هلل الكثير من المنتسبين إلى المشهد الثقافي في تونس، منذ الساعات الأولى من الانقلاب، مدفوعين إما بسطحية وسذاجة تصوراتهم السياسية، أو بدوغمائية مثخنة بالأيديولوجيا. فلم يكن لهم أي مشروع إلا التخلص من الإسلام السياسي الذي لم يعد أصلاً إسلاماً سياسياً، فمن يتأمل جيداً حركة النهضة مثلاً سيلاحظ كيف التحق بها العلمانيون وحتى اليساريون طمعاً في المناصب، فاضحين انتهازيتهم من ناحية، وكاشفين الطابع البراغماتي للحركة من ناحية ثانية.
وبعد أن تكشفت إعاقة مشروع قيس سعيد، لاذ الجميع بالصمت، فهم يتقلبون بين فوبيا رجوع الإسلام السياسي للحكم، والإبقاء على نظام الانقلاب المفلس. وهكذا ظل المشهد الثقافي يعض على ذيله ويتألم في صمت دون أن يصرخ، في وقت تزايدت انتهاكات النظام لحقوق الإنسان ومحاصرة الحريات ولجم الألسن.
من الانتخاب الانتقامي إلى الاصطفاف الانتقامي
وصل قيس سعيد بتصويت انتقامي كما وصل سابقه الباجي قايد السبسي، ففي الوقت الذي راهن فيه السبسي على العلمانيين، وخاصة على العنصر النسائي، للضرب على الوتر الحساس للعلمانية التونسية، راهن كل من قيس سعيد ونبيل القروي على الفقراء، فتقاسموا الناخبين ليفوز الأكثر فقراً، بدعم من حركة النهضة ونداء الغنوشي لقواعده، وأمرهم بالتصويت لقيس سعيد في الدور الثاني.
هلل الكثير من المنتسبين إلى المشهد الثقافي في تونس، منذ الساعات الأولى من الانقلاب، مدفوعين إما بسطحية وسذاجة تصوراتهم السياسية، أو بدوغمائية مثخنة بالأيديولوجيا. فلم يكن لهم أي مشروع إلا التخلص من الإسلام السياسي الذي لم يعد أصلاً إسلاماً سياسياً
ففاز اليأس التونسي المتمثل في الشباب المعطّل عن العمل، على المافيوزية التي مثلها القروي، لأن قيس سعيد ذهب بالعملية الانتخابية إلى منطقة سوريالية غير مسبوقة، عندما رفع شعار "اللامشروع" و"الشعب يريد". يذكرنا هنا بوصول الرئيس الأوكراني للحكم، مع فارق السن والذكاء، عندما وصل إلى الرئاسة عبر مسلسل "خادم الشعب"، ليصدق الشعب المسلسل ويحاول إعادة إنتاجه في الواقع. لكن الفن الذي اعتبره نيتشه بديلاً للحقيقة المميتة، ظل إلى اليوم يقتل أيضاً.
أما في تونس، فمنذ سنوات يعيش المشهد السياسي أزمة تخييل، ووصف الرئيس برجل بلا خيال، وهذا يجعل منه يتورّط كل مرة في سردية جديدة ولا يظفر بحبكة ينجو بها، لأنه لم يكن يوماً مؤلّفاً، لا في اختصاصه ولا في الأدب الذي يعشقه ويستشهد به طوال الوقت.
قام سعيد بدور هزلي في الواقع أضحك الشعب، خاصة في ظهوره الطريف في برنامج "الكاميرا الخفية"، فأحبه والشعب يحب دائماً شخصية الهزلي والأرعن في الدراما، خاصة إذا كان بروح سياسية انتحارية، ضاربة عرض الحائط بالبروتوكلات، فاصطف وراءه من هذا المبدأ: الروح التدميرية التي استند عليها المثل التونسي الشهير "شنقة مع الجماعة خلاعة" ،أي الموت والدمار مع الجميع سياحة.
لا يدافع التونسيون عن حرية التعبير وحرية الإنسان في معناها الشمولي العام، لأنها في عرفهم لا يجب أن تشمل أعداءهم الإيديولوجيين، فالإسلاميون مثلاً لا تشملهم هذه الحقوق
حرية الإنسان والتعبير المشروطة عند التونسيين
لا يدافع التونسيون عن حرية التعبير وحرية الإنسان في معناها الشمولي العام، لأنها في عرفهم لا يجب أن تشمل أعداءهم الإيديولوجيين، فالإسلاميون مثلاً لا تشملهم هذه الحقوق، وهكذا ساندوا الانقلاب في كل انتهاكاته في البداية، ولم يحرك الحقوقيون ولا الكتاب العلمانيون ساكناً تجاه ما يحدث لأعدائهم الإيديولوجيين، بل ذهبوا إلى التشفي منهم ونشر التدوينات المرحبة بالزجّ بهم في السجون دون محاكمات، أو وضعهم تحت الإقامة الجبرية. وكان الانقلاب يتمدد كالسرطان، حتى شمل من حسبوا أنفسهم من أنصار الرئيس، كبعض القوميين من حركة الشعب واليسار، فوجدوا أنفسهم ممنوعين من مغادرة البلاد، بل شمل الاعتداء حتى المروّجين للحملة الانتخابية للرئيس نفسه.
وقد تعرض السياسيون المخضرمون الذين دافعوا عن الديمقراطية كمبدأ وهدف دون إقصاء لحملات تشويه كبرى، ولعل الناطق الرسمي باسم حزب العمّال، حمه الهمامي، أحدهم، حتى انسحب تدريجياً، وغرق في تحبير شعر رديء في زوجته المناضلة راضية النصراوي، كان بدأه قبيل الانقلاب بقليل، ليتحول إلى مشروع كتاب صدر بعد الانقلاب.
انطلق الاعتداء على الحريات في تونس بمنع السفر للعديد من الشخصيات السياسية والنواب والناشطين، ثم تطور ليصبح إقامة جبرية في بيوتهم، قبل أن يتطور نحو الاعتقالات والإقامات الجبرية في مجاهل البلاد، لتصل إلى المحاكمات العسكرية للمدنيين على خلفية تدوينات فيسبوكية
جرافة الحريات تتحرك
انطلق الاعتداء على الحريات بمنع السفر للعديد من الشخصيات السياسية والنواب والناشطين، ثم تطور ليصبح إقامة جبرية في بيوتهم، قبل أن يتطور نحو الاعتقالات والإقامات الجبرية في مجاهل البلاد، لتصل إلى المحاكمات العسكرية للمدنيين على خلفية تدوينات فيسبوكية، وأبرز مثال ما حدث ومازال يحدث لنائب الشعب وابن الشهيد العسكري ياسين العياري، الذي أجبر مرات على الوقوف أمام المحاكم العسكرية على خلفية تدويناته، حتى حكم عليه مؤخراً بالسجن وهو في فرنسا، وحرم من توديع ودفن أمه التي وافتها المنية بعد سفره.
كان ياسين العياري أحد أشرس النواب في البرلمان التونسي وأكثرهم عملاً وشفافية، وكان كل شهر ينشر جرداً بعمله ليطلع الرأي العام على نشاطه، واستطاع أن يكشف الكثير من الفساد ومن القضايا المهمة، غير أن الانقلاب لم يفرق بين نائب صالح ونائب طالح، وجمد الجميع ولاحق الجميع بشتى التهم، حتى لو كانت تدوينات تدخل في حرية التعبير.
ولم يكتشف الإعلام خطورة ما يحدث في تونس إلا عندما اقترب الأمر منهم، ومع ذلك لم يجرؤ على الحديث عنها إلا عبر محامين ينشطون في الإعلام، كالمحامية سنية الدهماني مثلاً.
تفشت الحيطة والخوف عند الشعب التونسي الذي صار يتجنب الخوض في السياسي على صفحاته، لأنه إذا لم تلاحقه المحكمة العسكرية بتهمة ارتكاب أمر موحش في حق رئيس الجمهورية، طارده ما يسمى ب"ذباب الإخشيدي"، وهي ميليشيات إلكترونية داعمة للانقلاب
كان ياسين العياري واحداً من الناشطين القلائل القادرين على صياغة خطاب عقلاني مقنع، وقادر على تجميع المعارضة بالحجج لا بالإيديولوجيا، لذلك كان على نظام الانقلاب تصفيته أو استبعاده عبر الاعتقال أو النفي، فالأزمة الواضحة في النظام هي أزمة خطاب وصياغة مقول يسمع فيقبل أو يحترم، وأمام ذلك الاخفاق في التواصل اليومي، لم يكن أمامه إلا قطع ألسنة القادرين على إنتاج خطاب تواصلي ناجح.
ارتكاب أمر موحش بحق رئيس الجمهورية
هذا ليس عنواناً ساخراً، بل تهمة تونسية جديدة ظهرت بعد 2011 وتكرست مع الرئيس قيس سعيد منذ 2020، فكل من يشتم الرئيس أو حتى يشير إليه أو يمس مشاريعه الكبرى، كالاستشارة الوطنية الإلكترونية لتغيير نظام الحكم، يُزج في السجن، مثلما حصل مع المواطن عمارة بن منصور؛ أستاذ بالتعليم الثانوي، وجد نفسه فجأة معتقلا لـ78 ساعة بهذه التهمة، إثر نشر تدوينة ساخرة عن أزمة الدقيق في تونس، ومشاركة بعض التدوينات المعارضة.
في تونس فقط يريدون ديمقراطية على القياس، ديمقراطية سوريالية لا وجود فيها لأي اختلاف، كما كان نظام بن علي الذي ذهب إلى تسمية الشوارع بالديمقراطية، وسمى حزبه بالتجمع الديمقراطي دون أن يرى الشعب أي شيء من الديمقراطية
وكان الصحفي عامر عياد بقناة "الزيتونة" قد حوكم قبل أشهر أمام المحكمة العسكرية، بسبب ترديده لقصيدة لأحمد مطر، وزج في السجن بسبب القصيدة التي أوردها في مقدمة برنامجه، وشملت المحاكمة الكاتب والنائب عبد اللطيف العلوي .
إن هذه الأمثلة تقدم نماذج على واقع حرية التعبير في تونس اليوم بعد الانقلاب، إلى جانب اعتقال مؤسسة التلفزة التونسية برمتها من خلال مديرتها، التي عينها رئيس الجمهورية وجندها للدعاية لمشروعه السياسي، ومنع الأحزاب المعارضة والشخصيات التي تخالفه الرأي من الظهور فيها، فصارت القناة الوطنية، بقدرة قادر، قناة قيس سعيد وحده، وتبخرت كل مقتبسات الإعلام بعد انتفاضة 2011 وتحرره من قبضة قصر قرطاج.
تفشت الحيطة والخوف عند الشعب الذي صار يتجنب الخوض في السياسي على صفحاته، لأنه إذا لم تلاحقه المحكمة العسكرية بتهمة ارتكاب أمر موحش في حق رئيس الجمهورية، طارده ما يسمى ب"ذباب الإخشيدي"، وهي ميليشيات إلكترونية داعمة للانقلاب، تقرصن حساباتهم أو تهددهم بالإشاعات وخلق الأراجيف والفضائح عنهم.
إن هذه الوضعية البئيسة لحرية التعبير وحقوق الإنسان بتونس نتيجة طبيعية للنظرة المحدودة للحريات، فمؤسسات المجتمع المدني لا تتحرك إلا بشكل قطيعي للدفاع فقط عن وجوه فنية أو سياسية معينة، غاضّة الطرف عن من لا انتماء له من المستقلين، أو انتمائه إلى تيارات سياسية مغضوب عليها. وكذلك الأمر مع فكرة الديمقراطية، ففي تونس فقط يريدون ديمقراطية على القياس، ديمقراطية سوريالية لا وجود فيها لأي اختلاف، كما كان نظام بن علي الذي ذهب إلى تسمية الشوارع بالديمقراطية، وسمى حزبه بالتجمع الديمقراطي دون أن يرى الشعب أي شيء من الديمقراطية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...