وأنت تتجول في مدن تونس الكبرى وضواحيها، تلاحظ اكتظاظاً أمام المخابز وطوابير طويلةً في انتظار التزود بالخبز. زبائن تبدو على وجوههم علامات الضجر مما آلت إليه الأوضاع، فالنقص في مادة الخبز وصعوبة الحصول عليه أصبحا مشكلةً تؤرق التونسي، عززتها الزيادة في سعره. أزمة ألقت بظلالها على المواطن التونسي وعلى أصحاب المخابز الذين يشتكون بدورهم من صعوبة تزودهم بمادة الطحين، وارتفاع سعرها.
وتشكو البلاد في الأسابيع الأخيرة من نقص حاد في العديد من المواد الغذائية، خاصةً منها مادتي الطحين والسميد اللتين تُستعملان لإعداد الخبز المنزلي وهو نقص ناتج عن تراجع إنتاج الحبوب في البلاد بسبب عوامل مناخية وصعوبة الاستيراد في ظل أزمة مالية حادة تمر بها البلاد.
خسائر يومية
تحدّث رئيس المجمع المهني للمخابز العصرية في كوناكت، عبد الكريم بن محرز، عن وجود نقص فادح في التزود بمادة الطحين مما تسبب في إغلاق العديد من المخابز العصرية لعدم قدرتها على ممارسة نشاطها، مذكراً بأن المجمع كان قد نفّذ وقفةً احتجاجيةً أمام وزارة التجارة، وتلقّى وعوداً من مسؤولين لتدارك هذا النقص وإصلاح القطاع، لكن تم تزويد المخابز في بعض المحافظات فقط، ومن ضمنها "القيروان وصفاقس وسوسة وجندوبة"، أما في أغلب المناطق فلم يتغير الوضع.
ورأى بن محرز في حديثه إلى رصيف22، أن المخابز العصرية تتكبد خسائر يوميةً في ظل التزاماتها المتعددة، كسداد ديونها وأجور العمال وفواتير الكهرباء والماء، مضيفاً: "سعر المئة كيلوغرام من الطحين كان يبلغ 51 ديناراً، وارتفع إلى 65 ديناراً، ناهيك عن سعره في السوق الموازية والذي بلغ 85 ديناراً. هذا الارتفاع في السعر ترفض وزارة التجارة مصارحة الشعب التونسي به، لذا اضطررنا إلى بيع "الباقات" بـ250 مليماً، لتغطية التكلفة وليس للربح. لم نطلب دعماً، نطالب بتوفير الكميات اللازمة من الطحين فحسب. المخابز العصرية تؤمن حاجيات نحو 40 في المئة من احتياجات الشعب التونسي من الخبز، وبضرب هذه المنظومة سيجوع الشعب".
كما بيّن أن الوزارة تصرّح بأن الكميات موجودة، لكن المطاحن ترفض تزويد المخابز العصرية لعدم تلقيها أوامر بذلك، مشيراً إلى ضرورة تنظيم القطاع الذي يؤطره قانون من خمسينيات القرن الماضي، في حين أن المخابز العصرية أنشئت سنة 2012. "المخابز العصرية غير مدعومة ونشاطها لا يقتصر على الحلويات، فالقدرة الشرائية للتونسي تدهورت ولم يعد يُقبِل على الحلويات والاتهامات الموجهة إلى هذه المخابز غير صحيحة ونشاطها الرئيسي صناعة الخبز".
وختم المتحدث بالتأكيد على أن الوضع خطير وسيتطور نحو الأسوأ في ظل غليان أصحاب المخابز. وفي غياب إجابة مقنعة من الوزارة، سنضطر إلى الدفاع عن موارد رزقنا.
قطاع غير منظم
يواجه قطاع المخابز في تونس العديد من الإشكاليات وأزمةً داخليةً حادةً ناتجةً عن القوانين التي تؤطر هذا القطاع، وهي قاصرة عن التصدي للفوضى والعشوائية.
يقف التونسيون في طوابير لشراء الخبز. أزمة ناتجة عن الوضع الاقتصادي وقد تعمق منه أكثر الحرب في أوكرانيا
وقد أكد رئيس الغرفة الوطنية لأصحاب المخابز، محمد بوعنان، أن مادتَي "الطحين والسميد"، موجودتان ومتوفرتان وبالكميات اللازمة، ولا وجود لأي إشكال أو نقص في التزود بهما، مشيراً إلى أنه يتم توزيع "الطحين والسميد" على المخابز وفقاً لعدد المواطنين في كل جهة.
وبيّن بوعنان في حديثه إلى رصيف22، أن الإشكال يتعلق بالمخابز غير المصنّفة "مخبزة ومرطبات"، والتي يفترض أن تعد الحلويات والخبز الرفيع (خبز كامل يتكون من القمح)، والخبز المبسس (نوع من الخبز يضاف إليه الزيت)، لكنها تتجاوز ما هو منصوص عليه في القانون الجبائي، وتتعمد تنقيص الوزن ورفع السعر.
ويتابع المتحدث: "الوزن والسعر محددان من قبل الدولة. الخبز الكبير وزنه 400 غرام وسعره 230 مليماً، وخبز الباقات سعره 190 مليماً، لكن المخابز غير المصنفة تعدّ خبزاً شكله شكل الباقات لكن وزنه أقل بـ70 غراماً وسعره 250 مليماً. هذه المخابز تمردت على الدولة وتحتال على المواطنين.
نفي حكومي
في الوقت الذي يواجه فيه التونسي صعوبةً يوميةً في التزود بالخبز وبمادتي الطحين والسميد، تنفي وزارة التجارة وجود أي نقص أو تقصير من جهتها في تزويد المخابز، وتؤكد أن للأزمة أسباباً أخرى.
وقد أكد المدير الجهوي للتجارة في تونس، ماهر الغريبي، أن وزارة التجارة تخصص 530 ألف قنطار من الطحين شهرياً توزَّع على المخابز المصنفة والتي يبلغ عددها 3،400 مخبز على كامل تراب الجمهورية، وتوجه هذه الكمية للخبز المدعوم، وهي حصة قارة غير قابلة للزيادة ولا للنقصان وتالياً لا يمكن أن يكون هناك إشكال وفق قوله.
ويضيف الغريبي في حديثه إلى رصيف22، أن أكثر من 500 مخبز غير مصنف تتزود بكميات متغيرة من الطحين الرفيع وبحصص غير مضبوطة حسب الطلب، لأنها خاضعة للعرض والطلب، متابعاً: "شهرياً يتم صنع 291 مليون خبزة، أي ما يعادل 10 ملايين خبزة توزع يومياً على كامل تراب الجمهورية كما يتم تخصيص 230 ألف قنطار من الطحين والسميد يستهلكها المواطن التونسي في المنتوجات البديلة كإعداد الكسكس والخبز المنزلي خاصةً في المناطق الداخلية".
وشدد المتحدث على أنه لا وجود لأي نقص في كميات الخبز والاكتظاظ الذي يلاحَظ في بعض المناطق ناتج عن عدم احترام بعض المخابز للتوزيع العادل لحصتها الشهرية من الطحين على جميع أيام الشهر، وهو ما يؤثر على عملية التزود في تلك المنطقة، قائلاً: "في إحدى مدن الضاحية الشمالية لاحظنا اكتظاظاً على المخابز وشكاوى من نقص في الخبز، وبالبحث عن الأسباب ثبت أن مخبزاً في الجهة استهلك حصته في ثلاثة أسابيع وأغلق في الأسبوع الرابع وتالياً تحول زبائنه إلى مخابز أخرى ونتج عن الأمر اكتظاظ".
ورأى المسؤول أن حالات الاكتظاظ ظرفية ومرتبطة بتجاوزات بعض أصحاب المخابز الذين يتعمدون التفريط بحصصهم من الطحين المدعوم عبر بيعه، عوض أن يقوموا بدورهم في تحويله إلى خبز وتزويد المواطنين به، مبيّناً أنه في سنة 2021 تم اتخاذ 104 إجراءات ضد مخابز ثبت تلاعبها بالطحين المدعوم وسُلّطت عليها عقوبات إدارية من بينها تخفيض حصتها، و"سحب 2،500 قنطار من الطحين المدعوم" وتغيير تصنيفها. كما عزا الاكتظاظ الحاصل إلى ارتفاع الطلب على مادة الخبز والإقبال غير المسبوق من المستهلك على مادتي الطحين والسميد.
وقال ماهر الغريبي: "حسب معطياتنا المخابز لديها كميات فائضة على إنتاجها حُذفت من حصتها سنة 2021، ولدينا فرق مراقبة تنشط في المخابز مهمتها متابعة التزويد، خاصةً في المساء، ومراقبة مدى شفافية معاملاتها، أي أنها ملتزمة بالإجراءات المنوطة بها.
أزمة الحبوب
في ظل تنامي المخاوف من إمكانية تسجيل اضطراب في التزود بالحبوب بعد نشوب الحرب الروسية الأوكرانية، تواجه تونس صعوبةً في تسديد فواتير شحنات أربع بواخر محملة بالحبوب المستوردة في ميناء صفاقس. وقد أكدت وزارة التجارة أن مخزون الحبوب يغطّي حاجات البلاد إلى شهر أيار/ مايو المقبل.
وقد شدد رئيس كونفدرالية المؤسسات المواطنية التونسية للفلاحة، بشير المستيري، على أن تونس تشهد نقصاً في المواد الغذائية، خاصةً منها الحبوب والقطاني والصوجا والذرة، مبيّناً أن الإنتاج المحلي من القمح الصلب (يوجَّه أساساً لصناعة الكسكس والمقرونة)، يغطّي 80 في المئة من حاجاتنا في حين أن إنتاجنا من القمح الليّن لا يغطي إلا خمسة في المئة من حاجتنا إليه.
الحرب بين روسيا وأوكرانيا سيكون لها تأثير مباشر على أسعار الحبوب، وعلى الرغم من أن تونس لا تستورد من بلدان معيّنة وتشتري الحبوب من كبار التجار، فإن هؤلاء التجار يستوردون تقليدياً من البحر الأسود وأساساً من البلدين المذكورين
وأكد المستيري في حديثه إلى رصيف22، ارتفاع أسعار الحبوب في العالم، وسياسياً واجتماعياً لا يمكن لتونس رفع سعر الخبز، وعليه سيتضاعف الضغط على صندوق الدعم في الوقت الذي تواجه فيه تونس صعوبات اقتصاديةً كبرى، وتتفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على قروض، مضيفاً: "الحرب بين روسيا وأوكرانيا سيكون لها تأثير مباشر على أسعار الحبوب، وعلى الرغم من أن تونس لا تستورد من بلدان معيّنة وتشتري الحبوب من كبار التجار، فإن هؤلاء التجار يستوردون تقليدياً من البحر الأسود وأساساً من البلدين المذكورين".
وأفاد بشير المستيري أن الإشكالية تكمن في أن الخبز مادة أساسية في غذاء التونسي والسميد والطحين أساسيان خاصةً في المدن الريفية وأحزمة المدن الكبرى، مضيفاً: "هناك إشكال آخر يتعلق بغلاء الأسمدة التي يتم استيرادها أساساً من روسيا، بالإضافة إلى تعطل إنتاج الفوسفات في الجنوب التونسي. والمشكلات التي يتعرض لها الفلاح والمتمثلة في شح الأمطار، تؤثر أيضاً على الإنتاج وعلى الدولة برمتها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه