبدو واضحاً هو تدني المستوى الثقافي والتعليمي لأغلب منتسبي هذه الأجهزة، إذ تكتفي أغلب الدول العربية وحتى الأوروبية بمستوى البكالوريا أو الثانوية لقبول طلبات الدخول في السلك الأمني، فيما لا يتجاوز الضباط والمفوضون المرحلة الجامعية الأولى في قسم الحقوق.
عمد مخبر سرّي إلى التبليغ عن كتاب ينتقد "السُلُطات العربية"، ليكتشف رقيب الكتب التونسي عندما وصلته النسخة ليعاينها أن الكتاب فيه وصفات مختلفة للسلطة (Salade) من كل الدول العربية
ورغم أن كليات الشرطة ومراكز التدريب ما بعد القبول تتضمن نظرياً تكويناً في الثقافة العامة واللغات إلا أن أغلب أوقات التدريب تصرف في الإعداد البدني وفي تعلم السلاح والتكتيكات الميدانية أو الأمور المتعلقة بالتدريب على الأجهزة التكنولوجية. فهذه البرامج التدريبية مصممة بدقة لإنتاج رجل أمن مُطيع يتعامل مع الأفراد والأحداث على أنها مثيرات شَرطية تتطلب منه "استجابة شَرطية" على نحو بافلوفي.
وكل ذلك من أجل توفر السلطة الوسائل البشرية الكافية والمبرمجة لضبط المجتمع ومراقبته. وفي العالم العربي، حيث تغيب الحريات السياسية في أغلب الدول، تزداد الرغبة في السيطرة على المجتمع. لذلك، يصبح قبول رجال شرطة من مستويات تعليمية عالية أو إضافة مواد ثقافية أكثر عمقاً على برامج التدريب أمراً غير مناسب خوفاً من أن يبث ذلك شيئاً من الوعي النقدي في صفوف هؤلاء، أو يزعزع فكرة ولائهم للدولة. وهذا الأمر يمكن أن يهدد سلطة الدولة، كونها في أحد أبعادها تمثل "الطبقة الحاكمة"، ذلك أن الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير يذهب في نظريته حول "الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية" إلى أن الطبقة الحاكمة لا تستطيع القيام بعملية إعادة إنتاج نفسها إلا من خلال الأجهزة القمعية للدولة ومن بينها الشرطة.
كما تلعب الأوضاع الاجتماعية لقطاع واسع من منتسبي أجهزة الدولة الأمنية في العالم العربي دوراً كبيراً في تردي مستواهم الثقافي، يتجلى كرهاً للكتب وريبةً منها. فالقطاع الأوسع من رجال الأمن ينتمون إلى الطبقات الشعبية الفقيرة والمتوسطة بسبب مستويات الدخل الضعيفة في قطاع الأمن، ما يجعل اقتناء الكتب أو الاهتمام بالثقافة نوعاً من الترف قياساً للاحتياجات الأساسية التي بالكاد يلبيها الراتب الشهري. هذا إضافة إلى ظروف العمل الصعبة لساعات طويلة وفي حالات توتر فوق المستوى العادي فيها مخاطر جسدية عالية وضغط مهني تفرضه التراتبية الصلبة القائمة على الطاعة داخل المؤسسات الأمنية.
هذه التفسيرات المختلفة، التي تتعلق أكثر بالأفراد، لا يمكن أن تخفي سبباً مركزياً لهذه الكراهية المتبادلة بين الكتب ورجال الشرطة، وهو السياسات الأمنية العامة للنظم الحاكمة، لا سيما في الدول العربية، والتي تربط دائماً بين الكتب والمعارضة السياسية والكتب والوعي السياسي العام، كما تخصص أقساماً لتحليل الكتب ومراقبتها داخل الأجهزة الأمنية.
فقد ارتبطت الكتب في سنوات ما بعد الاستقلال، خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي بالمعارضات اليسارية والكتب الحمراء ثم تحولت الملاحقة للكتب الإسلامية والجماعات الإسلامية. وخلال هذا المسار الطويل من الملاحقة نشبت بين رجل الشرطة والكتاب علاقة سوء تفاهم ثقيلة وحاجز نفسي سميك، جعل الشرطي يشعل صفارات الإنذار في عقله كلما شاهد كتاباً في يد أحدهم وخاصة في المعابر والمطارات ودور الطلبة وغيرها من الأماكن التي كانت تاريخياً مسارحَ للقبض على المعارضين والعصاة. وقد بقي هذا السلوك ملازماً لرجال الشرطة حتى بعد نهاية هذه الملاحقات وخروج هذه المعارضات إلى العلن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...