محمد علي، شاب تونسي يتحدّر من محافظة القصرين (وسط غرب تونس)، كان ينشط داخل الاتحاد العام لطلبة تونس، وكان يساري التوجه، خلال سنوات الجامعة التي سبقت الثورة. قارع نظام بن علي بالاجتماعات العامة وتعطيل الدروس دفاعاً عن قضايا الطلبة وقضايا الوطن، حين كان للكلمة الحرة ثمن باهظ، انخرط بعدها في حزب العمال المحظور وقتذاك، واُجبر على الرسوب في سنوات الجامعة، بسبب مواقفه السياسية.
بعد الثورة، وبعد رفع الحظر عن كل الأحزاب، تحمّس محمد علي كثيراً كغيره من الشباب، وظنّ أنّه سيجني ثمار نضاله في "سنوات الجمر"، كما يصفها، وخلال أول محطة انتخابية طلب محمد علي أن يستلم منصباً قيادياً على مستوى جهوي، كأن يترأس قائمةً انتخابيةً مثلاً، غير أنّ طلبه جوبه بالرفض الشديد.
يقول محمد لرصيف22: "كنت أقول لعلّي ما زلت حديثاً في السياسة، أو لعل عامل السن يجعلهم يتخوفون من اندفاعي وحماستي، لذلك يخافون من أن يؤمّنوني على قائمة انتخابية في محافظتي، فأجّلت الأمر وواصلت نضالي في الحزب من أجل قضايا أبناء وطني التي ظننت أنّها ستتحقق بسقوط نظام الاستبداد".
بعد أن كان اليسار نبراس الحالمين بالثورة في تونس، أصبح اليوم نقيض ذاته. بين صراعات الزعامة وغضب المناضلين الشباب يبدو الأفق اليساري مظلما
يضيف محمد: "بعد خروج نشاط الحزب إلى العلن، صارت الاجتماعات تُدار بشكل مريح جدّاً ومن دون ضغط أو خوف من أن يرانا أحد أو يُبلّغ عنّا، لكن الأسوأ في هذه الأجواء المريحة، أنّ مواقفنا لم تكن تُؤخذ على محمل الجدّ، وآراءنا لا يُعمل بها، وحتى مطالبنا كشباب ناشطين لم تجد آذاناً صاغيةً، وهو ما صار يقرّفنا من العملية السياسية الجديدة".
بعدها بثلاث سنوات، تمرّد محمد على الحزب وأعلن انسحابه برفقة عدد قليل من الشباب، لكنه ظلّ يدافع عن أفكاره بمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، وأحياناً بمقالات يكتبها في صحف حزبية، إلى أن ملّ السياسة برمّتها، وتفرّغ لعمله الذي بدأه حديثاً، غير أنّ جرحاً في قلبه لم يُشفَ بعد.
لاعب من دون حضور
بعد ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، كان متوقَعاً أن يكون اليسار التونسي لاعباً محورياً في المرحلة الجديدة في البلاد، والطرف الأجدر للقيادة، خاصّةً أنّ أحداث الثورة انطلقت من أمام الجامعات التي تُعدّ معاقل تاريخيةً لليسار التونسي، إلى جانب تمحور مطالبها حول التشغيل وتحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية وهي مطالب يسارية الرؤية.
لكن وبتوالي الاستقالات التي ضمّت آخرها 64 عضواً، انسحبوا من حزب العمال اليساري (أحد أهم التنظيمات اليسارية وأقدمها)، الذي يقوده المعارض المخضرم حَمّة الهَمّامي، وصار وجود اليسار في تونس مهدداً بالرغم من تاريخه النضالي الطويل، خصوصاً بعد تقلّص تأثيره في المشهد العام في البلاد مقارنةً بوضع أحزاب حديثة العهد في ممارسة العمل السياسي.
وتعود الأسباب بحسب بيان الاستقالة، إلى الفشل في الحفاظ على هوية الحزب والسعي وراء المواقع والظهور الإعلامي، على حساب الدفاع عن أفكاره وخياراته التي قام عليها، إلى جانب سوء "تكتيكات" الحزب في الانتخابات السابقة، وخاصةً التمسك بترشيح حمّة الهمامي للرئاسية.
زينة الغريبي، إحدى المستقيلات من حزب العمال من محافظة القيروان (وسط غرب تونس)، تقول لرصيف22، إنّ الاستقالات لم تكن مفاجئةً وكانت نتيجة نقاشات كثيرة داخلية متراكمة لمدة سنوات حول قضايا أساسية جوهرية في حزب العمال، انتهت إلى عدم التفاهم أو انتهت إلى عدم تفاعل إيجابي بما يطوّر وضعية الحزب الراهنة.
من بين أسباب الاستقالة أيضاً، بحسب زينة الغريبي، المواقف الأخيرة التي اتخذها الحزب بخصوص ما يعدّونه "انقلاب 25 تموز/ يوليو"، والتي تقول إنّها "كانت أقرب إلى مواقف حركة النهضة وبعض السفارات الغربية، في تناقض تام مع مؤسسات الحزب الرسمية التي قررت عدم التعامل كلياً مع المنظومة القائمة بمختلف أجنحتها (رئس الجمهورية قيس سعيّد وحركة النهضة والحزب الدستوري الحر)".
زينة ليست راضيةً اليوم بالسنوات العشر التي مارس خلالها اليسار التونسي السياسية بشكل علني في ظل طفرة الديمقراطية التي عاشها البلد، لأنّه لم يحقق النتائج المنتظَرة منه
تقول زينة إنّ القرارات التي تُتخذ لم تكن تشبه النقاشات التي يجريها الحزب مع قياداته وأعضائه، فضلاً عن مركزة القرار بين يدي عدد صغير من القيادات التاريخية، وإغلاق الباب أمام كل رأي مخالف، مع تعمد هذه القيادات القيام بحملة طرد وتجميد لعدد من الأعضاء المختلفين معها في المواقف.
زينة ليست راضيةً اليوم بالسنوات العشر التي مارس خلالها اليسار التونسي السياسية بشكل علني في ظل طفرة الديمقراطية التي عاشها البلد، لأنّه لم يحقق النتائج المنتظَرة منه، وهو ما يفسر النتائج الموجعة التي حققها خلال المحطات الانتخابية الماضية.
وتعرّف المجموعة نفسها بأنّها "مجموعة سياسية يسارية قيد التفكير والتأسيس نحو بناء مشروع تنظيم ثوري يناضل من أجل بديل ديمقراطي شعبي بأفق اشتراكي".
بلال الطرابلسي، المتحدّر من محافظة الكاف (شمال غرب البلاد)، استقال هو أيضاً من حزب العمال، يقول لرصيف22، إنّ خروجه من الحزب يعود إلى طبيعة التنظيمات اليسارية وآليات العمل التي لم تستوعب بعد شباب هذا العصر إذ لم تطوّر نفسها، فيما يشير إلى أنّه عانى من البيروقراطية الحزبية التي صارت عبئاً على التنظيم وعلى المناضل السياسي، من دون أخذ أزمة التماهي مع الواقع الناقد بعين الاعتبار، إذ إنّه لم يستطع إجراء نقد ذاتي لتطوير نفسه.
يضيف الطرابلسي: "لا يمكن أن يتماهى الحزب الثوري مع الواقع السلبي والسائد والنظام الرأسمالي، لكن الحزب ذهب في سياسة هي على نقيض المواقف والتصورات السياسية التي يطرحها اليسار اليوم، وهو ما ولّد انحرافاً في المواقف عن هوية الحزب والممارسة الديمقراطية".
استقالات وتفكك
اليسار الذي ظلّ، على امتداد تاريخ تأسيس الجمهوريتين الأولى والثانية، رقماً مهماً في المشهد السياسي التونسي وخصماً سياسياً شرساً لكلّ الأنظمة المتعاقبة منذ الاستقلال، خصوصاً بعد الثورة التي مثّلت منعطفاً حقيقياً لأحزاب هذه العائلة السياسية لترويج أطروحاتها وإثبات عمقها الاجتماعي.
بالرغم من هذا التاريخ النضالي، فشلت كل التشكيلات اليسارية في مختلف المحطات الانتخابية في إقناع التونسيين بأن تكون بديلاً للحكم، ثم فشلت لاحقاً في الحفاظ على وحدتها التي انفجرت على أبواب انتخابات 2019، حين تفكك تنظيم الجبهة الشعبية الذي ضم نحو 11 حزباً يسارياً.
وكان الحزب قد فقد في سنوات سابقة، بقرارات استقالة أو طرد، قيادات تاريخيةً بينهم عبد المؤمن بلعانس وسمير حمودة وعبد الجبار المدوري، وغيرهم من القيادات التي ساهمت في بناء الحزب خلال سنوات السرّية.
موسم التفكك بدأ منذ أيار/ مايو 2019، حين أعلن تسعة نواب من الجبهة الشعبية (ائتلاف أحزاب يسارية)، استقالتهم من الكتلة الحاصلة حينها على 15 مقعداً في البرلمان (من جملة 217)، لتتشتت مقاعد أحزاب اليسار، ما جعلها تعيش هزيمةً موجعةً خلال الانتخابات التشريعية التي حصلت فيها كل أحزاب اليسار على مقعد وحيد في البرلمان.
يرى المحلل السياسي جمال العرفاوي، أنّ اليسار في تونس يعاني من أزمة "الأنا المتضخمة"، لأنّ قياداته كل واحد منها يرى نفسه الزعيم الأوحد وصاحب الرأي الصائب، ولم يستطيعوا تجاوز عقدة الزعامة
وتُعدّ "الجبهة الشعبية" ائتلافاً سياسياً تونسياً يضم ثلة أحزاب يسارية وقومية وبعض المستقلين، تأسس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2012، خلال اجتماع شعبي في قصر المؤتمرات في العاصمة التونسية. وأُسندت مهمة الناطق باسمها إلى الأمين العام لحزب العمال، حمّة الهمّامي.
وجمعت الجبهة عند تأسيسها عشرة أحزاب يسارية التوجه، هي "حزب العمال"، و"حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد"، و"حزب القطب"، و"حركة البعث"، و"حزب الطليعة العربي الديمقراطي"، و"حزب النضال التقدمي"، و"الحزب الوطني الاشتراكي الثوري"، و"رابطة اليسار العمالي"، و"حزب تونس الخضراء"، و"الحزب الشعبي للحرية والتقدم"، بالإضافة إلى جمعيات وأشخاص مستقلين.
وتقدم الجبهة الشعبية نفسها على أنها تمثّل طريقاً ثالثاً في مواجهة الاستقطاب الثنائي بين حزبَي "حركة النهضة" الإسلامية، وحركة "نداء تونس" التي يعدّونها من صلب حزب التجمع المنحل الذي كان يرأسه الرئيس السابق، زين العابدين بن علي.
وذلك قبل أن تحصد نتائج مخيبة في الانتخابات الرئاسية التي خاضها قياديان يساريان تاريخيان، هما منجي الرحوي وحمّة الهمّامي الذي حاول الوصول للمرة الثانية إلى قصر قرطاج، ليتذيل نتائج الانتخابات بنسبة 0.7%، بعدما كان حصل في انتخابات 2014 على المركز الثالث بعد الرئيسين السابقين الباجي قايد السبسي، ومحمد المنصف المرزوقي.
وحصل منجي الرحوي عن حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد على 0.8%، فيما حصل أمين عام حزب "تونس إلى الأمام" والقيادي السابق في الاتحاد العام التونسي للشغل، عبيد البريكي على 0.2%.
الزعامة تصيب اليسار في مقتل
يرى المحلل السياسي جمال العرفاوي، أنّ اليسار في تونس يعاني من أزمة "الأنا المتضخمة"، لأنّ قياداته كل واحد منها يرى نفسه الزعيم الأوحد وصاحب الرأي الصائب، ولم يستطيعوا تجاوز عقدة الزعامة، لافتاً إلى أنّه ظلّ متشرذماً لم يستوعب الواقع وتغيّراته، وبقي وفياً لبرجه العاجي إذ لم يستطع أن يلتحم مع الشارع.
العرفاوي يضيف أيضاً في حديثه إلى رصيف22، أنّ أحزاب اليسار لم تخرج من الدائرة التي وضعت نفسها فيها، مستبعداً عودتها إلى ما كانت عليه خلال سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، ربما لعقد آخر أو أكثر، ولفت أيضاً إلى أنّها لم تجرِ نقداً ذاتياً خلال السنوات العشر الماضية، وهو ما جعلها لا ترى أخطاءها.
أحزاب اليسار التي أضاعت فرصة العودة إلى المشهد السياسي بعد استشهاد القيادي اليساري شكري بلعيد، وما شهدته حينها من تعاطف شعبي منقطع النظير، عاشت بعدها على وقع الخيبات المتتالية على مستوى المحطات الانتخابية، وأيضاً على مستوى فشل كل محاولات تجميع هذه القوى المشتتة في هيكل سياسي واحد.
أصبحت فكرة توحيد العائلة اليسارية حلماً شبه مستحيل، وفق ما يؤكد المحلل السياسي بولبابة سالم، عادّاً أنّ أحزاب اليسار لا تعترف بأخطائها، ولا ترى سبباً لإجراء أي مراجعات ذاتية وإصلاح ما يجب إصلاحه، فيما يعتقد أنّ فكرة التجميع قد تنجح في مستقبل بعيد، وبأجيال جديدة.
ويقول سالم في تصريحه لرصيف22، إنّ اليسار في تونس ما زال يساراً أيديولوجياً إقصائياً، لا يؤمن بالتنوع وبالاختلاف، كما أنّه ما زال بدائيَّ الفكر لم يستفِد من نجاح تجربة اليسار الفرنسي مثلاً، الذي نجح في أن يصبح قوةً ويفرض معادلةً مهمةً في المشهد السياسي الفرنسي، مشدّداً على أنّه يسار ثقافي أكثر منه يسار اجتماعي.
ودعا سالم أحزاب اليسار إلى ضرورة الحسم في مسألة الهوية التي جعلته في صراع دائم مع الشعب التونسي، فيما لفت إلى أنّ اليسار يُعدّ معقل النقابات العمالية، والحركات الطلابية، غير أنّه لم يستثمر ذلك، وظلّ ينتقل من هزيمة إلى أخرى، ومن خيبة إلى أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...