الأمر بسيط؛ مسلسل من ست حلقات، يُعرض على منصة نتفلكس، مكتوب بشكل متماسك، بأداء تمثيلي موزون، وبإدارة مخرج استطاع أن يتحرر من تعلق المشاهد بماضي الحكاية الراسخة، وينقل الحاضر بخفة. تلك الخفة هي سمة مسلسل "البحث عن علا"، للمخرج هادي الباجوري، والمرتبطة عاطفياً بمسلسل "عايزة أتجوز"، للمخرج رامي إمام، على الرغم من إصرار فريق العمل على أن هذه الحلقات الست ليست لها علاقة به، مع أن كتابة العملين تعود إلى غادة عبد العال، مع مشاركة مها الوزير في النسخة الجديدة.
تثبت هند صبري دائماً وأبداً أنها مختلفة، ومن أفضل الممثلات العرب من بين جيلها، إذا لم تكن أفضلهنّ، وهي دائماً ذكية في خطواتها.
لكن الحقيقة أنه من الصعب فصله عن عمل كان يُعدّ من أنجح ما قدّمت الدراما العربية، لأسباب عديدة أهمها أن "علا عبد الصبور"، كانت تشبه الغالبية من الفتيات، بشكلها وبأزيائها، وطريقة عيشها المرتبطة بالطبقة الوسطى، إذ تقصد المواصلات العامة، وتصرخ على الجارات، وتراوغ وتحب وتتعثر وتحلم، وكل هذا جعل من "علا"، "في عايزة أتجوز"، صورةً ثابتةً، فكانت جملة أن "علا عبد الصبور"، في "البحث عن علا"، هي شخص آخر وليست مكملةً. ولعل السبب وراء ذلك، أن علا الجديدة بعد غياب 13 عاماً، ترتدي أزياءً جميلةً، وتعيش في منطقة راقية، وتقود سيارةً حديثةً، ولكن هذا ليس مدعاةً للاستغناء عن علا القديمة، لأنه من حقها بعد 13 عاماً، أن يكون مستوى حياتها قد تغيّر نحو الأفضل، خاصةً أنها فعلاً تزوجت من رجل ميسور الحال، وكل ما هو حول "علا" موجود بشكل كبير، حتى طريقة العرض في القصة متشابهة، فـ"عُلا" ما زالت تتحدث إلى المشاهدين بعد كل أزمة تمر بها، موجهةً نظرها إلى الكاميرا بطريقة جانبية.
لا توجد مقارنة بين العملين من حيث الشكل والمواضيع، فالقفزة التي حدثت في "البحث عن علا"، ترتبط أيضاً بشخص بطلته هند صبري، كمنتجة منفذة للعمل، وهذا يعطيها مساحةً أكبر في متابعة كل تفاصيل صناعة المسلسل، والجميل في الموضوع أنها لم تتصدر وحدها، بل هي أذكى من ذلك، فمساحات الدور لكل شخصية تمت بشكل متوازن، بحيث لا يطغى أحد على آخر، حتى على مستوى ضيوف الشرف، مثل خالد نبوي، وشيرين رضا، ويسرا، وفتحي عبد الوهاب، وغيرهم... كان لا بد من إعطاء هذا الزخم من حيث الحضور، لأنك أمام مواجهة ستحدث بين ثلاثة أجيال؛ جيل الأم سهير، والدة علا (سوسن بدر)، المتسلطة والمتحكمة وصاحبة الآراء البالية التي تختصر أي وجع بكلمة "استحملي"، التي ورثتها عن أمها، وجيل علا الأربعينية التي ما زالت تخاف من سهير، لكنها تنظر إلى ابنتها نادية (آيسل رمزي)، التي تمثّل الجيل الجديد مع صديقتها زينة (ياسمين العبد)، وترجوها بألا تكون نسخةً عنها، وتحررها معها.
في هذا العمل المميز، بعد "التحسس" من وجود نتفلكس إذا ما اقترن بعمل عربي، التأكيد على أن المشكلة ليست في المنصة، بل بما يقدَّم لتلك المنصة أو غيرها، فمثلاً "البحث عن علا"، يعتمد على نص سلس وذكي، اجتماعي، يستطيع أن يشاهده أفراد العائلة، فيه ما يشبه البوح
هذا بالنسبة إلى الشخصيات الرئيسة التي تتجمع في مكان واحد بعد أن قرر هشام (هاني عادل)، الانفصال عن "علا"، ليعيش المشاهد مرحلة منتصف العمر عند الرجال، و"البحث عن علا" في كل تفصيل، بعد حمل صفة مطلقة، مقرونةً بالاستعانة بصديقة الطفولة نسرين التي أدت دورها بتميّز (ندى موسى).
وهذه الاستعانة لم تكن عابرةً، بقدر ما هي نجدة تتعلق بماضٍ تعرف تفاصيله جيداً "نسرين"، وتدرك معنى أن تكون في حاضر علا عبد الصبور، فنسرين أيضاً قلبها مكسور، وتبحث عن ذاتها في السهر والحفلات والجنون المقرون بالاندفاع نحو قليل من الضحك، على الرغم من أنها فعلياً حزينة، وهذا ما يُسمّى بالهروب، لذلك التقاء الشخصيتين كان لا بد منه كي يدرك المتلقي معنى البحث عن الذات في كل شخص.
لذلك، مشروع علا الذي تقرره، وهي صيدلانية في الأساس، ليس هو المهم، بل هو الذي يجعلها تتعرف على محيطها الذي ابتعدت عنه بسبب تركها عملها واهتمامها بزوجها وأولادها نادية وسَليم وليس سِليم، وهي جملة تتكرر في الكثير من المشاهد.
كأن ليس لدينا كتّاب وكاتبات يستحقون أن يتم منحهم الفرصة، ليأتي مسلسل "البحث عن علا" ويؤكد لنا بأنه نعم نجحنا بقصتنا وكتّابنا.
تدخل علا عبد الصبور إلى مشروعها، مع دعم من مدرب متخصص في الطاقة، وتصادف منتصر (محمود الليثي)، المتخصص في الشم وتمييز العطور، ويصبح شريكها في مشروعها التجاري، وهو عملياً "ملح المسلسل"، بسبب خفة ظله، ودوره الجديد غير المألوف في الدراما العربية. كما أنه ثمة شخصية أخرى تلعب دوراً مفصلياً، ألا وهو والد زينة الأرمل، الذي يعتمد على علا في الاهتمام بابنته. دوره له علاقة بأن السعادة تكون قريبةً منك لكنك لا تراها، بالإضافة إلى شخصيات عديدة تظهر مرتبطةً بلغة الحاضر، مثل "إنفلونسر، التيندر، الميديتيشن، وكل هذه المصطلحات التي تتعرف عليها "علا" بعد قرارها البحث عن ذاتها، وإعطاء فرصة لمن حولها أيضاً لأن يعيدوا حساباتهم، تحديداً أمها التي سيجمع بينهما مشهد شديد الصعوبة بسبب الحوار فيه.
تعود "علا عبد الصبور" هذه المرة، بعد أن تركت الحي البسيط الذي تسكنه، وتحضر بين أبنائها الذين يتحدثون لغةً مختلطةً بين العربي والإنكليزي، وتحاول فهم مصطلحات عديدة لمجاراة الواقع، وتلفت الانتباه إلى معنى صراع الأجيال، إذا ما كان من توقيع نون النسوة، وتعرّج على معنى الصداقة في حضرة ضجيج السرعة، وتتأكد من أن الحياة والإقبال عليها لا يقترنان بعمر، لذلك كانت حريصةً على أن يكون وجه أمها هو الوجه الإعلاني لمنتجاتها السحرية، وتراقب من بعد وقرب أيضاً دقات قلب صغيرتها "نادية" نحو زميلها، وتحتضن صديقتها "زينة" التي فقدت أمها، وتتحمل مزاجيتها، وتعيد لنفسها الذكاء بتذكير كل من حولها بأنها كانت صيدلانيةً ودكتورة، وتمشي واثقة الخطوة ومتعثرةً أكثر، مكتشفةً ومتلذذةً، مراهقةً وناضجةً، والأهم من كل ذلك أنها تريد أن تتنفس، حتى لو قررت المضي وحدها.
في هذا العمل المميز، بعد "التحسس" من وجود نتفلكس إذا ما اقترن بعمل عربي، التأكيد على أن المشكلة ليست في المنصة، بل بما يقدَّم لتلك المنصة أو غيرها، فمثلاً "البحث عن علا"، يعتمد على نص سلس وذكي، اجتماعي، يستطيع أن يشاهده أفراد العائلة، فيه ما يشبه البوح، بحيث يستشعر المتلقي على اختلاف عمره، أنه جزء من الحكاية، فالسلاسة فيه، وخفة الظل أيضاً، وكذلك العمق في الطرح، وهي مقومات أساسية لنجاح أي مشروع درامي، وهذا عملياً ما نشتاق إليه في الدراما العربية، التي باتت تلجأ إلى تعريب القصص الأجنبية، وكأن ليس لدينا كتّاب وكاتبات يستحقون أن يتم منحهم الفرصة، ليأتي مسلسل "البحث عن علا" ويؤكد لنا بأنه نعم نجحنا بقصتنا وكتّابنا.
نحن أمام عمل مصنوع بشكل من الصعب أن نجد فيه زلةً، ومكتوب بذكاء، يعالج قضايا عديدةً، أهمها المرتبطة بالمرأة، وما يميزه أيضاً أنه قد يلفت انتباه المشاهدين غير الناطقين بالعربية، لأنه ببساطة يعتمد على حكاية قد تحدث في أي بيت مهما كان موقعه في العالم
مع أن بعض القصص استُوحيَت من تجارب أجنبية، خاصةً المتعلقة بعالم "تيندر"، إلا أن القصة فيه تشبه إلى حد ما قصة الشخصية الرئيسية في الفيلم التسجيلي The tinder swindler، لكن من الممكن أن تكون توارد خواطر، خاصةً أن موضوع تيندر لم يتم طرحه سابقاً بشكل مباشر كما "في البحث عن علا".
في المحصلة، نحن أمام عمل مصنوع بشكل من الصعب أن نجد فيه زلةً، ومكتوب بذكاء، يعالج قضايا عديدةً، أهمها المرتبطة بالمرأة، وما يميزه أيضاً أنه قد يلفت انتباه المشاهدين غير الناطقين بالعربية، لأنه ببساطة يعتمد على حكاية قد تحدث في أي بيت مهما كان موقعه في العالم، وهند صبري تثبت دائماً وأبداً أنها مختلفة، ومن أفضل الممثلات العرب من بين جيلها، إذا لم تكن أفضلهنّ، وهي دائماً ذكية في خطواتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...