تُبنى العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمعاتنا على الحب ربما، التقاليد والعادات، والكثير من التدخل العائلي والمجتمعي.
تربى معظم أبناء وبنات جيلنا على مبدأ يعتقد بأن العنف هو جزء من التعبير عن المحبة، ولم يكُن التعنيف مقتصراً على جنس دون آخر، ولكنه مورس على الجنسين بطرق مختلفة، إلا أن الفتيات أكثر عرضة للتعنيف اللفظي والنفسي وذلك لمحاولات فرض سيطرة المجتمع والعائلة عليها لأسباب تتعلق بالعرض والشرف والسمعة الصالحة والكثير من التعقيدات التي تواجهها الفتيات والنساء في حياتهن، أما من تتمكن من كسر تلك السلسلة ومغادرتها، فيمكن القول بأنها محظوظة بسبب قدرتها على عدم الانصياع إلى العادات نفسها، أو بسبب سفرها أو ابتعادها وتمكنها من الحصول على الفرصة التي تمنحها في الواقع احترامها الكامل ولا تطوق من حدود شخصيتها وعملها، وخياراتها الحياتية.
لماذا نسمح للعلاقات المعنفة بالدخول إلى حياتنا؟
"لقد تعرضتُ للضرب في طفولتي، مما هيأني لاستقبال علاقة مشابهة عندما كبرت، ولم يكن هذا أسوأ ما عشته، فالعنف اللفظي كان أقسى وأكثر عمقاً في ذاتي" تقول سابينا (اسم مستعار) وهي شابة في مقتبل الثلاثين، تنحدر من عائلة ذات أصول تشيكية وسورية، تقيم سابينا في العاصمة التشيكية براغ بعد أن عاشت معظم حياتها في دمشق، وتتحدث عن تجربتها مع التعنيف.لم تمر سابينا بتجربة عرضتها للأذى مع أي شاب سوري أو عربي من قبل، كانت تحربتها الأولى مع هذا النوع من العلاقات، عندما ارتبطت برجل يكبرها بعشر سنوات، وهو بريطاني الجنسية، غربي الملامح والطباع بشكل عام، إضافة إلى ذلك كان يحمل جميع مواصفات المعنِف.
"بدأتُ أشعر بالغرابة عندما أصبح يظهر لي أحياناً في بعض الأماكن دون دعوة، وبشكل مريب، وجدته مرة في الليل ينتظرني بصمت في شارع بيتي كي أعود من التسوق، دون أن يعلمني بأنه هناك"
عندما سألتها عن أية إشارات لشخصيته المعنفة منذ بداية العلاقة، قالت سابينا: "كان بيتر مندفعاً وغارقاً في الحب، وكان يعرض علي الزواج منه منذ الأسابيع الأولى للعلاقة، لم أشعر بشيء غريب في البداية، سوى أنه بدا مهتماً بي وبتفاصيلي اليومية اهتماماً مبالغاً به، لكنني بدأت أشعر بالغرابة عندما أصبح يظهر لي أحياناً في بعض الأماكن التي أرتادها دون دعوة، وبشكل مريب، وجدته مرة في الليل ينتظرني بصمت في شارع بيتي كي أعود من التسوق، دون أن يعلمني بأنه هناك."
المحاصرة والتحقيق وأساليب أخرى من العنف النفسي
بنى بيتر علاقته مع سابينا على الشك والمحاصرة.بدأت تظهر معالم شخصيته الداخلية الحقيقية، عندما أصبح يشك بها وبتصرفاتها، ويطلب منها إثباتات ودلائل على أماكن تواجدها، حتى أنه كان يشك بها إذا غابت عن نظره وهما معاً في مكان واحد.
تقول سابينا: "كنتُ أخضع معه لجلسات تحقيق يطلب مني فيها أن أجيب على أسئلته بسرعة بكلمة نعم أو لا ودون تفكير، وكان علي أن أقدم إجابات تقنعه عن كل أسئلته، ومع ذلك لم يكن يصدقني". بدت هذه العلاقة سامة، وقد تعرضت سابينا فيها للأذى النفسي العميق الذي لا زالت تعالجه بعد ثلاث سنوات من هذه العلاقة التي امتدت لأربعة أشهر فقط.
اعتقدت سابينا خلالها بأنه كان واقعاً في حبها، وأن اهتمامه الزائد وضغطه عليها هو تعبير مضاعف عن الحب. وكان في كل مرة بعد الشجارات العنيفة يعود إليها راجياً الصفح ونادماً، لكنها لاحظت أنه يعود في كل مرة أعنف من المرة التي سبقتها. حتى وصل به الحال إلى جذبها بالقوة والعراك الجسدي معها.
اتخذت سابينا أساليب لتمنع نفسها من الانجرار إلى العلاقة مجدداً، بعد كل الألم النفسي والجسدي الذي تسببته لها، وذلك عن طريق تصوير الكدمات التي تركت أثراً على جسدها، حتى لا تتهاون في قرارها بإنهاء هذه العلاقة، لكنها لطالما شعرت بالغضب لأنها سمحت لمثل هذا الشخص أن يدخل حياتها ويتلاعب بها عاطفياً ونفسياً، ويؤذيها بمختلف الوسائل.
الرجل المُعنِف والكاره للنساء ليس حكراً على ثقافة أو بيئة معينة
ليس هناك تفسير واحد لما يمكن أن يؤدي بالرجل أو بالمرأة كي يصبحا معنفين، هناك مجموعة مكونات نفسية وتجارب مؤذية يتعرض لها الأشخاص وتدفعهم إلى سلوك هذا الطريق، وليس هناك من مبرر لمن يختار أن يكون عنيفاً ومضللاً في علاقاته الحميمة أو علاقاته في المجتمع.وبالرغم من أن هذه الظاهرة تبدو أكثر وضوحاً في مجتمعاتنا العربية، وذلك بسبب تقبل المجتمع لهذا الواقع، وبسبب القوانين الأبوية والذكورية التي تفرض سيطرتها على تسيير المجتمع، ولا تحمي النساء بشكل خاص من شتى أنواع الأذى، إلا أن الأمر بدا محبطاً لنفس الدرجة في دولة تشيكيا، وهي دولة أوروبية تشترك مع الاتحاد الأوروبي بمعظم اتفاقيات حقوق الإنسان.
وتتذكر سابينا واقعة مؤلمة تعرضت لها بعد عراك جسدي مع بيتر، حين قرر طردها من منزله في منتصف الليل، فرمى بكامل أغراضها بعيداً أمام فناء البناء الرئيسي، ومنعها من الدخول، وخرجت سابينا بفستانها الوحيد الذي لم يجف بعد غسله، وهي تشعر بالإهانة، طلبت من الجيران الاتصال بالشرطة كي يسجلوا الواقعة وكي تثبت الكدمات التي كانت ظاهرة على جسدها منذ أيام، إضافة إلى الكدمات الجديدة، وعند قدوم الشرطة، اعتذروا منها بأنه لا يمكنهم التدخل في هذا الشأن وليس بإمكانهم مساعدتها سوى بنقلها بسيارتهم إلى منزلها، تحدثت الشرطة مع بيتر الذي قام بتصوير سابينا أثناء بكائها وصراخها سابقاً، وعرض الفيلم على رجال الشرطة قائلاً: "انظروا، إنها مجنونة"
اعتقدت سابينا بأنه كان واقعاً في حبها، وأن اهتمامه الزائد وضغطه عليها هو تعبير مضاعف عن الحب، لكنها لاحظت أنه يعود في كل مرة أعنف من المرة التي سبقتها.
لم تستسلم سابينا، ولكنها ذهبت في صباح اليوم التالي إلى مستوصف طبي لتثبيت الكدمات وتسجيل الواقعة، لكن الطواقم الطبية رفضت التدخل بالأمر، منعاً لتحمل المسؤولية، وأخبرها أحدهم بأنه كان عليها الذهاب إلى مستشفى حكومي في الليل فور وقوع الحادثة، وهناك كان يمكن تسجيل الواقعة. أما الشرطة فاتخذت أيضاً موقف الحياد من الأمر. وقررت سابينا بأنها وحدها ستقف في مواجهة الأمر وسوف تقطع العلاقة المؤذية دون تردد.
انسحبت سابينا انسحاباً كاملاً، حتى بعد أن طلب بيتر الصفح، وعرض عليها الزواج مجدداً.
عندما يصبح العنف فعلاً عائلياً جماعياً
تتحدث نور(اسم مستعار) عن تجربة زواجها الأولى في سوريا.قبل أن تنتقل إلى ألمانيا منذ عدة سنوات. تمت خطبة نور في دمشق من ابن خالتها عندما كانت في السادسة عشر من عمرها، كانت في ذلك الوقت سعيدة جداً وأفصحت لي بأنها في ذلك الوقت كانت تشعر بأهمية خطبتها وزواجها، فمعظم صديقاتها آن ذاك كُنّ على وشك الزواج.
كان لوالدها شرط واحد قبل الزواج هو أن تُتم دراستها، وقد أتمت ذلك أثناء فترة خطبتها.
كان الشاب في البداية لطيفاً، أغرقها بالهدايا والمشاعر الرقيقة، لكن أولى دلائل شخصيته المعنفة ظهرت أثناء حفلة الخطبة عندما كانت نور ترقص، فتدلى طرف فستانها كاشفاً عن كتفها فتغيرت ملامح وجهه مباشرة، وفور انتهاء الحفل جذبها إلى السيارة، وأغلق الباب بعنف وقام بتوبيخها والصراخ عليها ودفعها بقوة، وفي اليوم التالي اصطحبها من بيت أهلها إلى محل المصورة التي التقطت صور الخطبة وطلب منها حذف المقطع الذي يظهر فيه كتف نور، متهماً إياها بأنها طفلة لا تفهم وبأنها "غير محترمة".
تزوجت نور بعد ذلك بفترة قصيرة، وتعرضت خلال حياتها الزوجية لشتى أنواع العنف اللفظي والنفسي والجسدي، ولأنها سافرت مع زوجها إلى إحدى دول الخليج، فقد كان يأخذ هاتفها النقال ويحرمها من الاتصال بعائلتها ويحبسها في غرفتها أوقاتاً طويلة.
في إحدى زياراتها إلى دمشق، ارتمت بين أحضان عائلتها باكية وطلبت الانفصال عن زوجها، لكن ذلك قوبل بغضب عائلي شديد، وقام والدها بضربها ومنعها من أن تطلب ذلك مجدداً.
في إحدى زياراتها إلى دمشق، ارتمت بين أحضان عائلتها باكية وطلبت الانفصال عن زوجها، لكن ذلك قوبل بغضب عائلي شديد، وقام والدها بضربها ومنعها من أن تطلب ذلك مجدداً.
تتحدث نور عن ذاكرتها المؤلمة، فبعد ولادة ابنتها الأولى ازدادت حدة التعنيف، فأصبح جماعياً منه ومن أمه "خالتها" وأبيه، فكان إذا انزعج الأب من أي ضجيج تحدثه نور أثناء غسل الأطباق يغضب ويحرض ابنه على ضربها، وفي إحدى المرات قام الزوج بالدعس على رأسها حتى خرج الدم من أذنيها وأنفها، وكان كل ذلك يحدث بمباركة والديه.
قام برمي يمين الطلاق ثلاث مرات، مما أعطى نور حريتها الأبدية منه، حتى بعد أن توسل إليها ووعدها بالتغير، لم تقبل بالعودة، لكنه حرمها من حضانة ابنتها فيما بعد.تعيش نور اليوم في ألمانيا بعيدة عن ابنتها، وتحكمهما مسافات شاسعة من القوانين الفاسدة، والسلطة الأبوية، ودوائر محكمة من العنف الذي لا يمكن تفكيكه.
تقضي نور حياتها يومياً وهي تؤمن بأن ابنتها ستعود إلى حضنها ولو بعد وقت، فليس الوقت إلا سلسلة متينة من التواصل العميق بين قلبي الأم وابنتها، والتي ستصل دربيهما في نهاية المطاف.
كيف تتشابه قصص النساء رغم اختلافها كلياً؟
تتشابه قصتا نور وسابينا رغم اختلافاتهما الجذرية، فمنبع العنف واحد، واختلاف المراحل العمرية لهما يؤكد أننا جميعاً معرضات لمثل هذه العلاقات في شتى المراحل العمرية، كما أن اختلاف ثقافات وبلدان الشابين أيضاً يؤكد نفس الحقيقة.إنه ليس من العادل أن نعيش في سجن طالما كانت أبواب الحياة مشرعة لنا
أما بعد البحث والتعمق بعدد كبير من العلاقات التي تتعرض فيها النساء والفتيات للتعنيف، فما كان جلياً هو تشارك العائلات الشرق أوسطية في الفعل العنيف مع صاحب العلاقة، فمعظم الحالات التي تمت مشاركتها معي والتي قرأتها، كانت لوالدة الرجل فيها وأبيه سلطة مباشرة بالتعنيف، ولا يمكننا هنا أن ننسى الشابة آيات الرفاعي السورية، التي قُتلت بدم بارد من قبل زوجها وعائلته في وسط العاصمة دمشق منذ أشهر قليلة.
وبينما لم تنته قصص نور وسابينا بطرق مأساوية فقد تمكنت الاثنتان من التخلص من تلك المراحل في حياتيهما بشجاعة خارقة، كما تيسرت لهما الظروف لإنقاذ نفسيهما، إلا أن سابينا شاركت معي مشاعرها الصادقة بأن إحساساً قوياً كان يراودها، بأن هذا الشخص يمكن أن يقدم على قتلها، أو على الأقل إنه يتمنى ذلك.
هل يمكنكِ مغادرة العلاقة التي تهدد حياتك وصحتك النفسية الآن وإلى الأبد؟
تواجه معظم النساء خيارهن للاضطرار بالبقاء في هذه العلاقات، من أجل أولادهن ومن أجل العائلة، ولأنه ليست أمامهن خيارات تحميهن من العنف الممارس بحقهن، رغم إدراكهن أحياناً بأن هذا العنف قد يؤدي إلى الجنون أحياناً، وإلى الموت أحياناً أخرى! لكن طريق النجاة ليست معبدة، ففي العلاقات المعنِفة يحاول المعنِفُ تطويق ضحيته شيئاً فشيئاً حتى يحاصرها اقتصادياً واجتماعياً وقانونياً، كما أنه يوحي إليها بأنها لا يمكن أن تعيش وأن تتمكن من الوقوف بمفردها في مواجهة عواقب انفصالها عنه.لستُ أذكر كل هذا كي أصعب المهمة، ولكن على العكس كي أقول من جديد، إنه ليس من العادل أن نعيش في سجن طالما كانت أبواب الحياة مشرعة لنا، وبأننا بالصبر وبإحكام العقل وبالبحث عن مصادر الدعم ودوائر الأمان الاجتماعية حولنا، يمكننا أن نتحرر، ولو قليلاً، ولو كثيراً، ولو إلى الأبد...
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت