شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عن الجهاديات الفرنسيات في سوريا... مراجعة لكتاب

عن الجهاديات الفرنسيات في سوريا... مراجعة لكتاب "عطر جهادي"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 29 أبريل 202203:59 م

اكتشفت هواية جديدة مع اشتراكي في المكتبة العامة لمدينتي، وهي البحث اعتباطاً بين الكتب علي أجد جواهر لم أسمع عنها ولم ينصح بها أحد. وفي إحدى جولاتي الاستكشافية وقع بين يدي كتاب باللغة الفرنسية عنوانه "عطر جهادي"، ولم يكن سبب اهتمامي بالكتاب العنوان فحسب، بل اسم أحدى كاتبتيه: إيديت بوفيه. فمن من السوريين لا يتذكر صورة إيديت بوفيه وهي ترتدي جلابية سورية مطرزة بعد أن أصيبت في قصف على مركز إعلامي في بابا عمرو في حمص، قتلت فيه الصحافية ماري كولفن والمصور ريمي أوشليك. 

كنت أعلم أن بوفيه روت قصة نجاتها وخروجها من حمص بمساعدة الجيش السوري الحر في كتاب ترجم للعربية تحت عنوان "غرفة تطل على الحرب"، ولم أكن قد سمعت أن إيديت بوفيه وشريكتها في الكتابة سيلين مارتوليه تعملان على مشروع آخر يتناول الفرنسيات اللواتي انضممن إلى "المشاريع الجهادية" في سوريا.
يعرض الكتاب نماذج من هؤلاء النساء والفتيات اللواتي ذهبن إلى سوريا في محاولة لتحليل الظاهرة، لا سيما في ظل أن فرنسا، الدولة الأكثر تشدداً بعلمانيتها، صدّرت أكبر عدد من هؤلاء "المجاهدات". وتشرح الكاتبتان في المقدمة أن الكتاب ليس في أي حال من الأحوال محاولة لتبرير أفعال هؤلاء النساء بقدر ما هو رغبة بدراسة الظاهرة على أمل عدم تكرارها في المستقبل. 

تبدو المجاهدات منشغلات بإعادة إنتاج حياتهن الفرنسية، فتتحدثن عن أنواع الحلويات الفرنسية المتوفرة في الأسواق وعن كيفية طلب سلات المشتريات عبر الإنترنت من خلال شبكة توصل الطلبات إلى الرّقة.

ينطلق الكتاب في فصليه الأولين انطلاقة غريبة وقد تبدو سريالية إلا أنها ضرورية لفهم السياق الذي تعيشه هؤلاء النساء. تخصص الكاتبتان الفصل الأول للحديث عن الطبخ والثاني عن التسوق بناء على محادثاتهما التي دامت لسنوات مع الفرنسيات المنضمات إلى داعش وإلى جبهة النصرة. تبدو المشاركات منشغلات بإعادة إنتاج حياتهن الفرنسية ولكن في سياق إسلامي، فتتحدثن مع الكاتبتين عن أنواع الحلويات الفرنسية المتوفرة في الأسواق وما يمكن صناعته في المنزل، عن كيفية طلب سلات المشتريات عبر الإنترنت من خلال شبكة توصل الطلبات إلى الرقة، ويحاول الكتاب هنا أن يرسم صورة عن رؤية هؤلاء النسوة لحياتهن بالمقارنة مع الواقع الذي يعشنه. وتبدو الصورة غريبة وغير منطقية، فالحديث عن الموضة ونكهات الطعام لا يتناسب إطلاقاً مع عيشهن تحت القصف. وتكتمل السوريالية عندما تلتقي إحدى الكاتبتين بفتاة تحاول الالتحاق بسوريا وتفشل بعد أن تشددت إجراءات المراقبة الفرنسية فتقول لها الشابة: "لا أحب فرنسا، أفضل البغدادي على فرانسوا هولاند"، تقول القاصر جملتها تلك وكأنها تقارن عالمين قابلين للمقارنة، ولكننا أثناء قراءة الكتابة يمكن أن نفهم أن ما تبحث عنه الفرنسيات هو فرنسا نفسها ولكن معدلة. وهنا يكمن جوهر التناقض، فهن يرغبن بعيش نمط حياة غربي ولكنهن يرغبن أيضاً بالعيش وفق الشريعة الإسلامية ويحاولن البحث عن طريقة للتوفيق بينهما.  
يتطرق الكتاب إلى نماذج الفرنسيات الملتحقات بالجهاد، وتلاحظ الكاتبتان ملاحظة شديدة الأهمية هي أن الحالات متعددة ومتنوعة، ولا يجمعها مستوى اجتماعي أو اقتصادي واحد، ومع اختلاف الحالات تلاحظ الكاتبتان بعض الأنماط المتكررة، وتشرحان أن موضوعة الأب الغائب حاضرة في كثير من الحالات وأحياناً تترافق مع أم شديدة المراقبة والالتصاق بابنتها، كما تلاحظان تكرر حالات المراهقة المضطربة. كذلك تتفق الكثير من الدراسات التي أجريت حول موضوع المجندات في داعش مع ملاحظة الكاتبتين بأن فئة ثالثة متكررة هي فئة النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب، وتشرحان بأن هذه الفئة تفضل القواعد الصارمة في مجتمع يفصل بشدة النساء عن الرجال، كما تنجذب الفتاة التي تعرضت سابقاً للاغتصاب لرواية أن رجلاً قوياً سيحميها ويدافع عنها. وتضيف الكاتبتان فئة أخيرة وهي الفئة التي بسبب إيمانها العميق ترغب بضمان الجنة لعائلتها التي تعيش نمط حياة "الكفار"، ومن شدة الخوف على عائلاتهن من النار ينضممن بسبب بروباغاندا أطلقت بأن المنضمات سيدخلن الجنة مع أحبائهن وأقربائهن.
ولم تركز الكاتبتان في دراسة الحالات على التمييز بين أصول الفرنسيات المشاركات بشهاداتهن سوى من خلال الأسماء المستعارة التي منحتاها للسيدات والفتيات فتسميان شخصياتهما ستيفاني أو سيسيل، أمل أو ثريا على سبيل المثال. 

 هؤلاء الفرنسيات سكنّ بيوت السوريين التي سرقت منهم، وطبخن حلوياتهن الغربية في قدور اشتراها السوريون وخلفوها وراءهم أثناء هربهم من الرعب الذي سكن مدنهم.

تختلف الصورة التي يرسمها الكتاب للنساء المجندات عن الصورة التي أغرقت الإعلام لسنوات. تفترض الصورة التقليدية أن النساء الملتحقات بالمنظمات الإرهابية كن عاشقات، غرر بهن شريك يحببنه كثيراً أو فضلن الانضمام إلى الإرهابيين كي لا ينفصلن عن أطفالهن. يأتي الكتاب ليفكك تلك الصورة رغم وجود حالة الملتحقة بسبب الحب، ليشرح تنوع الحالات ويوضح أن بعض النساء انضممن وحدهن دون شريك. والأدهى أنهن في بعض الحالات يتبنين فكراً راديكالياً متطرفاً إلى أقصى الدرجات. والأهم أنهن ذكيات وقادرات على المناورة ولسن غبيات. ومن هذه الفكرة ينطلق الكتاب ليناقش مسألة المسؤولية، إذ ظلت النساء العائدات من المنظمات الإرهابية يعاملن معاملة تمييزية تخفف الأحكام لصالحهن بحكم اعتبار الرجال المسؤولين الحقيقيين عن مغادرتهن وطنهن وانضمامهن لتلك المجموعات المتطرفة.  وتوضح الكاتبتان أن هذا التعامل بحد ذاته ذكوري يفترض عدم قدرة النساء على تقرير مصيرهن ولا تحمل بالمقابل مسؤولية الانضمام إلى الإرهاب بمحض إرادتهن. 
تطرح الكاتبتان أيضاً سؤالاً معقداً: كيف يمكن للقضاء النظر إلى قضايا المجندات العائدات إلى فرنسا علماً أنهن لم يشاركن في القتال؟ يشرح الكتاب أن دور النساء فيما يسمى "الدولة الإسلامية" انحصر منذ وصولهن بالتكاثر، فهن أدوات للإنجاب، وتمنع عليهن المشاركة في القتال، ولكنهن في حالات عديدة يعرضها الكتاب متزوجات من قياديين ارتكبوا جرائم عديدة تتضمن الإعدامات وتنفيذ أحكام تعسفية بحق سكان المدينة، ويقوم دور الزوجات على رعاية الأزواج وإطعامهن. فهل يمكن اعتبار ذلك مساهمة في الجهد الحربي وبالتالي شراكة في الجريمة؟
يركز الكتاب أيضاً على أن هؤلاء الفرنسيات سكنّ بيوت السوريين التي سرقت منهم، ويطبخن حلوياتهن الغربية في قدور اشتراها السوريون وخلفوها وراءهم أثناء هربهم من الرعب الذي سكن مدنهم. كما يطرح الكتاب قضية النساء اليزيديات اللواتي تم بيعهن كالعبدات في الرقة، ولكن كل اللواتي قابلنهن ادعين أنهن لا يعرفن عن الأمر شيئاً. أمام كل هذه المسائل المعقدة، يجد القضاء نفسه عاجزاً، خاصة أن معظم العائدات يعلن التوبة ويعتذرن عن الرحيل ويشرحن أنه تم التغرير بهن. ويعترف بعض القضاة للكاتبتين بحيرتهم لا سيما في ظل وعيهم بوجود مفهوم التقية، ولأن القانون لا يعاقب على النوايا وإنما على الأفعال.

تفترض الصورة التقليدية أن النساء الملتحقات بالمنظمات الإرهابية قد غُرر بهن، يفكك الكتاب تلك الصورة ويوضح أن بعض النساء انضممن وحدهن وأنهن في بعض الحالات يتبنين فكراً راديكالياً متطرفاً، والأهم أنهن لسن غبيات.

ويبقى السؤال معلقاً: هل على المجتمع الفرنسي إعطاؤهن فرصة ثانية؟ وتبدو الإجابة التي وجدتها الجهات الرسمية الفرنسية على كل هذه المعضلات سهلة، فالمحبذ هو ألا يعدن أصلاً، وبذلك تترك الفرنسيات اللواتي  لم يمتن في القصف لمن اعتقلهن في العراق وفي سوريا، وتصرح الدولة: "سيحاكمن حيث هن"، علماً أن السلطات التي اعتقلتهن يمكن أن تحكم عليهن بالإعدام. 
ترغب فرنسا في نسيان وجود هؤلاء النساء، ولكن الإشكال المعلق هو موضوع أطفالهن، فالأم تمنح الجنسية الفرنسية لأولادها، وبحكم أن السياسة المتبعة في الأوساط الجهادية مرتبطة بالإنجاب بكثرة، فإن الأطفال المولودين هم بالمئات، بالإضافة للأطفال الذين أخذتهم عائلاتهم إلى سوريا، وفي حالات كثيرة خطفهم أحد الوالدين وسافر بهم والذين يكبرون اليوم في معسكرات اعتقال في مناطق مختلفة من سوريا والعراق، ويترعرعون وسط أجواء متشددة متطرفة، ومعظمهم لم يعرف سوى الحرب في حياته، وبعضهم شهد إعدامات ميدانية.
لا يبدو أن الدولة الفرنسية تمتلك خطة واضحة ودقيقة لإعادة دمجهم في حال عودتهم في المجتمع الفرنسي، رغم أن الكاتبتين توضحان أن بعض الإجراءات اتخذت وأن الوضع أصبح أفضل بالمقارنة مع حالات الأطفال الأولى الذين أودعوا مع أفراد من عائلتهم لا يعرفونهم دون أي متابعة بعد اعتقال أهلهم العائدين بهم. 
يناقش الكتاب أيضاً جمعيات مكافحة التطرف التي توالدت كالفطر في فرنسا وبلجيكا، والتي ادعى بعضها بداية امتلاك عصا سحرية تستطيع من خلالها عكس عملية "غسيل الدماغ" التي يتعرض لها المتطرفون، وإمكانية إعادتهم "لطبيعتهم" خلال أشهر قليلة، مع بعض الأمثلة لحالات الفشل الحاد في معالجة الصدمة والحالات النفسية المعقدة التي يواجهها العائد من الحرب المنتمي لتيار شديد التطرف وشهد أعمالاً عنفية ومعارك وقتالاً.

 تخيلت "المجاهدة" الفرنسية وهي تعبث بأغراض بيت جدتي، وتسير في شوارع الميادين حيث ينكل زوجها بأهلي من أبناء المدينة

قرأت كل الكتاب وأنا مندهشة بالحالات التي يعرضها، ولم أفهم كيف ترمي هؤلاء النساء أنفسهن في حرب، لم نتوقف نحن السوريون عن محاولة الهرب منها، ولم يغادرني الشعور بأنهن شريكات في سرقة ثورتنا وحلم حريتنا، وازداد شعوري بالمرارة حدة حين صعقتني جملة في الصفحة السادسة والتسعين من الكتاب: "ستيفاني في الميادين"، الميادين مدينة جدي وجدتي، حيث بنت جدتي منزلها الذي أصرت أن توضب فيه تحفها الصغيرة التي جمعتها من كل مكان في العالم وأن تعرضها في خزانة زجاجية في الصالون. تخيلت "المجاهدة" الفرنسية وهي تعبث بأغراض بيت جدتي، وتسير في شوارع الميادين حيث ينكل زوجها بأهلي من أبناء المدينة. 

لم أفهم كيف ترمي هؤلاء النساء أنفسهن في حرب، لم نتوقف نحن السوريون عن محاولة الهرب منها

ظننت أن الكتاب ناقش الاقتصاص من النساء على ما ارتكبنه بحق عائلاتهن وبلدهن فرنسا، ولم يناقش المحاسبة على الجرائم التي ارتكبها التنظيم الإرهابي في سوريا. تذكرت ابن العم فريد، الذي أعدمته عصابات داعش في الميادين، فكرت بحقه وحق عائلته الذي لم يذكره أحد، ولكن إيديت بوفيه لم تنس فريد وكل سوري، فقالت في شكرها النهائي إن الكتاب تكريم للشعب السوري الذي شاهد بلاده تتمزق على يد جيش النظام وحلفائه ومن ثم على يد الجهاديين ومن يحاربهم. وختمت بتمنيها أن يسترجعوا حيواتهم ومنازلهم، ثم ألحقت كل ذلك بأمنية أخيرة: أن نستطيع جميعاً أن نعود يوماً ما معاً إلى حمص.

بانتظار اللقاء الموعود في سوريا الحرة ليس لنا إلا مراجعة كل الحكاية ومحاولة تفكيكها وفهمها على أمل أن يكون لكل ما جرى معنى ما، وأن تبني كل تلك المراجعات طريقاً للعدالة وليس لمزيد من الظلم ولا لمزيد من رائحة الدم التي وصفتها الكاتبتان بأنها "عطر جهادي".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard