قبل التماس الهلال، تبدأ شركات الإنتاج بالتماس النصوص الدرامية التي ستدخل ميدان السباق الرمضاني. بعدها، يبدأ اختيار المخرج الأنسب الذي سيصنع من النص تحفةً دراميةً لا مثيل لها في عالم الفن، والذي بدوره يبدأ الأمر بكاستينغ وهمي يختار فيه الممثلين على أساس الصداقات والمصالح المشتركة، ضارباً بعرض الحائط مدى مناسبة الممثل للدور الذي سيؤديه، ثم تتبعها مرحلة تجميع المشاهد المحلّاة بالكثير من اللقطات العالية التي لا مبرر لها (سواء على صعيد الرؤية الإخراجية أو على صعيد متطلبات النص)، ويُضاف إليها القليل من الإفيهات والتيمات اللفظية، مع تكسير بعض القواعد، ورشّة من الإبهار، ليبدأ بعدها نشرُ صور للكادر الكامل من فنانين وفنيين في أجواء التصوير، ويترافق ذلك مع جوقة تسويقية وهمية مهمتها التطبيل أكثر من التسويق، وهكذا يكون قد اكتمل أدسم طبق من وصفة استغباء المشاهد.
ليس من الضروري أن يعلم المُشاهد حقّ العلم، وعلم اليقين، أن الحدث هو أساس البناء في العمل.
ليس من الضروري أن يقرأ المُشاهد كُتباً عن أنواع المشاهد واللقطات، وأبداً لا تتحتمُ عليهِ معرفة "الدوللي، من الترافيلينغ، من اللقطة القريبة والبعيدة"، وأيضاً ليس من مهمته تَعلم أصول السيناريو والحوار، كي يمسكَ ورقةً وقلماً ويسجل الإيجابيات والسلبيات ليثبت لجوقة صناعة الدراما أنه جديرٌ بحضور عمل يحترم عقله كشخصٍ في هذا القرن، حيث أُتيح له حضور السينما والدراما العالمية، ما يؤهله ببساطة لاكتشاف العمل الجيد من الرديء عن طريق ذائقته الفنية لا أكثر.
وأيضاً ليس من الضروري أن يعلم المشاهد حقّ العلم، وعلم اليقين، أن الحدث هو أساس البناء في العمل، لكنّه يستشعر ذلك ببساطة بذائقة فنية فطرية، تمّ اكتسابها من الخبرات المتراكمة من متابعته الحثيثة التي تؤهله لمعرفة الجيد من الرديء من الأعمال من دون أن يبذل أدنى جهد. لذا، فإن وجود أعمال بإمكانات ضخمة تفرض نفسها على الشاشة، تفتقر إلى عامود العمل الفقري (الحدث)، والرهان عليها بشدة من قبل صانعيها بأنها ستكون الأولى في هذا السباق، استهزاءٌ سافرٌ بذائقة المشاهدين.
ليس من الضروري أن يقرأ المُشاهد كُتباً عن أنواع المشاهد واللقطات، وأبداً لا تتحتمُ عليهِ معرفة "الدوللي، من الترافيلينغ، من اللقطة القريبة والبعيدة"، وأيضاً ليس من مهمته تَعلم أصول السيناريو والحوار، كي يثبت لجوقة صناعة الدراما أنه جديرٌ بحضور عمل يحترم عقله كشخصٍ
هذا ونجد يوماً بعد يوم أن القناعة برداءة الإنتاج الفني على الصعيد العربي تتثبت بصلابة، فحجم الكوارث الفنية يتزايد بشكلٍ غير مسبوق، فمن الغباء عرض حقبة زمنية من خيال المؤلف ومحاولة إقناع المشاهد رغماً عنه بأن هذه الأحداث واقعية، وأنها كانت منتشرةً بكثرة في تلك الحقبة بالرغم من التناقض الصارخ بين الأحداث والنسيج الاجتماعي المنسوبة إليه، فمن يسمح لهؤلاء بتزوير المغالطات ونشرها وفبركة الحقائق؟
هذا ولا نغفل الحديث عن حال الحوارات في الأعمال الدرامية، فقد جاءت حوارات واضحة وشارحة ومباشرة يمكن الاستغناء عنها من دون أن تخلّ بالمعنى والسياق، وهي بعيدة عن محاولة تعرية الواقع وأقرب إلى نسخه كما هو بطريقة تكاد تبعده عن الإبداع. فأي متعةٍ فنية سيجنيها المُشاهد من حوارات هي أقرب إلى حديث الجارات؟ وأي فائدة هي تلك التي سيجنيها في حياته لو أنه شاهد عملاً فنياً يحاكي حياته اليومية في مواقف واقعية تتحول بفعل فهم خطأ أو نقلٍ خطأ إلى مواقف أبعد من أن تكون واقعيةً؟ وفي حال اقترب النص من الواقعية، نراه يحاول في كلِ ثانية فيه أن يُذكّر بالمعاناة، وقرف الحياة، وتعاستها، من دون طرح حلول أو محاولة تجميل الواقع أو التحايل عليه.
لذا نجد أن الدراما تخرج في النهاية بمواضيعٍ تنمُّ عن صعوبة في الموازنة بين الخلق الدرامي والواقع، فإذا كانت مهمة العمل الفنية تحقيق المتعة والفائدة، فإنه وحسب ما سبق لا متعة ستُجنى من العمل ولا فائدة.
من يتحمل مسؤولية هذه الرداءة التي تفسد الذوق الفني العام؟ وإلى متى سيتم استغباء المشاهد بهذه الطرق؟
فمن يتحمل مسؤولية هذه الرداءة التي تفسد الذوق الفني العام؟
وإلى متى سيتم استغباء المشاهد بهذه الطرق؟
أما عن الفصل الأخير في هذه المعمعة الدرامية، والعرس الفني الذي يعاني من خللٍ في ضبط الإيقاع، فنجد أن صُنّاع العمل يقفون في وجه النقد بالمرصاد، فما أن تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي آراء سلبية عدة متشابهة سواء كانت رافضةً لبعض تفاصيل العمل، أو ناقدةً لجزءٍ منه، أو معرّيةً أخطاءه المتخفية خلف بهرجة الإخراج، حتى ينبري صُنّاع العمل ابتداءً من الكاتب والمخرج والممثلين وصولاً إلى الفنيين ليردوا على النقد بهجومٍ لاذعٍ مدّعين أن الجمهور جاهل بماورائيات الإبداع الفني، ويفتقرُ إلى التعليم الأكاديمي والفني، ولا يصلُ إلى جزء صغيرٍ من الذائقة الفنية الأجنبية، لتشعر للحظة أنّ عليهم أن يكتبوا في شارة البداية: "العمل موجه إلى المطبلين فحسب".
وكأن العمل الفني ليس موجهاً بالدرجة الأولى إلى الجمهور الذي يعتمد على الفن كوسيلة للتسلية في الشهر الديني الذي يشكل حالةً خاصةً في حياة الإنسان، ودورة حياة الأعمال الفنية على السواء.
نجد يوماً بعد يوم أن القناعة برداءة الإنتاج الفني على الصعيد العربي تتثبت بصلابة، فحجم الكوارث الفنية يتزايد بشكلٍ غير مسبوق، فمن الغباء عرض حقبة زمنية من خيال المؤلف ومحاولة إقناع المشاهد رغماً عنه بأن هذه الأحداث واقعية
لذا يجب على صُنّاع الفن أن يلقوا على مسامعهم التعويذة التالية، ويكرروها يومياً قبل صناعة العمل بأشهر:
المُشاهد هو الناقد الأول للعمل، وهو ناقدٌ غير أكاديمي في الكثير من الأحيان، لكنه يمتلك ذائقةً فنيةً من الطراز الرفيع تؤهله للحكم على العمل الجيد والرديء، وأن المُشاهد قادر على إعلاء شأن العمل أو العكس، لذا يجب صنع أعمال تليق بذائقة المُشاهد، وأبعد ما تكون عن استغبائه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...