رأيتها، كانت تقف قرب علب الزيتون وتساعد الزبائن بودّ وعفوية. في المرة الأولى التي اقتربت منّي فيها لتعينني لم أسألها شيئاً. لكن قبل رحيلي توجّهت نحوها، وسألتها: "مين ضربك؟". لم أفهم كيف كنا كلّنا ندور حولها في السوبر ماركت متجاهلين معالم العنف الواضحة على وجهها، رافضين، كل منا لأسبابه الخاصّة، أن نخترق دائرة التعنيف القابعة أمامنا. أخبرتني أنها تشاجرت مع شقيقها ووصل به الأمر إلى ضربها على وجهها وظهرها، وأنها تبلغ من العمر 19 عاماً وتعمل هنا لتساعده على إعالة إخوتهما ووالدتهما بعد وفاة والدهما، وأن سبب الخلاف كان مادياً.
هي تريد أن تبتاع حاجاتها الخاصّة هذا الشهر وهو يريدها أن تعطيه راتبها ليصرفه في المنزل. ضحكتْ كثيراً أثناء سرد قصّتها، هذه الضحكة المترفّعة عن الألم. وأصرّت على أنها هي المخطئة وما كان يجب عليها أن تغلّب أنانيتها على مصلحة العائلة. وكرّرت أن شقيقها جيد ويحبّها كثيراً ولن يفقد أعصابه مجدّداً، فهو وعدها بذلك. بعد مشاورات عدّة وحديث طال خرجتُ نحو الشارع، وظللت أردّد: "هل من الطبيعي أن تعمل فتاة مراهقة في السوبر ماركت والكدمات ظاهرة على وجهها، دون أن يلاحظ أحدهم ذلك؟".
في النهاية رحلت ولم أخف. ووصلت إلى نتيجة واحدة، كتبتها على ورقة وعلّقتها فوق مرآتي: أنت لست في علاقة حب، حين لا يمكنك الشعور بالحب".
سمعت قصص التعنيف وعرفتها في المنازل وفي أحياء بيروت وفي القرى البعيدة عن الساحل. لطالما سألت الجداّت تحديداً عن تعرّضهن للضرب، وغالباً ما تمثّلت ردودهنّ بهزّة رأس وعيون تأبى أن تفصح عما حدث. صادفت غريبات وصديقات وصادفت نفسي، وسمعت قصصاً متعدّدة عن مواقف شعرن فيها أن لا خلاص أمامهن سوى الصراخ بهدف مجيء الإنقاذ. أحياناً، كان صمتهنّ والبقاء هما الحل الوحيد، وأحياناً أخرى كان الخلاص بالبوح. ولكل امرأة وسيلتها.
عُدت قبل أيام، ولاحقت القصص التي كنت قد سمعتها، وتلك التي شهدتها. فالتعنيف، أياً كانت حدّته وقسوته، لا يُرى في أغلب الأحيان ولا يسمع ويتم تجاهله عمداً على الرغم من تغييره مسار حياة الناجية.
في ما يلي قصص تعنيف حصلت لفتيات ونساء قرّرن عدم الكشف عن هويّاتهن والاكتفاء بعرض القصّة وسيلةً للتخلّص منها وأيضاً لجعل قراءتها متاحة لكل الفتيات.
"أنت لست في علاقة حب حين لا يمكنك الشعور بالحب"
تقول الشّابة العشرينية إنها في يوم من الأيام استيقظت في شقتّها الصغيرة في بيروت وقرّرت أن تنهي علاقة عاطفية عمرها ثلاث سنوات. السبب لم يكن أنها توقّفت عن حب شريكها، بل أنها توقّفت عن حب ذاتها معه. تحكي: "أدركت أنّه كلّما امتدت علاقتي معه، زادت خسارتي لنفسي. في بداية العلاقة، أي حين كنت أبلغ من العمر 24 عاماً، كان كل شيء عادياً بالنسبة لي. اليوم أفهم أن التعليقات الدائمة على طريقة ارتدائي للملابس، وعلى وزني وعلى عملي لم تكن عادية. لكنّي ظننتها كذلك لأن هذا الأسلوب هو نفسه الذي اعتدته في طفولتي. فأنا لطالما عشت محاولة أن أبرهن لكل من حولي على أنّني أستحق الحب الذي يقدّمونه لي. لا أعلم ما حصل، ربّما هي تراكم لحظات من حب الذات، لكنّي استيقظت في يوم عادي، وقرّرت أن الحب الذي أحصل عليه لا يكفيني وأستحق أكثر منه بكثير. أستحق أن يحبّني أحدهم في أيام التعب، وأن لا أتحوّل لآلة جنسية، وأن لا أحمل العبء المادي وحدي، وأن أشعر بالأمان. بعثت له برسالة هاتفية أنهيت من خلالها العلاقة. بعد أقل من ساعة وجدته واقفاً أمام باب المنزل، باكياً مصراً على محاولة إصلاح كل الأخطاء بدلاً من التخلّي عن علاقتنا. صدّقته. وهنا كانت غلطتي الأولى إذ سمحت له بالدخول مجدّداً إلى حياتي. وبعد إدراكي قيمة نفسي، عمل على تحطيمي بقوّة مضاعفة لكني بقيت متصدية له".
وتتابع: "بعد مرور شهر على هذه الحادثة، وضعت كل أمتعته في الحقيبة وطلبت منه الرحيل بأسلوب حضاري. رحل لكنّه عاد في الأيام التالية. وهكذا انطلقت دوامّة الملاحقة في كل الأمكنة، وبدأ القلق اليومي من رؤيته في الأماكن العامّة. في إحدى الليالي، استجمعت قوّتي وواجهته فلحق بي إلى المنزل، دفع الباب في وجهي ودخل. بدأ بالصراخ وبرمي كل أغراض المنزل على جسدي، ابتداءً من الأواني الزجاجية وصولاً إلى الكتب والطاولة. أمسكني من شعري، ضربني وأكّد لي أنّي لن أجد من يحبّني من بعده ثمّ رحل. في صباح اليوم التالي، حين استجمعت أفكاري ورفعت الأغراض إلى مطارحها غيّرت قفل المنزل، وقصدت طبيباً شرعياً، وأخبرت أصدقائي المقرّبين. وبعد ثلاثة أسابيع غيّرت مكان إقامتي".
كلّما ضربني أغدق علي مشاعر فياضة. يغضب، يكسّر الأغراض، أهرب إلى غرفة النوم، أسمع صراخ ابنتي وابني، يصل لي، يضربني وبعد ساعات يندم ويبدأ بالاعتذار. مع الوقت، حين كنت أراه يلتفت نحوي لم أكن أعرف هل سيغمرني أو سيصفعني؟
وتضيف بصوت مخنوق: "حصل هذا قبل أكثر من عام، ثم رأيته مرّة واحدة في الشارع فحاول جذبي نحو كي نجري حديثاً، فبدأت بالصراخ. ومنذ ذلك اليوم لم يتعرّض لي على الإطلاق. لا أحد يعرف تفاصيل ما حدث سوى المقرّبين منّي، لم أُعلم أفراد عائلتي لأن المشاكل كانت ستتضاعف، فهم لن يتقبّلوا تفاصيل عدّة بحكم الأعراف الاجتماعية. لطالما تساءلت عن الأخطاء التي اقترفتها، والتي أودت بي إلى هذه النهاية، ووجدت أن خطأي الوحيد هو مساومتي على أفكاري ومشاعري والقبول بالبقاء في علاقة كنت أعلم أنها لا تناسبني. هذا الاستنتاج أحكيه الآن بعد ابتعادي عن كل ما جرى. لكن حينذاك، كان الخوف كبيراً وثقتي بنفسي شبه معدومة. وعلى الرغم من كل الانذارات التي كانت واضحة أمامي لم أقوَ على الرحيل. لكنّي في النهاية رحلت ولم أخف. ووصلت إلى نتيجة واحدة، كتبتها على ورقة وعلّقتها فوق مرآتي: أنت لست في علاقة حب، حين لا يمكنك الشعور بالحب".
القانون مسار طويل ومكلف
تلفت لمى كرامة، وهي محامية وباحثة تشغل حالياً رئاسة الهيئة الإدارية في "المفكرة القانونية"، إلى أن قانون حماية المرأة وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري محصور بالنساء المتزوجات أو المطلقات. ويتناول العنف الذي "يقع أثناء الحياة الزوجية أو بسببها" أي أنه لا يشمل النساء غير المتزوجات. تقول لرصيف22: "المرأة/الفتاة التي قد تتعرّض لعنف جسدي من قبل شريكها ليست مشمولة ضمن القانون بينما المرأة المتزوجة بإمكانها التوجّه إلى قاضي العجلة وطلب أمر حماية. أما اللواتي هنّ خارج منظومة الزواج فبإمكانهن تقديم دعوى لدى القضاء الجزائي من دون أن يتمكنّ من الاستحصال على أوامر حماية".
وتضيف كرامة أنه حتى في حال توفّر المسار القانوني لا تلجأ إليه أغلب النساء اللواتي يتعرّضن للتعنيف. أوّلاً، لأنه يتطلّب الكثير من الوقت. ثانياً، لأن كلفته المادية مرتفعة. تشرح: " التمثيل القانوني ليس بحالة توفّر دائمة حتى في ظل وجود جمعيات ومتطوعين. وحين يتم إنصاف المرأة من ناحية قانون الحماية، لا تواكب كل هذه التفاصيل دعمها اقتصادياً". وتتابع: "بحسب الحالات التي نشهدها نلاحظ أن العامل الاقتصادي هو أبرز عائق أمام المرأة المعنّفة. فإذا لجأت إلي القانون عليها أن ترفع دعوى لدى القضاء المدني للحماية ثم لدى القضاء الديني للطلاق. وفي حال وجود الأطفال يجب أن ترفع دعوى للحضانة، وللأملاك المشتركة أيضاً إذا ما كانت متوفّرة".
الموت الذي أنقذني
للتعنيف أشكال عدّة، وكثيراً ما يسبق التعنيف الجسدي، تعنيف نفسي ولفظي. فتظن المرأة/الفتاة أنها هي المخطئة ويتم إقناعها بأن كل ما تفعله ليس كافياً. تتجرّد من نفسها وتتحوّل إلى قالب يشبه رغبات من تواجهه. وتبدأ الدوامة بالتكرار. تحكي المرأة الأربعينية عن إدراكها لهذه الدوامة جيّداً، فهي عاشت بداخلها عقداً من الزمن.
بين السيارات وفي الزيارات العائلية كانت تمشي وتجلس والرضوض واضحة على يديها، وقد انتقلت لاحقاً إلى وجهها. وكان كل من يتحدّث معها يتجاهلها. تقول: "كأنّ أوجاعي غير مرئية. وحدي كنت أشعر بها ووحدي حاولت إخفاءها. كل من حولي ظلّوا يردّدون أنه شخص جيّد لكن طباعه حادّة. كنت أصدّق وأعتقد أن هذه هي حياتي وعليّ الخضوع لها وعيشها بأقل أضرار ممكنة. تحوّلت مع الوقت إلى زوجة مثالية. أفعل كل ما يحلو له ولا أعترض، وبقيت أتعرّض للضرب كلّما عاد متعباً من عمله أو أضاع حذاءه.
تسع سنوات وخمسة أشهر عشت علاقة زوجية تحوّل فيها العنف إلى حب. كيف؟ كلّما ضربني أغدق علي مشاعر فياضة. يغضب، يكسّر الأغراض، أهرب إلى غرفة النوم، أسمع صراخ ابنتي وابني، يصل لي، يضربني وبعد ساعات يندم ويبدأ بالاعتذار. مع الوقت، حين كنت أراه يلتفت نحوي لم أكن أعرف هل سيغمرني أو سيصفعني؟ في العام 2014 تغيّر كل شيء، فبعد ضربه المتكرّر والمبرح كدت أموت، فهربت من منزله وطلبت الطلاق. ذهبت إلى المحاكم، تحدّيت مجتمعاً بأكمله وتنازلت عن كل حقوقي بهدف الحصول على حريّتي".
وتكمل: "اليوم، في نظر المجتمع ومع تغيّر المفاهيم، أصبحت بطلة. حينذاك كنت أمّاً لا تكترث لمصلحة أولادها فتمّ وصمي وإهانتي لأني رفضت التعايش مع التعنيف المستمر. لأنّي رفضت الموت على يد زوجي كما يحدث مع نساء من مختلف أنحاء العالم ولا يتم إنصافهنّ، منهن رولا يعقوب. أنا اليوم على قيد الحياة لأنّي شاهدت اللواتي قتلن قبلي، ولأني كدت أن أصير رقماً إضافياً بين النساء اللواتي فقدن حياتهنّ بسبب العنف الأسري. والآن من واجبي أن أحكي قصّتي في محيطي ومع عائلتي وأن أقول لكل امرأة متزوّجة، إرحلي حين تقع الصفعة الأولى على جسدك. فزوجك لن يتوقّف عن تكرار الضرب ولن تكفيه مهما فعلت".
"الحل الوحيد للتعامل مع التعنيف هو أن يصل المعنّف إلى مرحلة خوف من المحاسبة الاجتماعية والقانونية تتخطّى مرحلة خوف الضحية من التعرّض للتعنيف نفسه".
تقول صديقتي إنّ حبيبها صفعها لأنها خرجت من السيارة ورفضت الذهاب معه إلى المطعم بعد شجار حاد وقع بينهما. تقول العمّة إنّ طليقها ضربها لسنوات عدّة لكنّها بقيت معه كي لا يأخذ منها أطفالها. حين كبروا وصارت حضانتهم من حقّها، رحلت. تحكي الجارة أنها حين حصلت على مفتاح المنزل بكت لأن زوجها سيكف عن سجنها بداخله يومياً بعد ذهابه إلى عمله، وأنها رفضت فتح الباب والخروج منه لأشهر خوفاً من أن يأخذ المفتاح منها، فبقيت سجينة. وتشرح الصبية التي تعرّضت للضرب على يد خطيبها السابق خلال فترة الحجر الصحي، أن الأخير أوصلها إلى المتّجر كي تبتاع مستحضرات تجميل تخفي بها الكدمات الظاهرة على عينها اليمنى، وأنها حين كانت تدفع ثمنها، تجنّب الشاب النظر إلى وجهها، ربّما خجلاً أو ربّما خوفاً. لكن هذا التجاهل جعلها تشعر أن التعنيف حين يتم السكوت عنه يصبح فعلاً عادياً. تقول إنها لم تطلب المساعدة كي لا تتعرّض للضرب مجدّداً. من شدّة الخوف اقتنعت أن التعايش مع الضرب سيكون واقعها. لكنّها عادت وطلبت المساعدة بصعوبة وقلق ونجت. بعد مرور عامين، تقول إن الحل الوحيد للتعامل مع التعنيف هو أن يصل المعنّف إلى مرحلة خوف من المحاسبة الاجتماعية والقانونية تتخطّى مرحلة خوف الضحية من التعرّض للتعنيف نفسه. وتؤكّد أن الخوف الأخير حين يختبره جسد المرأة يرافقها زمناً مديداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع